Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 19-22)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } بيّن مَن الذي يطوف عليهم بالآنية أي ويخدمهم ولدان مُخلَّدون ، فإنهم أخفُّ في الخدمة . ثم قال : { مُّخَلَّدُونَ } أي باقون على ما هم عليه من الشَّباب والغَضَاضة والحُسْن ، لا يَهْرَمون ولا يتغيّرون ، ويكونون على سنّ واحدة على مَر الأزمنة . وقيل : مُخلَّدون لا يموتون . وقيل : مُسوَّرون مُقَّرطون أي مُحلَّون والتخليد التحلية . وقد تقدم هذا . { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } أي ظننتهم من حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم : لؤلؤاً مفرقاً في عَرْصة المجلس ، واللؤلؤ إذا نُثِر على بساط كان أحسن منه منظوماً . وعن المأمون أنه ليلة زُفَّت إليه بُوران بنت الحسن بن سهل ، وهو على بساط منسوج من ذهب ، وقد نَثَرت عليه نساءُ دار الخليفة اللؤلؤَ ، فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط فٱستحسن المنظر وقال : للَّهِ دَرُّ أبي نُواس كأنه أبصر هذا حيث يقول : @ كأنَّ صُغْرى وكُبْرىَ من فَقَاقِعها حَصْبَاءُ دَرٍّ على أرضٍ مِنَ الذَّهَبِ @@ وقيل : إنما شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة ، بخلاف الحور العين إذ شبههنّ باللؤلؤ المكنون المخزون لأنهنّ لا يُمتهنَّ بالخدمة . قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } « ثَمَّ » : ظرف مكان أي هناك في الجنة ، والعامل في « ثَمَّ » معنى « رَأَيْتَ » أي وإذا رأيت ببصرك « ثَمَّ » . وقال الفرّاء : في الكلام « ما » مضمرة أي وإذا رأيت ما ثَمّ كقوله تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] أي ما بينكم . وقال الزجاج : « ما » موصولة بـ « ـثم » على ما ذكره الفرّاء ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصّلة ، ولكن « رَأَيْتَ » يتعدّى في المعنى إلى « ثَمَّ » والمعنى : إذا رأيت ببصرك « ثَمَّ » ويعني بـ « ـثَمَّ » الجنة ، وقد ذكر الفرّاء هذا أيضاً . والنعيم : سائر ما يُتنعمّ به . والمُلْك الكبير : ٱستئذان الملائكة عليهم قاله السُّديّ وغيره . قال الكلبيّ : هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكُسْوة والطعام والشراب والتحف إلى وليّ الله وهو في منزله ، فيستأذن عليه فذلك المُلْك العظيم . وقاله مقاتل بن سليمان . وقيل : المُلْك الكبير : هو أن يكون لأحدهم سبعون حاجباً ، حاجباً دون حاجب ، فبينما وليّ الله فيما هو فيه من اللذة والسرور إذ يستأذن عليه مَلَك من عند الله ، قد أرسله الله بكتاب وهدية وتحفةٍ من ربّ العالمين لم يرها ذلك الوليّ في الجنة قطّ ، فيقول للحاجب الخارج : ٱستأذن علي وليّ الله فإن معي كتاباً وهدية من ربّ العالمين . فيقول هذا الحاجب للحاجب الذي يليه : هذا رسول من ربِّ العالمين ، معه كتاب وهديّة يستأذن على وليّ الله فيستأذن كذلك حتى يبلغ إلى الحاجب الذي يلي وليّ الله فيقول له : يا وليّ الله ! هذا رسول من ربّ العالمين يستأذن عليك ، معه كتاب وتُحْفة من ربّ العالمين أفيؤذن له ؟ فيقول : نعم ! فأذنوا له . فيقول ذلك الحاجب الذي يليه : نَعَم فأذنوا له . فيقول الذي يليه للآخر كذلك حتى يبلغ الحاجب الآخر ، فيقول له : نَعَم أيها المَلَك قد أذن لك ، فيدخل فيسلّم عليه ويقول : السَّلامُ يُقرئك السَّلام ، وهذه تحفة ، وهذا كتاب من رب العالمين إليك . فإذا هو مكتوب عليه : من الحيّ الذي لا يموت ، إلى الحيّ الذي يموت . فيفتحه فإذا فيه : سلام على عبدي ووليي ورحمتي وبركاتي . يا وليي أما آن لك أن تشتاق إلى رؤية ربّك ؟ فيستخفه الشوق فيركب البُرَاق فيطير به البُرَاق شوقاً إلى زيارة علام الغيوب ، فيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وقال سفيان الثوريّ : بلغنا أن المُلْك الكبير تسليم الملائكة عليهم دليله قوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } [ الرعد : 24 ] وقيل : المُلْك الكبير كون التّيجان على رؤوسهم كما تكون على رأس ملك من الملوك . وقال الترمذيّ الحكيم : يعني مُلْك التكوين ، فإذا أرادوا شيئاً قالوا له كن . وقال أبو بكر الورّاق : مُلْك لا يتعقبه هُلْك . وفي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إنّ الملك الكبير هو أنّ أدناهم منزلة ينظر في مُلْكه مسيرة ألفي عام ، يَرَى أقصاه كما يرى أدناه " قال : " وإن أفضلهم منزلة مَن ينظر في وجه ربّه تعالى كل يوم مرتين " سبحان المنعم . قوله تعالى : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } قرأ نافع وحمزة وٱبن محيصن « عالِيهِم » ساكنة الياء ، وٱختاره أبو عبيد ٱعتباراً بقراءة ٱبن مسعود وٱبن وثاب وغيرهما « عَالِيَتُهُمْ » وبتفسير ٱبن عباس : أما رأيت الرجل عليه ثيابٌ يعلوها أفضل منها . الفراء : وهو مرفوع بالابتداء وخبره « ثِيَابُ سُنْدُسٍ » وٱسم الفاعل يراد به الجمع . ويجوز في قول الأخفش أن يكون إفراده على أنه اسم فاعل متقدّم و « ثيابُ » مرتفعة به وسَدّت مسدّ الخبر ، والإضافة فيه في تقدير الانفصال لأنه لم يَخُصّ ، وٱبتدىء به لأنه ٱختصّ بالإضافة . وقرأ الباقون « عَالِيَهُمْ » بالنصب . وقال الفراء : هو كقولك فَوْقَهم ، والعرب تقول : قومُك داخلَ الدارِ فينصبون داخل على الظرف ، لأنه مَحلّ . وأنكر الزجاج هذا وقال : هو مما لا نعرفه في الظروف ، ولو كان ظرفاً لم يجز إسكان الياء ، ولكنه بالنصب على الحال من شيئين : أحدهما الهاء والميم في قوله : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ } أي على الأبرار « وِلْدَانٌ » { وِلْدَانٌ } عالياً الأبرارَ ثيابُ سندسٍ أي يطوف عليهم في هذه الحال ، والثاني أن يكون حالاً من الولدان أي { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } في حال علوّ الثياب أبدانهم . وقال أبو عليّ : العامل في الحال إمّا { لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } وإمّا { جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } قال : ويجوز أن يكون ظرفاً فصُرِف . المهدوي : ويجوز أن يكون ٱسم فاعل ظرفاً كقولك هو ناحيةً من الدار ، وعلى أن عالياً لما كان بمعنى فوق أُجْرِي مُجْراه فجعل ظرفاً . وقرأ ٱبن محيصن وٱبن كثير وأبو بكر عن عاصم « خُضْرٍ » بالجر على نعت السُّنْدُس { وَإِسْتَبْرَقٌ } بالرفع نَسْقاً على الثياب ، ومعناه عاليهم ثيابُ سندسٍ وإستبرقٌ . وقرأ ٱبن عامر وأبو عمرو ويعقوب « خُضْرٌ » رفعاً نعتاً للثياب « وَإِسْتَبْرَقٍ » بالخفض نعتاً للسُّنْدس ، وٱختاره أبو عُبيد وأبو حاتم لجودة معناه لأن الخضر أحسن ما كانت نعتاً للثياب فهي مرفوعة ، وأحسن ما عطف الإستبرق على السُّنْدس عطف جنس على جنس ، والمعنى : عاليَهم ثيابٌ خُضْرٌ مِن سندسٍ وإستبرقٍ ، أي من هذين النوعين . وقرى نافع وحفص كلاهما بالرفع ويكون { خُضْرٌ } نعتاً للثياب لأنهما جميعاً بلفظ الجمع « وإِسْتَبْرَقٌ » عطفاً على الثياب . وقرأ الأعمش وٱبن وَثّاب وحمزة والكسائيّ كلاهما بالخفض ويكون قوله : « خُضْرٍ » نعتاً للسُّندس ، والسُّندس ٱسم جنس ، وأجاز الأخفش وصف ٱسم الجنس بالجمع على ٱستقباح له وتقول : أهلك الناسَ الدينارُ الصُّفْرُ والدرهمُ البِيضُ ولكنه مستبعد في الكلام . والمعنى على هذه القراءة : عالِيهم ثِيابُ سُندسٍ خضرٍ وثيابُ إِستبرقٍ . وكلهم صرف الإستبرق إلا ٱبن محيصن ، فإنه فتحه ولم يصرفه فقرأ « وإستبرقَ » نصباً في موضع الجر ، على منع الصرف ، لأنه أعجمي ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف تقول الإستبرق إلا أن يزعم ٱبن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب . وقرىء « وَٱسْتَبْرَقَ » بوصل الهمزة والفتح على أنه سُمِّي بٱستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضاً لأنه مُعَرَّب مشهور تعريبه ، وأن أصله ٱسْتَبْرَكَ والسُّندس : ما رَقّ من الديباج . والإستبرق : ما غَلُظ منه . وقد تقدّم . قوله تعالى : { وَحُلُّوۤاْ } عطف على « وَيَطُوفُ » . { أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } وفي سورة فاطر { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } وفي