Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 84, Ayat: 16-21)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } أي فأقسم و « لا » صلة . { بِٱلشَّفَقِ } أي بالحمرة التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة . قال أشهب وعبد الله بن الحكم ويحيى بن يحيى وغيرهم ، كثير عددهم ، عن مالك : الشَّفَق الحمرة التي في المغرب ، فإذا ذهبت الحمرة فقد خرجتُ من وقت المغرب ووجبتْ صلاة العشاء . وروى ٱبن وهب قال : أخبرني غير واحد عن عليّ بن أبي طالب ومُعاذ بن جبل وعُبادة ابن الصامت وشدّاد بن أوس وأبي هريرة : أن الشفَق الحمرة ، وبه قال مالك بن أنس . وذكر غير ٱبن وهب من الصحابة : عمر وٱبن عمر وٱبن مسعود وٱبن عباس وأنَساً وأبا قتادة وجابر بن عبد الله وٱبن الزبير ، ومن التابعين : سعيد بن جبير ، وٱبن المسيب وطاوس ، وعبد الله بن دينار ، والزهريّ ، وقال به من الفقهاء الأوزاعيّ ومالك والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وأبو عبيد وأحمد وإسحاق . وقيل : هو البياض رُوي ذلك عن ٱبن عباس وأبي هريرة أيضاً وعمر بن عبد العزيز والأوزاعيّ وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه . وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه . ورُوِي عن ٱبن عمر أيضاً أنه البياض والاختيار الأوّل لأن أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء عليه ولأن شواهد كلام العرب والاشتقاق والسنة تشهد له . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول لثوب عليه مصبوغ : كأنه الشفق وكان أحمر ، فهذا شاهد للحمرة وقال الشاعر : @ وأحمر اللون كمحمرّ الشفق @@ وقال آخر : @ قم يا غلام أعِني غير مرتبكٍ على الزمانِ بِكأسِ حَشْوُها شَفَقُ @@ ويقال للمَغْرة الشفق . وفي الصحاح : الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أوّل الليل إلى قريب من العَتَمة . قال الخليل : الشفق : الحمرة ، من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة ، إذا ذهب قيل : غاب الشفق . ثم قيل : أصل الكلمة من رقة الشيء يقال : شيء شَفِق أي لا تماسك له لرقته . وأشفق عليه : أي رق قلبه عليه ، والشفقة : الاسم من الإشفاق ، وهو رِقة القلب ، وكذلك الشَّفَق قال الشاعر : @ تهوَى حَياتِي وأهوى موتها شَفَقاً والموتُ أَكرم نَزَّالٍ على الحُرَمِ @@ فالشفَق : بقية ضوء الشمس وحمرتها فكأن تلك الرّقة عن ضوء الشمس . وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلاً . وقال الخليل : صعدت منارة الإسكندرية فرمقت البياض ، فرأيته يتردّد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب . وقال ٱبن أبي أويس : رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر قال علماؤنا : فلما لم يتحدد وقته سقط ٱعتباره . وفي سُنَن أبي داود عن النعمان بن بَشير قال : أنا أعلمكم بوقت صلاة العشاء الآخرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة . وهذا تحديد ، ثم الحكم معلق بأوّل الاسم . لا يقال : فينقض عليكم بالفجر الأوّل ، فإنا نقول الفجر الأوّل لا يتعلق به حكم من صلاة ولا إمساك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين الفجر بقوله وفعله فقال : " وليس الفجر أن تقول هكذا فرفع يده إلى فوق ولكن الفجر أن تقول هكذا وبسطها " وقد مضى بيانه في آية الصيام من سورة « البقرة » ، فلا معنى للإعادة . وقال مجاهد : الشفق : النهار كله ألا تراه قال « والليلِ وما وَسَق » . وقال عِكرمة : ما بقي من النهار . والشفق أيضاً : الرديء من الأشياء يقال : عطاء مُشفَّق أي مقلل قال الكُميت : @ ملكَ أغَر مِن الملوك تحلَّبَتْ للسائلين يداه غيرَ مُشفِّقِ @@ قوله تعالى : { وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } أي