Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 6-6)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه تسع مسائل : الأولى : قوله تعالى : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } هذه الآية أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها : أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلّي على مَيّت عليه دَيْن ، فلما فتح الله عليه الفتوح قال : " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن تُوُفِّيَ وعليه دَين فعليّ قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته " أخرجه الصحيحان . وفيهما أيضاً " فأيكم ترك دَيْناً أو ضَياعاً فأنا مولاه " قال ابن العربيّ : فانقلبت الآن الحال بالذنوب ، فإن تركوا مالاً ضُويق العصبة فيه ، وإن تركوا ضياعاً أسلموا إليه فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم وتنبيهه ولا عِطْر بعد عَرُوس . قال ابن عطية : وقال بعض العلماء العارفين هو أوْلى بهم من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك ، وهو يدعوهم إلى النجاة . قال ابن عطية : ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام : " أنا آخِذ بحُجَزِكم عن النارِ وأنتم تقتحمون فيها تقحّم الفَراش " . قلت : هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها ، والحديث الذي ذُكر أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما مَثَلَي ومَثَل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفَراش يقعن فيه وأنا آخِذٌ بِحُجَزِكم وأنتم تَقَحّمُون فيه " وعن جابر مثله وقال : " وأنتم تَفَلَّتُون من يدي " قال العلماء : الْحُجْزَة للسراويل ، والمَعْقِد للإزار فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه . وهذا مثل لاجتهاد نبيَّنا عليه الصلاة والسلام في نجاتنا ، وحرصه على تخلّصنا من الهلكات التي بين أيدينا فهو أوْلى بنا من أنفسنا ولجهلنا بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا وظفر عدوّنا اللعين بناصِرنا أحقر من الفِراش وأذلّ من الفَراش ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم ! وقيل : أولى بهم أي أنه إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أوْلى . وقيل : أولى بهم أي هو أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم أي فيما يحكمون به لأنفسهم مما يخالف حكمه . الثانية : قال بعض أهل العلم : يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداءً بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال : " فعليّ قضاؤه " والضَّياع بفتح الضاد مصدر ضاع ، ثم جعل اسماً لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم ، ومال لا قَيّم له . وسمّيت الأرض ضَيعة لأنها معرّضة للضياع ، وتجمع ضِياعاً بكسر الضاد . الثالثة : قوله تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } شرّف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي في وجوب التعظيم والمبرّة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال ، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات . وقيل : لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات ، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثاً كأمومة التَّبنِّي . وجاز تزويج بناتهن ، ولا يجعلن أخوات للناس . وسيأتي عدد أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في آية التخيير إن شاء الله تعالى . واختلف الناس هل هنّ أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة على قولين : فروى الشعبيّ عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها : يا أمّة فقالت لها : لست لك بأمّ ، إنما أنا أمّ رجالكم . قال ابن العربي : وهو الصحيح . قلت : لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء ، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء . يدلّ عليه صدر الآية : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورةً . ويدلّ على ذلك حديث أبي هريرة وجابر فيكون قوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } عائداً إلى الجميع . ثم إن في مصحف أُبيّ بن كعب « وأزواجه أمهاتهم وهو أبٌ لهم » . وقرأ ابن عباس : « من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم » . وهذا كلّه يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح ، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص ، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم . والله أعلم . الرابعة : قوله تعالى : { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } قيل : إنه أراد بالمؤمنين الأنصار ، وبالمهاجرين قريشاً . وفيه قولان : أحدهما : أنه ناسخ للتوارث بالهجرة . حكى سعيد عن قتادة قال : كان نزل في سورة الأنفال { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] فتوارث المسلمون بالهجرة فكان لا يرث الأعرابيّ المسلم من قريبه المسلم المهاجِر شيئاً حتى يهاجر ، ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله : { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } . الثاني : أن ذلك ناسخ للتوارث بالحِلف والمؤاخاة في الدِّين روى هشام بن عُروة عن أبيه عن الزبير : { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نِعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم فآخى أبو بكر خارجة بن زيد ، وآخيت أنا كعب بن مالك ، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورِثه غيري ، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فرجعنا إلى موارثنا . وثبت عن عُروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزّبير وبين كعب بن مالك ، فارْتُثّ كعب يوم أُحُدٍ فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته فلو مات يومئذٍ كعب عن الضِّح والريح لورثه الزبير ، فأنزل الله تعالى : { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } . فبيّن الله تعالى أن القرابة أوْلى من الحِلْف ، فتركت الوراثة بالحِلْف وورثوا بالقرابة . وقد مضى في « الأنفال » الكلام في توريث ذوي الأرحام . وقوله : { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } يحتمل أن يريد القرآن ، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه . و « مِنَ الْمُوْمِنِينَ » متعلق بـ « ـأَوْلَى » لا بقوله : { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ } بالإجماع لأن ذلك كان يوجب تخصيصاً ببعض المؤمنين ، ولا خلاف في عمومها ، وهذا حلّ إشكالها قاله ابن العربي . النحاس : { وَأُوْلُو ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } يجوز أن يتعلق « مِنَ الْمُوْمِنِينَ » بـ « ـأُولُو » فيكون التقدير : وَأُولُو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين . ويجوز أن يكون المعنى أوْلَى من المؤمنين . وقال المهدوِيّ : وقيل إن معناه : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُدعَين أمهات المؤمنين . والله تعالى أعلم . الخامسة : واختلف في كونهن كالأمهات في المَحْرَم وإباحة النظر على وجهين : أحدهما : هنّ مَحْرَم ، لا يحرم النظر إليهنّ . الثاني : أن النظر إليهن محرّم ، لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظاً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن ، وكان من حفظ حقّه تحريمُ النظر إليهن ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابناً لأختها من الرضاعة ، فيصير مَحْرَماً يستبيح النظر . وأما اللاتي طلقهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه : أحدها : ثبتت لهن هذه الحرمة تغليباً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثاني : لا يثبت لهن ذلك ، بل هن كسائر النساء لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن ، وقال : " أزواجي في الدنيا هنّ أزواجي في الآخرة " الثالث : من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها وحَرُم نكاحها وإن طلقها حفظاً لحرمته وحراسة لخلوته . ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة وقد همّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوّجت فقالت : لم هذا ! وما ضرب عَليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاباً ولا سُمّيت أمّ المؤمنين فكفّ عنها عمر رضي الله عنه . السادسة : قال قوم : لا يجوز أن يُسَمَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم أباً لقوله تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } . ولكن يقال : مِثل الأب للمؤمنين كما قال : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلِّمكم … " الحديث . خرجه أبو داود . والصحيح أنه يجوز أن يقال : إنه أبٌ للمؤمنين ، أي في الحرمة ، وقوله تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي في النسب . وسيأتي . وقرأ ابن عباس : « مِنْ أنفسهم وهو أبٌ لهم وأزواجه » . وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال : حُكمها يا غلام ؟ فقال : إنها في مصحف أُبيّ فذهب إليه فسأله فقال له أُبَيّ : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصَّفْق بالأسواق ؟ وأغلظ لعمر . وقد قيل في قول لوط عليه السلام { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } [ الحجر : 71 ] : إنما أراد المؤمنات أي تزوّجوهن . وقد تقدّم . السابعة : قال قوم : لا يقال بناته أخوات المؤمنين ، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم . قال الشافعيّ رضي الله عنه : تزوّج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة ، ولم يقل هي خالة المؤمنين . وأطلق قوم هذا وقالوا : معاوية خال المؤمنين يعني في الحرمة لا في النسب . الثامنة : قوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } يريد الإحسان في الحياة ، والوصية عند الموت أي إن ذلك جائز قاله قتادة والحسن وعطاء . وقال محمد بن الحنفِيّة ، نزلت في إجازة الوصية لليهوديّ والنّصرانيّ أي يفعل هذا مع الولِيّ والقريب وإن كان كافراً فالمشرك وَلِيّ في النسب لا في الدّين فيوصى له بوصية . واختلف العلماء هل يجعل الكافر وصيًّا فجوّز بعضٌ ومنع بعض . وردّ النظر إلى السلطان في ذلك بعض منهم مالك رحمه الله تعالى . وذهب مجاهد وابن زيد والرّماني إلى أن المعنى : إلى أوليائكم من المؤمنين . ولفظ الآية يَعْضُد هذا المذهب ، وتعميم الوليّ أيضاً حسن . وولاية النسب لا تدفع الكافر ، وإنما تدفع أن يلقى إليه بالموَدّة كولِيّ الإسلام . التاسعة : قوله تعالى : { كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً } « الْكتَابِ » يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في « كِتَابِ اللَّهِ » . و « مسْطُوراً » من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطاراً . وقال قتادة : أي مكتوباً عند الله عز وجل ألاّ يرث كافرٌ مسلماً . قال قتادة : وفي بعض القراءة « كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوباً » . وقال القُرَظِيّ : كان ذلك في التوراة .