Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 20-29)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ } هو حبيب بن مري وكان نجارا . وقيل : إسكافاً . وقيل : قصّاراً . وقال ٱبن عباس ومجاهد ومقاتل : هو حبيب بن إسرائيل النجار وكان يَنْحَت الأصنام ، وهو ممن آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة ، كما آمن به تُبّع الأَكبر وورَقة بن نوفل وغيرهما . ولم يؤمن بنبيّ أحدٌ إلا بعد ظهوره . قال وهب : وكان حبيب مجذوماً ، ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة ، وكان يَعكِفُ على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم ، لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره فما ٱستجابوا له ، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله فقال : هل من آية ؟ قالوا : نعم ، ندعو ربَّنا القادر فيفرج عنك ما بك . فقال : إن هذا لَعجب ! أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرِّج عني فلم تستطع ، فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة ؟ قالوا : نعم ، ربُّنا على ما يشاء قدير ، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر . فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به ، كأن لم يكن به بأس فحينئذٍ أقبل على التكسب ، فإذا أمسى تصدّق بكسبه ، فأطعم عياله نصفاً وتصدّق بنصف ، فلما همّ قومه بقتل الرسل جاءهم فـ { قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } الآية . وقال قتادة : كان يعبد الله في غارٍ ، فلما سمع بخبر المرسلين جاء يسعى ، فقال للمرسلين : أتطلبون على ما جئتم به أجراً ؟ قالوا : لا ما أجرنا إلا على الله . قال أبو العالية : فاعتقد صدقهم وآمن بهم وأقبل على قومه فـ « ـقَالَ يَا قَوْمِ ٱتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ » . { ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } أي لو كانوا متَّهَمين لطلبوا منكم المال { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } فاهتدوا بهم . { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } قال قتادة : قال له قومه أنت على دينهم ؟ ٰ فقال : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } أي خلقني . { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وهذا ٱحتجاج منه عليهم . وأضاف الفطرة إلى نفسه لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر ، والبعث إليهم لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر فكان إضافة النعمة إلى نفسه أظهر شكراً ، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثراً . { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } يعني أصناماً . { إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ } يعني ما أصابه من السقم . { لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ } يخلصوني مما أنا فيه من البلاء { إِنِّيۤ إِذاً } يعني إن فعلت ذلك { لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي خسران ظاهر . { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } قال ٱبن مسعود : خاطب الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم . ومعنى « فَاسْمَعُونِ » أي فٱشهدوا ، أي كونوا شهودي بالإيمان . وقال كعب ووهب : إنما قال ذلك لقومه إني آمنت بربكم الذي كفرتم به . وقيل : إنه لما قال لقومه { ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } رفعوه إلى الملك وقالوا : قد تبعت عدوّنا فطوّل معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل ، إلى أن قال : { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } فوثبوا عليه فقتلوه . قال ٱبن مسعود : وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره ، وأُلقي في بئر وهي الرَّسُّ وهم أصحاب الرَّسِّ . وفي رواية أنهم قتلوا الرسل الثلاثة . وقال السدي : رموه بالحجارة وهو يقول : اللهم ٱهدي قومي حتى قتلوه . وقال الكلبي : حفروا حفرة وجعلوه فيها ، وردموا فوقه التراب فمات ردما . وقال الحسن : حرقوه حرقاً ، وعلّقوه من سور المدينة وقبره في سور أنطاكية حكاه الثعلبي . وقال القشيري : وقال الحسن لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إلى السماء ، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة ، فإذا أعاد الله الجنة أُدخلها . وقيل : نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه ، فوالله ما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها فذلك قوله : { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } فلما شاهدها { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } أي بغفران ربي لي فـ « ـما » مع الفعل بمنزلة المصدر . وقيل : بمعنى الذي والعائد من الصلة محذوف . ويجوز أن تكون ٱستفهاماً فيه معنى التعجب ، كأنه قال ليت قومي يعلمون بأي شيء غفر لي ربي قاله الفرّاء . واعترضه الكسائي فقال : لو صحّ هذا لقال بِم من غير ألف . وقال الفراء : يجوز أن يقال بما بالألف وهو ٱستفهام وأنشد فيه أبياتاً . الزمخشري : « بِمَ غَفَرَ لِي » بطرح الألف أجود ، وإن كان إثباتها جائزاً يقال : قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت . المهدوي : وإثبات الألف في الاستفهام قليل . فيوقف على هذا على « يَعْلَمُونَ » . وقال جماعة : معنى قيل « ٱدْخُلِ الْجَنَّةَ » وجبت لك الجنة فهو خبر بأنه قد ٱستحق دخول الجنة لأن دخولها يُستحق بعد البعث . قلت : والظاهر من الآية أنه لما قُتل قيل له ٱدخل الجنة . قال قتادة : أدخله الله الجنة وهو فيها حيّ يرزق أراد قوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] على ما تقدم في « آل عمران » بيانه . والله أعلم . قوله تعالى : { قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قوله عند ذلك الفوز العظيم الذي هو { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } وقرىء « مِنَ الْمُكَرَّمِينَ » وفي معنى تمنيه قولان : أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته . الثاني تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله . قال ابن عباس : نصح قومه حياً وميتاً . رفعه القشيري فقال : وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية : " إنه نصح لهم في حياته وبعد موته " وقال ٱبن أبي ليلى : سُبَّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب وهو أفضلهم ، ومؤمن آل فرعون ، وصاحب يۤس ، فهم الصدّيقون ذكره الزمخشري مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي هذه الآية تنبيه عظيم ، ودلالة على وجوب كظم الغيظ ، والحلم عن أهل الجهل ، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي ، والتشمر في تخليصه ، والتلطف في ٱفتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه . ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام . فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة على قومه ، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم فذلك قوله : { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } أي ما أنزلنا عليهم من رسالة ولا نبيّ بعد قتله قاله قتادة ومجاهد والحسن . قال الحسن : الجند الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء . وقيل : الجند العساكر أي لم أحتج في هلاكهم إلى إرسال جنود ولا جيوش ولا عساكر بل أهلكهم بصيحة واحدة . قال معناه ابن مسعود وغيره . فقوله : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } تصغير لأمرهم أي أهلكناهم بصيحة واحدة من بعد ذلك الرجل ، أو من بعد رفعه إلى السماء . وقيل : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } على من كان قبلهم . الزمخشري : فإن قلت فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق ؟ فقال : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [ الأحزاب : 9 ] ، وقال : { آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 124 125 ] . قلت : إنما كان يكفي ملك واحد ، فقد أهلِكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل ، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة ، ولكن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم بكل شيء على سائر الأنبياء وأولي العزم من الرسل فضلاً عن حبيب النجار ، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحداً فمن ذلك أنه أنزل له جنوداً من السماء ، وكأنه أشار بقوله : { وَمَآ أَنزَلْنَا } . { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك ، وما كنا نفعل لغيرك . { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } قراءة العامة « وَاحِدَةً » بالنصب على تقدير ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة . وقرأ أبو جعفر بن القَعْقَاع وشيبة والأعرج : « صَيْحَةٌ » بالرفع هنا ، وفي قوله { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } جعلوا الكون بمعنى الوقوع والحدوث فكأنه قال : ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة . وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث فهو ضعيف كما تكون ما قامت إلا هندٌ ضعيفاً من حيث كان المعنى ما قام أحد إلا هند . قال أبو حاتم : فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال : إن كان إلا صيحةٌ . قال النحاس : لا يمتنع شيء من هذا ، يقال : ما جاءتني إلا جاريتك ، بمعنى ما جاءتني ٱمرأة أو جارية إلا جاريتك . والتقدير في القراءة بالرفع ما قاله أبو إسحاق ، قال : المعنى إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة ، وقدّره غيره : ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة . وكان بمعنى وقع كثير في كلام العرب . وقرأ عبد الرحمن بن الأسود ويقال إنه في حرف عبد الله كذلك « إنْ كَانَتْ إِلاَّ زَقْيَةً وَاحِدَةً » . وهذا مخالف للمصحف . وأيضاً فإن اللغة المعروفة زَقَا يَزْقو إذا صاح ، ومنه المثل : أثقلُ من الزَّوَاقي فكان يجب على هذا أن يكون زَقْوة . ذكره النحاس . قلت : وقال الجوهري : الزَّقْو والزَّقْي مصدر ، وقد زَقَا الصدى يَزقْو زقاء : أي صاح ، وكل صائح زاقٍ ، والزَّقْية الصّيحة . قلت : وعلى هذا يقال : زَقْوة وزَقْية لغتان فالقراءة صحيحة لا ٱعتراض عليها . والله أعلم . { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } أي ميتون هامدون تشبيهاً بالرماد الخامد . وقال قتادة : هلكى . والمعنى واحد .