Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 23-28)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه أربع وعشرون مسألة : الأولى : قوله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } مشى موسى عليه السلام حتى ورد ماء مدين أي بلغها . ووروده الماء معناه بلغه لا أنه دخل فيه . ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود ، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل . فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه ومنه قول زهير : @ فَلمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمَامُهُ وَضَعْن عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيمِ @@ وقد تقدّمت هذه المعاني في قوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] . ومدين لا تنصِرف إذ هي بلدة معروفة . قال الشاعر : @ رُهبانُ مدينَ لو رأوكِ تَنَزَّلُوا والعُصْمُ من شَعَفِ الجبالِ الفَادِرِ @@ وقيل : قبيلة من ولد مدين بن إبراهيم وقد مضى القول فيه في « الأعراف » . والأمة : الجمع الكثير . و { يَسْقُونَ } معناه ماشيتهم . و { مِن دُونِهِمُ } معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها ، فوصل إلى المرأتين قبل وصوله إلى الأمّة ، ووجدهما تذودان ومعناه تمنعان وتحبسان ، ومنه قوله عليه السلام : " فلَيُذَادَنَّ رجالٌ عن حوضي " وفي بعض المصاحف : { امرأتين حابستين تذودان } يقال : ذاد يذود إذا حبس . وذُدت الشيء حبسته قال الشاعر : @ أَبِيت على باب القَوَافِي كأنَّمَا أذُودُ بها سِرْباً من الوحشِ نُزَّعَا @@ أي أحبس وأمنع . وقيل : { تَذُودَانِ } تطردان قال : @ لقد سَلبتْ عصاك بنو تميم فما تَدْرِي بأيِّ عصاً تَذُودُ @@ أي تطرد وتكفّ وتمنع . ابن سلام : تمنعان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس فحذف المفعول : إما إيهاماً على المخاطب ، وإما استغناء بعلمه . قال ابن عباس : تذودان غنمهما عن الماء خوفاً من السقاة الأقوياء . قتادة : تذودان الناس عن غنمهما قال النحاس : والأوّل أولى لأن بعده { قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس لم تخبرا عن سبب تأخير سقيهما حتى يصدر الرعاء . فلما رأى موسى عليه السلام ذلك منهما { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي شأنكما قال رؤبة : @ يا عَجباً ما خَطْبُه وخَطبِي @@ ابن عطية : وكان استعمال السؤال بالخَطْب إنما هو في مصاب ، أو مضطهد ، أو من يشفق عليه ، أو يأتي بمنكر من الأمر ، فكأنه بالجملة في شر فأخبرتاه بخبرهما ، وأن أباهما شيخ كبير فالمعنى : لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه ، وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا تقدران على مزاحمة الأقوياء ، وأن عادتهما التأنّي حتى يُصدِر الناسُ عن الماء ويخلى وحينئذٍ تَرِدان . وقرأ ابن عامر وأبو عمرو : { يَصْدُرَ } من صَدَرَ ، وهو ضد وَرَدَ أي يرجع الرِّعاء . والباقون { يُصْدِرَ } بضم الياء من أصدر أي حتى يصدروا مواشيهم من وِرْدهم . والرِّعاء جمع راع مثل تاجر وتِجار ، وصاحب وِصحاب . قالت فرقة : كانت الآبار مكشوفة ، وكان زحْم الناس يمنعهما ، فلما أراد موسى أن يسقي لهما زَحَم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى ، فعن هذا الغَلَب الذي كان منه وصفته إحداهما بالقوّة . وقالت فرقة : إنهما كانتا تتبعان فُضَالتهم في الصّهاريج ، فإن وجدتا في الحوض بقية كان ذلك سقيهما ، وإن لم يكن فيه بقية عطشت غنمهما ، فرَقَّ لهما موسى ، فعمد إلى بئر كانت مغطّاة والناس يسقون من غيرها ، وكان حَجَرها لا يرفعه إلا سبعة ، قاله ابن زيد . ابن جريج : عشرة . ابن عباس : ثلاثون . الزجاج : أربعون فرفعه . وسقى للمرأتين فعن رفع الصخرة وصفته بالقوّة . وقيل : إن بئرهم كانت واحدة ، وأنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة ، إذا كانت عادة المرأتين شرب الفضلات . روى عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه قال : لما استقى الرعاة غطوا على البئر صخرة لا يقلعها إلا عشرة رجال ، فجاء موسى فاقتلعها واستقى ذَنُوباً واحداً لم تحتج إلى غيره فسقى لهما . الثانية : إن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب صلى الله عليه وسلم أن يرضى لابنيته بسقي الماشية ؟ قيل له : ليس ذلك بمحظور والدين لا يأباه وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك ، والعادة متباينة فيه ، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو غير مذهب الحضر ، خصوصاً إذا كانت الحالة حالة ضرورة . الثالثة : قوله تعالى : { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ } إلى ظل سَمُرَة قاله ابن مسعود . وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله : { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } وكان لم يذق طعاماً سبعة أيام ، وقد لصق بطنه بظهره فعرض بالدعاء ولم يصرح بسؤال هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله فالخير يكون بمعنى الطعام كما في هذه الآية ، ويكون بمعنى المال كما قال : { إِن تَرَكَ خَيْراً } [ البقرة : 180 ] وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ويكون بمعنى القوّة كما قال : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } [ الدخان : 37 ] ويكون بمعنى العبادة كقوله : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ } [ الأنبياء : 73 ] قال ابن عباس : وكان قد بلغ به الجوع ، واخضرّ لونه من أكل البقل في بطنه ، وإنه لأكرم الخلق على الله . ويروى أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدميه . وفي هذا معتبر وإشعار بهوان الدنيا على الله . وقال أبو بكر بن طاهر في قوله : { إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أي إني لما أنزلت من فضلك وغناك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك . قلت : ما ذكره أهل التفسير أولى فإن الله تعالى إنما أغناه بواسطة شعيب . الرابعة : قوله تعالى : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ } في هذا الكلام اختصار يدلّ عليه هذا الظاهر قدّره ابن إسحاق : فذهبتا إلى أبيهما سريعتين ، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي ، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما ، فأمر الكبرى من بنتيه وقيل الصغرى أن تدعوه له ، { فَجَاءَتْ } على ما في هذه الآية . قال عمرو ابن ميمون : ولم تكن سَلْفَعاً من النساء ، خَرّاجة وَلاّجة . وقيل : جاءته ساترة وجهها بكم دِرعها قاله عمر بن الخطاب . وروي أن اسم إحداهما ليا والأخرى صفوريا ابنتا يثرون ، ويثرون هو شعيب عليه السلام . وقيل : ابن أخي شعيب ، وأن شعيباً كان قد مات . وأكثر الناس على أنهما ابنتا شعيب عليه السلام ، وهو ظاهر القرآن ، قال الله تعالى : { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ] كذا في سورة « الأعراف » وفي سورة الشعراء : { كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ ٱلْمُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } [ الشعراء : 176 177 ] قال قتادة : بعث الله تعالى شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين . وقد مضى في « الأعراف » الخلاف في اسم أبيه . فروي أن موسى عليه السلام لما جاءته بالرسالة قام يتبعها ، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال ، فهبت ريح فضمت قميصها فوصفت عجيزتها ، فتحرّج موسى من النظر إليها فقال : ارجعي وأرشديني إلى الطريق بصوتك . وقيل : إن موسى قال ابتداء : كوني ورائي فإني رجل عبرانيّ لا أنظر في أدبار النساء ، ودلّيني على الطريق يميناً أو يساراً فذلك سبب وصفها له بالأمانة قاله ابن عباس . فوصل موسى إلى داعيه فقص عليه أمره من أوّله إلى آخره فآنسه بقوله : { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون . وقرب إليه طعاماً فقال موسى : لا آكل إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً فقال شعيب : ليس هذا عوض السقي ، ولكن عادتي وعادة آبائي قِرى الضيف ، وإطعام الطعام فحينئذٍ أكل موسى . الخامسة : قوله تعالى : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ } دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة معلومة ، وكذلك كانت في كل ملة ، وهي من ضرورة الخليقة ، ومصلحة الخلطة بين الناس خلافاً للأصم حيث كان عن سماعها أصم . السادسة : قوله تعالى : { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ } الآية . فيه عرض الوليّ ابنته على الرجل وهذه سنة قائمة عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل ، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فمن الحسن عرض الرجل وليته ، والمرأة نفسها على الرجل الصالح ، اقتداء بالسلف الصالح . قال ابن عمر : لما تأيّمت حفصة قال عمر لعثمان : إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر الحديث انفرد بإخراجه البخاري . السابعة : وفي هذه الآية دليل على أن النكاح إلى الوليّ لا حظّ للمرأة فيه لأن صالح مدين تولاه ، وبه قال فقهاء الأمصار . وخالف في ذلك أبو حنيفة . وقد مضى . الثامنة : هذه الآية تدلّ على أن للأب أن يزوّج ابنته البكر البالغ من غير استئمار ، وبه قال مالك واحتج بهذه الآية ، وهو ظاهر قويّ في الباب ، واحتجاجه بها يدلّ على أنه كان يعوّل على الإسرائيليات كما تقدّم . وبقول مالك في هذه المسألة قال الشافعي وكثير من العلماء . وقال أبو حنيفة : إذا بلغت الصغيرة فلا يزوّجها أحد إلا برضاها لأنها بلغت حدّ التكليف فأما إذا كانت صغيرة فإنه يزوّجها بغير رضاها لأنه لا إذن لها ولا رضا بغير خلاف . التاسعة : استدل أصحاب الشافعي بقوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ } على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح . وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف عنه . وقال علماؤنا في المشهور : ينعقد النكاح بكل لفظ . وقال أبو حنيفة : ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد أما الشافعية فلا حجة لهم في الآية لأنه شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم . وأما أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حيّ فقالوا : ينعقد النكاح بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية ، قالوا : فكذلك النكاح . قالوا : والذي خصّ به النبي صلى الله عليه وسلم تعرى البُضْع من العوض لا النكاح بلفظ الهبة ، وتابعهم ابن القاسم فقال : إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظ عن مالك فيه شيئاً ، وهو عندي جائز كالبيع . قال أبو عمر : الصحيح أنه لا ينعقد نكاح بلفظ الهبة ، كما لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شيء من الأموال . وأيضاً فإن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشهادة عليه ، وهو ضدّ الطلاق فكيف يقاس عليه ! وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقد بقوله : أبحت لك وأحللت فكذلك الهبة . وقال صلى الله عليه وسلم : " استحللتم فروجهنّ بكلمة الله " يعني القرآن ، وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة ، وإنما فيه التزويج والنكاح ، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم . العاشرة : قوله تعالى : { إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } يدلّ على أنه عرض لا عقد لأنه لو كان عقداً لعيَّن المعقود عليها له لأن العلماء وإن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال : بعتك أحد عبديّ هذين بثمن كذا فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح . الحادية عشرة : قال مكيّ : في هذه الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حدّ أوّل الأمد ، وجعل المهر إجارة ، ودخل ولم ينقد شيئاً . قلت : فهذه أربع مسائل تضمنتها المسألة الحادية عشرة . الأولى : من الأربع مسائل ، قال علماؤنا : أما التعيين فيشبه أنه كان في ثاني حال المراوضة ، وإنما عرض الأمر مجملاً ، وعيّن بعد ذلك . وقد قيل : إنه زوّجه صفوريا وهي الصغرى . يروى عن أبي ذرّ قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأوفاهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى وهي التي جاءت خلفه وهي التي قالت : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } " قيل : إن الحكمة في تزويجه الصغرى منه قبل الكبرى وإن كانت الكبرى أحوج إلى الرجال أنه توقع أن يميل إليها لأنه رآها في رسالته ، وماشاها في إقباله إلى أبيها معها ، فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره . وقيل غير هذا والله أعلم . وفي بعض الأخبار أنه تزوّج بالكبرى حكاه القشيري . الثانية : وأما ذكر أوّل المدّة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه فإمّا رسماه ، وإلا فهو من أوّل وقت العقد . الثالثة : وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية ، وهو أمر قد قرّره شرعنا ، وجرى في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن رواه الأئمة وفي بعض طرقه : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تحفظ من القرآن " فقال : سورة البقرة والتي تليها قال : " فعلمها عشرين آية وهي امرأتك " واختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : فكرهه مالك ، ومنعه ابن القاسم ، وأجازه ابن حبيب وهو قول الشافعي وأصحابه قالوا : يجوز أن تكون منفعة الحرّ صداقاً كالخياطة والبناء وتعليم القرآن . وقال أبو حنيفة : لا يصح وجوّز أن يتزوّجها بأن يخدمها عبده سنة ، أو يسكنها داره سنة لأن العبد والدار مال ، وليس خدمتها بنفسه مالاً . وقال أبو الحسن الكرخي : إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز لقوله تعالى : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ النساء : 24 ] . وقال أبو بكر الرازي : لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فهما متنافيان . وقال ابن القاسم : ينفسخ قبل البناء ويثبت بعده . وقال أصبغ : إن نقد معه شيئاً ففيه اختلاف ، وإن لم ينعقد فهو أشد ، فإن ترك مضى على كل حال بدليل قصة شعيب قاله مالك وابن الموّاز وأشهب . وعوّل على هذه الآية جماعة من المتأخرين والمتقدمين في هذه النازلة قال ابن خوَيْزِمَنْدَاد . تضمّنت هذه الآية النكاح على الإجارة والعقد صحيح ، ويكره أن تجعل الإجارة مهراً ، وينبغي أن يكون المهر مالاً كما قال عز وجل : { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ } [ النساء : 24 ] . هذا قول أصحابنا جميعاً . الرابعة : وأما قوله : ودخل ولم ينقد فقد اختلف الناس في هذا هل دخل حين عقد أم حين سافر ؟ فإن كان حين عقد فماذا نقد ؟ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار قاله ابن القاسم . فإن دخل قبل أن ينقد مضى ، لأن المتأخرين من أصحابنا قالوا : تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب . على أنه إن كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة وإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز وإن كان مدى العمر بغير شرط . وأما إن كان بشرط فلا يجوز إلا أن يكون الغرض صحيحاً مثل التأهب للبناء وانتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة نصّ عليه علماؤنا . الثانية عشرة : في هذه الآية اجتماع إجارة ونكاح ، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال : الأوّل : قال في ثمانية أبي زيد : يكره ابتداء فإن وقع مضى . الثاني : قال مالك وابن القاسم في المشهور : لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده لاختلاف مقاصدهما كسائر العقود المتباينة . الثالث : أجازه أشهب وأصبغ . قال ابن العربي : وهذا هو الصحيح وعليه تدلّ الآية وقد قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع ، فأي فرق بين إجارة وبيع أو بين بيع ونكاح . فرع : وإن أصدقها تعليم شعر مباح صحّ قال المزني : وذلك مثل قول الشاعر : @ يقول العبد فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا @@ وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش كان كما لو أصدقها خمراً أو خنزيراً . الثالثة عشرة : قوله تعالى : { عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } جرى ذكر الخدمة مطلقاً وقال مالك إنه جائز ويحمل على العرف ، فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة ، وهو ظاهر قصة موسى ، فإنه ذكر إجارة مطلقة . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يجوز حتى يسمى لأنه مجهول . وقد ترجم البخاريّ : « باب من استأجر أجيراً فبيّن له الأجل ولم يبيّن له العمل » لقوله تعالى : { عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } . قال المهلّب : ليس كما ترجم لأن العمل عندهم كان معلوماً من سقي وحرث ورعي وما شاكل أعمال البادية في مهنة أهلها ، فهذا متعارف وإن لم يبيّن له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها مثل أن يقول له : إنك تحرث كذا من السنة ، وترعى كذا من السنة ، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية ، وإنما الذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدّة مجهولة ، والعمل مجهول غير معهود لا يجوز حتى يعلم . قال ابن العربي : وقد ذكر أهل التفسير أنه عيّن له رعية الغنم ، ولم يرو من طريق صحيحة ، ولكن قالوا : إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم ، فكان ما عُلم من حاله قائماً مقام التعيين للخدمة فيه . الرابعة عشرة : أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهوراً معلومة ، بأجرة معلومة ، لرعاية غنم معدودة فإن كانت معدودة معينة ، ففيها تفصيل لعلمائنا قال ابن القاسم : لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت ، وهي رواية ضعيفة جداً وقد استأجر صالح مدين موسى على غنمه ، وقد رآها ولم يشترط خلفاً وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تجوز لجهالتها وعوّل علماؤنا على العرف حسبما ذكرناه آنفاً وأنه يعطي بقدر ما تحتمل قوّته . وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدر قوّته ، وهو صحيح فإن صالح مدين علم قدر قوّة موسى برفع الحجر . الخامسة عشرة : قال مالك : وليس على الراعي ضمان وهو مصدَّق فيما هلك أو سرق لأنه