سورة الحج { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } ، فقيل : حُليّ الرجل الفضة وحُليّ المرأة الذهب . وقيل : تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضّة . وقيل : يجمع في يد أحدهم سواران من ذهب وسواران من فضّة وسواران من لؤلؤ ، ليجتمع لهم محاسن الجنة قاله سعيد بن المسيّب . وقيل : أي لكل قوم ما تميل إليه نفوسهم . { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } قال عليّ رضي الله عنه في قوله تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } قال : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مرّوا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان ، فيشربون من إحداهما ، فتجري عليهم بنضرة النَّعيم ، فلا تتغير أبشارهم ، ولا تتشعث أشعارهم أبداً ، ثم يشربون من الأخرى ، فيخرج ما في بطونهم من الأذى ، ثم تستقبلهم خَزنة الجنة فيقولون لهم : { سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] . وقال النَّخَعيّ وأبو قِلابة : هو إذا شربوه بعد أكلهم طَهَّرهم ، وصار ما أكلوه وما شربوه رَشْحَ مِسْكٍ ، وضَمَرت بطونهم . وقال مقاتل : هو من عينٍ ماء على باب الجنة ، تنبع من ساق شجرة ، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غِلّ وغشٍّ وحسدٍ ، وما كان في جوفه من أذًى وقذر . وهذا معنى ما روي عن عليّ ، إلا أنه في قول مقاتل عين واحدة وعليه فيكون فعلاً للمبالغة ، ولا يكون فيه حجة للحنفي أنه بمعنى الطاهر . وقد مضى بيانه في سورة « الفرقان » والحمد لله . وقال طَيِّب الجمَّال : صَلَّيْتُ خَلْف سهل بن عبد الله العَتَمة ، فقرأ « وَسَقَاهُمْ رَبَّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً » وجعل يُحرِّك شفتيه وفمه ، كأنه يَمصُّ شيئاً ، فلما فرغ قيل له : أتشرب أم تقرأ ؟ فقال : والله لو لم أجد لذته عند قراءته كلذته عند شربه ما قرأته . قوله تعالى : { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } أي يقال لهم : إنما هذا جزاء لكم أي ثواب . { وَكَانَ سَعْيُكُم } أي عملكم { مَّشْكُوراً } أي من قبل الله ، وشكره للعبد قبول طاعته ، وثناؤه عليه ، وإثابته إياه . وروى سعيد عن قتادة قال : غفر لهم الذَّنْب وشَكَر لهم الحُسْنى . وقال مجاهد : « مَشْكُوراً » أي مقبولاً والمعنى متقارب فإنه سبحانه إذا قبل العمل شكره ، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل ، إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم . روي " عن ٱبن عمر : أن رجلاً حَبَشِيًّا قال : يا رسول الله ! فُضِّلتم علينا بالصُّوَر والألوان والنبوّة ، أفرأيت إن آمنتُ بما آمنت به ، وعملت بما عملت ، أكائن أنا معك في الجنة ؟ قال : « نعم والذي نفسي بيده إنه ليُرَى بياض الأسود في الجنة وضياؤه من مسيرة ألف عام » ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « من قال لا إله إلا الله كان له بها عند الله عَهْد ، ومن قال سبحان الله والحمد لله كان له بها عند الله مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة » فقال الرجل : كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟ فقال : « إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضعه على جبل لأثقله . فتجيء النعمة من نِعم الله فتكاد أن تستنفذ ذلك كله إلا أن يلطف الله برحمته » . قال : ثم نزلت { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } إلى قوله : { وَمُلْكاً كَبِيراً } قال الحبشيّ : يا رسول الله ! وإن عينيّ لترى ما ترى عيناك في الجنة ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « نعم » فبكى الحبشيّ حتى فاضت نَفْسه . وقال ٱبن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدْليه في حفرته ويقول : { إِنَّ هَـٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } قلنا : يا رسول الله وما هو ؟ قال : « والذي نفسي بيده لقد أوقفه الله ثم قال أي عبدي لأبيضنّ وجهك ولأُبَوّئَنَّك من الجنة حيث شئت ، فنعم أجر العاملين » "