جمع وضم ولف ، وأصله من سَوْرة السلطان وغضبه فلولا أنه خرج إلى العباد من باب الرحمة ما تمالك العباد لمجيئه ، ولكن خرج من باب الرحمة فمزح بها ، فسكن الخلق إليه ثم ٱبذَعَرُّوا وٱلتفُّوا وٱنقبضوا ، ورجع كل إلى مأواه فسكن فيه من هَوْلِه وحشا ، وهو قوله تعالى : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [ القصص : 73 ] أي بالليل { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] أي بالنهار على ما تقدم . فالليل يجمع ويضم ما كان منتشراً بالنهار في تَصَرّفه . هذا معنى قول ٱبن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم قال ضابيء ٱبن الحارث البرجُمِيّ : @ فإني وإِياكُمْ وشوقاً إِليكُمْ كقابِضِ ماءٍ لم تَسِقْه أناملُهْ @@ يقول : ليس في يدهِ من ذلك شيء كما أنه ليس في يد القابض على الماء شيء فإذا جلل الليل الجبال والأشجار والبحار والأرض فاجتمعت له ، فقد وَسَقَها . والوسْق : ضمك الشيء بعضه إلى بعض ، تقول : وَسَقْتُه أَسِقُه وَسْقاً . ومنه قيل للطعام الكثير المجتمع : وَسْقٌ ، وهو ستون صاعاً . وطعام مُوسَق : أي مجموع ، وإبل مُسْتَوْسِقة أي مجتمعة قال الراجز : @ إنَّ لَنَا قِلائِصاً حقائِقاً مُسْتَوْسقاتٍ لو يَجِدْنَ سائِقاً @@ وقال عِكرمة : « وما وَسَق » أي وما ساق من شيء إلى حيث يأوِي ، فالوَسْق بمعنى الطْرد ، ومنه قيل للطريدة من الإبل والغنم والحمر : وسِيقة ، قال الشاعر : @ كما قافَ آثارَ الوسِيقةِ قائِفُ @@ وعن ٱبن عباس : « وما وَسَق » أي وما جنّ وستر . وعنه أيضاً : وما حَمَل ، وكل شيء حملته فقد وَسَقْته ، والعرب تقول : لا أفعله ما وَسَقَتْ عيني الماء ، أي حملته . ووسَقَت الناقةُ تَسِق وَسْقاً : أي حملت وأغلقت رحمها على الماء ، فهي ناقة واسق ، ونوق وِسَاق مثلَ نائِم ونيام ، وصاحِب وصحِاب ، قال بشر بن أبي خازم : @ أَلَظَّ بِهِن يحدوهُنّ حتى تبينتِ الحِيالُ مِن الوِساقِ @@ ومَواسيق أيضاً . وأوسقت البعير : حَمَّلتة حملَه ، وأوسَقَتِ النخلة : كثر حملها . وقال بمان الضحاك ومقاتل ابن سليمان : حمل من الظلمة . قال مقاتل : أو حمل من الكواكب . القشيريّ : ومعنى حَمَل : ضم وجمع ، والليل يجلل بظلمته كل شيء فإذا جللها فقد وسقها . ويكون هذا القَسَم قسماً بجميع المخلوقات ، لاشتمال الليل عليها ، كقوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } [ الحاقة : 38 - 39 ] وقال ٱبن جُبير : « وما وَسَق » أي وما عمل فيه ، يعني التهجد والاستغفار بالأسحار ، قال الشاعر : @ ويوماً ترانا صالحين وتارةً تقومُ بِنا كالواسِق المتلَبِّب @@ أي كالعامل . قوله تعالى : { وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ } أي تم وأجتمع وٱستوى . قال الحسن : ٱتسق : أي ٱمتلأ واجتمع . ابن عباس : استوى . قتادة : استدار . الفراء : اتساقه : امتلاؤه واستواؤه ليالِيَ البدر ، وهو افتعال من لوسْق الذي هو الجمع ، يقال : وسقته فاتسق ، كما يقال : وصلته فاتصل ، ويقال : أمر فلان مُتَّسِق : أي مجتمع على الصلاح منتظم . ويقال : اتسق الشيء : إذا تتابع : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قرأ أبو عمر وابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومسروق وأبو وائل ومجاهد والنخَعيّ والشعبيّ وابن كثير وحمزة الكسائي « لَتَرَكَبَنَّ » بفتح الباء خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي لتركَبنَّ يا محمد حالاً بعد حال ، قاله ابن عباس . الشعبي : لتركَبَنَّ يا محمد سماء بعد سماء ، ودرجة بعد درجة ، ورُتبه بعد رتبة ، في القربة من الله تعالى . ٱبن مسعود : لتركَبن السماء حالاً بعد حال ، يعني حالاتها التي وصفها الله تعالى بها من الانِشقاق والطيّ وكونها مرة كالمُهلِ ومرة كالدِّهانِ . وعن إبراهيم عن عبد الأعلى : « طبقاً عن طبقٍ » قال : السماء تَقَلَّبُ حالاً بعد حال . قال : تكون وردة كالدهان ، وتكون كالمهل وقيل : أي لتركَبَن أيها الإنسان حالاً بعد حال ، من كونك نطفة ثم علقه ثم مضغة ثم حياً وميتاً وغنياً وفقيراً . فالخطاب للإنسان المذكور في قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ } هو ٱسم للجنس ، ومعناه الناس . وقرأ الباقون « لتركَبُنّ » بضم الباء ، خطاباً للناس ، واختاره أبو عُبيد وأبو حاتم ، قال : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، لما ذكر قبل هذه الآية فمن أوتي كتابه بيمينه ومن أوتي كتابه بشماله . أي لتركبن حالاً بعد حال من شدائد القيامة ، أو لتركَبُن سُنَّة من كان قبلكم في التكذيب وٱختلاق على الأنبياء . قلت : وكله مراد ، وقد جاءت بذلك أحاديث ، فروى أبو نعيم الحافظ عن جعفر بن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن ٱبن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل إن الله لا إله غيره إذا أراد خَلْقه قال للملك أكتب رزقه وأثره وأجله ، وأكتب شقياً أو سعيداً ، ثم يرتفع ذلك الملك ، ويبعث الله ملكاً آخر فيحفظه حتى يدرك ، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته وسيئاته ، فإذا جاءه الموت ارتفع ذانك الملكان ، ثم جاءه ملك الموت عليه السلام فيقبض روحه ، فإذا أدخِل حفرته رُدّ الروح في جسده ، ثم يرتفع ملك الموت ، ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ، ثم يرتفعان ، فإذا قامت الساعة ٱنحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات ، فأنشطا كتاباً معقوداً في عنقه ، ثم حضرا معه ، واحد سائق والآخر شهيد " ثم قال الله عز وجل « لقد كنت فيِ غفلة مِن هذا فكشفنا عنك غِطاءك ، فبصرك اليوم حَدِيد » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال : « حالاً بعد حال » " ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إن قُدَّامَكُمْ أمراً عظيماً فاستعينوا بالله العظيم " فقد ٱشتمل هذا الحديث على أحوال تعتري الإنسان ، من حين يُخْلق إلى حين يُبعث ، وكله شدّة بعد شدة ، حياة ثم موت ، ثم بعث ثم جزاء ، وفي كل حال من هذه شدائد . وقال صلى الله عليه وسلم : " لتركبُن سَنَن من قبلكم شبراً بشبراً ، وذراعاً بذارع ، حتى لو دخلوا جُحر ضَبّ لدخلتموه » قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : « فَمَنْ » " ؟ خرجه البخاريّ : وأما أقوال المفسرين ، فقال عكرمة : حالاً بعد حال ، فطيما بعد رضيع ، وشيخاً بعد شَباب ، قال الشاعر : @ كذلِك المرءُ إِن يُنْسَأْلَهُ أَجلٌ يَرْكَب على طَبقٍ مِن بعدِهِ طَبَقُ @@ وعن مكحول : كلَّ عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه : وقال الحسن : أمراً بعد أمر ، رخَاء بعد شدّة ، وشدّة بعد رَخاء ، وغنًى بعد فقر ، وفقراً بعد غنًى ، وصحة بعد سُقْم ، وسقماً بعد صحة : سعيد بن جبير : منزلة بعد منزلة ، قوم كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة ، وقوم كانوا في الدنيا مرتفعين فاتضعوا في الآخرة : وقيل : منزلة عن منزلة ، وطبَقاً عن طبق ، وذلك أن من كان على صلاح دعاه إلى صلاح فوقه ، ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه ، لأن كل شيء يجري إلى شكله : ٱبن زيد : ولتصيرُن من طَبَق الدنيا إلى طَبَق الآخرة : وقال ابن عباس : الشدائد والأهوال : الموت ، ثم البعث ، ثم العَرْض ، والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد : وقَع في بَناتِ طَبَق ، وإحدى بنات طَبَق ، ومنه قيل للداهية الشديدة : أم طَبَق ، وإحدى بناتِ طَبَق : وأصلها من الحَيّات ، إذ يقُال للحية أم طَبَق لتحوِّيها : والطبق في اللغة : الحال كما وصفنا ، قال الأقرع بن حابس التميميّ : @ إني امرؤ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَهُ وساقني طَبَقٌ منه إلى طَبَقِ @@ وهذا أدل دليل على حدوث العالم ، وإثبات الصانع ، قالت الحكماء : من كان اليوم على حالة ، وغداً على حالة أخرى فليعلم أن تدبيره إلى سواه : وقيل لأبي بكر الورَّاق : ما الدليل على أن لهذا العالم صانعاً ؟ فقال : تحويل الحالات ، وعجز القوة ، وضعف الأركان ، وقهر النية : ونسخ العزيمة : ويقال : أتانا طَبَقٌ من الناس وطبق من الجراد : أي جماعة : وقول العباس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم : @ تَنْقُل مِن صالبٍ إلى رَحِمٍ إِذا مضَى عالَمٌ بدا طَبَقُ @@ أي قرن من الناس . يكون طباقَ الأرض أي ملأها . والطَّبَق أيضاً : عظم رقيق يفصل بين الفَقارين . ويقال : مضى طبق من الليل ، وطَبَق من النهار : أي معظم منه . والطبق : واحد الأطباق ، فهو مشترك . وقرىء « لتركبِن » بكسر الباء ، على خطاب النفس و « لَيَرْكَبَن » بالياء على ليركبن الإنسان . و « عن طبقٍ » في محل نصب على أنه صفة لـ « ـطبقاً » أي طبقاً مجاوزاً لطبق . أو حال من الضمير في « لتركبن » أي لتركبن طبقاً مجاوِزِين لطبق ، أو مجاوزاً أو مجاوزة على حسب القراءة . قوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني أي شيء يمنعهم من الإيمان بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات . وهذا ٱستفهام إنكار . وقيل : تعجب أي ٱعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات . قوله تعالى : { وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ } أي لا يُصَلُّون . وفي الصحيح : إن أبا هريرة قرأ { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } فسجد فيها ، فلما ٱنصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها . وقد قال مالك : إنها ليست من عزائم السجود لأن المعنى لا يُذْعِنون ولا يطيعون في العمل بواجباته . ٱبن العربي : والصحيح أنها منه ، وهي رواية المَدَنيين عنه ، وقد ٱعتضد فيها القرآن والسنة . قال ٱبن العربيّ : لما أَمَمْت بالناس تركت قراءتها لأني إن سجدت أنكروه ، وإِن تركتها كان تقصيراً مني ، فاجتنبتها إلا إذا صليت وحدي . وهذا تحقيق وعدِ الصادق بأن يكون المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة : " لولا حِدْثان قومِك بالكفر لهدمتُ البيت ، ولرددته على قواعد إبراهيم " ولقد كان شيخنا أبو بكر الفِهْريّ يرفع يديه عند الركوع ، وعند الرفع منه ، وهو مذهب مالك والشافعي ويفعله الشِّيعة ، فحضر عندي يوماً في مَحْرَس ٱبن الشَّواء بالثغر موضع تدريسي عند صلاة الظهر ، ودخل المسجد من المَحْرس المذكور ، فتقدم إلى الصف وأنا في مؤخره قاعداً على طاقات البحر ، أتنسم الريح من شدة الحر ، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده ، مع نفر من أصحابه ينتظر الصلاة ، ويتطلع على مراكب تَخْت المِيناء ، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة وأصحابه : ألا ترون إلى هذا المشرقيّ كيف دخل مسجدنا ؟ فقوموا إليه فاقتلوه وٱرموا به إلى البحر ، فلا يراكم أحد . فطار قلبي من بين جوانحي وقلت : سبحان الله هذا الطُّرطُوشيّ فقيه الوقت . فقالوا لي : ولَم يرفع يديه ؟ فقلت : كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ، وهذا مذهب مالك ، في رواية أهل المدينة عنه . وجعلت أسكنهم وأسكتهم حتى فرغ من صلاته ، وقمت معه إلى المسكَن من المحرس ، ورأى تغير وجهي ، فأنكره ، وسألني فأعلمته ، فضحك وقال : ومن أين لي أن أُقتل على سنةٍ ؟ فقلت له : ولا يحل لك هذا ، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك . فقال : دع هذا الكلام ، وخذ في غيره .