أمين كالوكيل . وقد ترجم البخاري : « باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئاً يفسد فأصلح ما يخاف الفساد » وساق حديث كعب بن مالك عن أبيه : أنه كانت لهم غنم ترعى بسَلْع ، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتاً فكسرت حجراً فذبحتها به ، فقال لهم : لا تأكلوا حتى أسأل النبي أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه فأمره بأكلها قال عبد الله : فيعجبني أنها أمة وأنها ذبحت . قال المهلّب : فيه من الفقه تصديق الراعي والوكيل فيما ائتمنا عليه حتى يظهر عليهما دليل الخيانة والكذب وهذا قول مالك وجماعة . وقال ابن القاسم : إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة . وقال غيره : يضمن حتى يبين ما قال . السادسة عشرة : واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى الراعي على إناث الماشية بغير إذن أربابها فهلكت فقال ابن القاسم : لا ضمان عليه لأن الإنزاء من إصلاح المال ونمائه . وقال أشهب : عليه الضمان وقول ابن القاسم أشبه بدليل حديث كعب ، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده ، إن كان من أهل الصلاح ، وممن يعلم إشفاقه على المال وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتاً لما عرف من فسقه . السابعة عشرة : لم ينقل ما كانت أجرة موسى عليه السلام ولكن روى يحيـى بن سلاّم أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها ، فأوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلّهن . وقال غير يحيـى : بل جعل له كل بلقاء تولد له ، فولدن له كلهن بُلْقاً . وذكر القُشيري أن شعيباً لما استأجر موسى قال له : ادخل بيت كذا وخذ عصا من العصيّ التي في البيت ، فأخرج موسى عصا ، وكان أخرجها آدم من الجنة ، وتوارثها الأنبياء حتى صارت إلى شعيب ، فأمره شعيب أن يلقيها في البيت ويأخذ عصا أخرى ، فدخل وأخرج تلك العصا وكذلك سبع مرات كل ذلك لا تقع بيده غير تلك ، فعلم شعيب أن له شأناً فلما أصبح قال له : سق الأغنام إلى مفرق الطريق ، فخذ عن يمينك وليس بها عشب كثير ، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشباً كثيراً وتنِّيناً كبيراً لا يقبل المواشي ، فساق المواشي إلى مفرق الطريق ، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها ، فنام موسى وخرج التنِّين ، فقامت العصا وصارت شعبتاها حديداً وحاربت التنِّين حتى قتلته ، وعادت إلى موسى عليه السلام ، فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم ، والتنِّين مقتولاً فعاد إلى شعيب عشاء ، وكان شعيب ضريراً فمس الأغنام ، فإذا ، أثر الخِصب بادٍ عليها ، فسأله عن القصة فأخبره بها ، ففرح شعيب وقال : كل ما تلد هذه المواشي هذه السنة قالب لون أي ذات لونين فهو لك فجاءت جميع السخال تلك السنة ذات لونين ، فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة . وروى عُيَيْنة بن حِصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفّة فرجه " فقال له شعيب لك منها يعني من نتاج غنمه ما جاءت به قالب لون ليس فيها عَزُوزٌ ولا فَشُوشٌ ولا كَمُوشٌ ولا ضَبُوبٌ ولا ثَعُولٌ . قال الهروي : العزوز البكيئة مأخوذ من العزَاز وهي الأرض الصلبة ، وقد تعزَّزت الشاة . والفَشُوشُ التي يَنْفَشُ لبنُها من غير حلب وذلك لسعة الإحليل ، ومثله الفَتُوح والثّرُورُ . ومن أمثالهم : لأَفُشَّنَّكَ فَشَّ الْوَطْبِ أي لأخرجن غضبك وكبرك من رأسك . ويقال : فَشّ السِّقاءَ إذا أخرج منه الريح . ومنه الحديث : " إن الشيطان يَفُشّ بين ألْيَتيْ أحدِكم حتى يُخَيَّلَ إليه أنه أحدث " أي ينفخ نفخاً ضعيفاً . والكَمُوشُ : الصغيرة الضرع ، وهي الكميشة أيضاً سميت بذلك لانكماش ضرعها وهو تقلصه ومنه يقال : رجل كميش الإزار . والكَشُودُ مثل الكَموش . والضَّبُوبُ الضيقة ثقب الإحليل . والضَّبُّ الحَلْب بشدّة العصر . والثَّعُولُ الشاة التي لها زيادة حلمة وهي الثعل . والثَّعل زيادة السنّ ، وتلك الزيادة هي الرَّاءُول . ورجل أثعل . والثعل ضيق مخرج اللبن . قال الهروي : وتفسير قالب لون في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها . الثامنة عشرة : الإجارة بالعوض المجهول لا تجوز فإن ولادة الغنم غير معلومة ، وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولاد الغنم فيها قطعاً وعِدّتها وسلامة سخالها كديار مصر وغيرها ، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغَرَر ، ونهى عن المضامين والملاقيح . والمضامين ما في بطون الإناث ، والملاقيح ما في أصلاب الفحول وعلى خلاف ذلك قال الشاعر : @ مَلْـقُـوحَـة فـي بطـنِ نـابٍ حـامِـلِ @@ وقد مضى في سورة « الحجر » بيانه . على أن راشد بن معمر أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع . وقال ابن سيرين وعطاء : ينسج الثوب بنصيب منه وبه قال أحمد . التاسعة عشرة : الكفاءة في النكاح معتبرة واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب ، أو في بعض ذلك . والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات لقوله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] . وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريباً طريداً خائفاً وحيداً جائعاً عرياناً فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه ورأى من حاله ، وأعرض عما سوى ذلك . وقد تقدّمت هذه المسألة مستوعبة والحمد لله . الموفية عشرين : قال بعضهم : هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكراً لصداق المرأة ، وإنما كان اشتراطاً لنفسه على ما يفعله الأعراب فإنها تشترط صداق بناتها ، وتقول : لي كذا في خاصة نفسي ، وترك المهر مفوّضاً ونكاح التفويض جائز . قال ابن العربي : هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر ، وهو حرام لا يليق بالأنبياء فأمّا إذا اشترط الوليّ شيئاً لنفسه ، فقد اختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين : أحدهما : أنه جائز . والآخر : لا يجوز . والذي يصح عندي التقسيم فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكراً أو ثيباً فإن كانت ثيباً جاز لأن نكاحها بيدها ، وإنما يكون للوليّ مباشرة العقد ، ولا يمتنع أخذ العوض عليه كما يأخذه الوكيل على عقد البيع . وإن كانت بكراً كان العقد بيده ، وكأنه عوض في النكاح لغير الزوج وذلك باطل فإن وقع فُسِخ قبل البناء ، وثبت بعده على مشهور الرواية . والحمد لله . الحادية والعشرون : لما ذكر الشرط وأعقبه بالطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه ، ولم يلحق الآخر بالأوّل ، ولا اشترك الفرض والطوع ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها ، ثم يقال وتطوّع بكذا ، فيجري الشرط على سبيله ، والطوع على حكمه ، وانفصل الواجب من التطوّع . وقيل : ومن لفظ شعيب حسن في لفظ العقود في النكاح أنكحه إياها أولى من أنكحها إياه على ما يأتي بيانه في « الأحزاب » . وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطاً ، ووكل العاشرة إلى المروءة . الثانية والعشرون : قوله تعالى : { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } لما فرغ كلام شعيب قرّره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج . و { أَيَّمَا } استفهام منصوب بـ { ـقَضَيْتُ } و { الأَجَلَيْنِ } مخفوض بإضافة { أي } إليهما و { ما } صلة للتأكيد وفيه معنى الشرط وجوابه { فَلاَ عُدْوَانَ } وأن { عدوان } منصوب بـ { ـلا } . وقال ابن كيسان : { ما } في موضع خفض بإضافة { أي } إليها وهي نكرة و { الأَجَلَيْنِ } بدل منها . وكذلك في قوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 159 ] أي رحمة بدل من ما قال مكي : وكان يتلطف في ألا يجعل شيئاً زائداً في القرآن ، ويخرج له وجهاً يخرجه من الزيادة . وقرأ الحسن : « أَيْمَا » بسكون الياء . وقرأ ابن مسعود : { أَيَّ الأَجَلَيْنِ مَا قَضَيْتُ } . وقرأ الجمهور : { عُدْوَان } بضم العين . وأبو حَيْوة بكسرها والمعنى : لا تبعة عليّ ولا طلب في الزيادة عليه . والعدوان التجاوز في غير الواجب ، والحجج السنون . قال الشاعر : @ لمن الديار بِقنة الحجر أقوين من حِجج ومن دهر @@ الواحدة حجة بكسر الحاء . { وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } قيل : هو من قول موسى . وقيل : هو من قول والد المرأة . فاكتفى الصالحان صلوات الله عليهما في الإشهاد عليهما بالله ولم يشهدا أحداً من الخلق ، وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح وهي : الثالثة والعشرون : على قولين : أحدهما أنه لا ينعقد إلا بشاهدين . وبه قال أبو حنيفة والشافعي . وقال مالك : إنه ينعقد دون شهود لأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الإشهاد ، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح ، وفرق ما بين النكاح والسفاح الدُّفُّ . وقد مضت هذه المسألة في « البقرة » مستوفاة . وفي البخاري عن أبي هريرة : أن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلفه ألف دينار فقال ايتني بالشهداء أشهدهم ، فقال كفى بالله شهيداً فقال ايتني بكفيل فقال كفى بالله كفيلا . قال صدقت فدفعها إليه وذكر الحديث .