Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 69-73)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
عطف قصة على قصة . وتأكيد الخبر بحرف قد للاهتمام به كما تقدّم في قوله { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } هود 25 . والغرض من هذه القصّة هو الموعظة بمصير قوم لوط إذْ عصوا رسول ربّهم فحلّ بهم العذاب ولم تغن عنهم مجادلة إبراهيم . وقدّمت قصة إبراهيم لذلك وللتنويه بمقامه عند ربّه على وجه الإدماج ، ولذلك غيّر أسلوب الحكاية في القصص الّتي قبلها والتي بعدها نحو { وإلى عاد } هود 50 إلخ . والرّسل الملائكة . قال تعالى { جاعل الملائكة رسلاً } فاطر 1 . والبشرى اسم . للتبشير والبشارة . وتقدّم عند قوله تعالى { وبشّر الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحات } في أوّل سورة البقرة 25 . هذه البشرى هي التي في قوله فبشّرناها بإسحاق لأنّ بشارة زوجه بابنٍ بشارة له أيضاً . والباء في { بالبشرى } للمصاحبة لأنّهم جاءوا لأجل البشرى فهي مصاحبة لهم كمصاحبة الرسالة للمرسل بها . وجملة { قالوا سلاماً } في موضع البيان ل - { البشرى } ، لأنّ قولهم ذلك مبدأ البشرى ، وإنّ ما اعترض بينها حكاية أحوال ، وقد انتهى إليها في قوله { فبشّرناها بإسحاق إلى قوله إنّه حميد مجيد } . والسّلام التحيّة . وتقدّم في قوله { وإذا جاءك الّذين يؤمنون بآياتنا فقل سلامٌ عليكم } في سورة الأنعام 54 . و { سلاماً } مفعول مطلق وقع بَدَلاً من الفعل . والتّقدير سلّمنا سلاماً . و { سلام } المرفوع مصدر مرفوع على الخبر لمبتدأ محذوف ، تقديره أمري سلام ، أي لكم ، مثل { فصبرٌ جميلٌ } يوسف 18 . ورفع المصدر أبلغ من نصبه ، لأنّ الرّفع فيه تناسي معنى الفعل فهو أدلّ على الدّوام والثّبات . ولذلك خالف بينهما للدّلالة على أنّ إبراهيم - عليه السّلام - ردّ السّلام بعبارة أحسن من عبارة الرسل زيادة في الإكرام . قال ابن عطيّة حيّاً الخليل بأحسن ممّا حُيّيَ به ، أي نظراً إلى الأدب الإلهي الذي عَلّمَهُ لَنَا في القرآن بقوله { وإذا حيّيتم بتحيةٍ فَحَيّوا بأحسن منها أو رُدُّوها } النساء 86 ، فَحكيَ ذلك بأوجز لفظ في العربية أداءً لمعنى كلام إبراهيم - عليه السّلام - في الكلدانيّة . وقرأ الجمهور { قال سَلامٌ } - بفتح السّين وبِألِف بعد اللاّم - . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف { قال سِلْم } - بكسر السّين وبدون ألِف بعد اللاّم - وهو اسم المسالمة . وسمّيت به التحية كما سمّيت بمرادفِه سَلام فهو من باب اتّحاد وزن فَعال وفِعْل في بعض الصفات مثل حرام وحِرم ، وحلال وحلّ . والفاء في قوله { فما لبث } للدّلالة على التعقيب إسراعاً في إكرام الضّيف ، وتعجيل القرى سنّة عربيّة ظنهم إبراهيم - عليه السّلام - ناساً فبادر إلى قراهم . واللّبث في المكان يقتضي الانتقال عنه ، أيْ فما أبطأ . و { أن جاء } يجوز أن يكون فاعل { لَبِثَ } ، أي فما لبث مجيئه بعجل حنيذ ، أي فما أبطأ مَجيئه مصاحباً له ، أي بل عجّل . ويجوز جعل فاعل { لبث } ضمير إبراهيم - عليه السّلام - فيقدّر جارّ لـ { جاء } . والتّقدير فما لبث بأن جاء به . وانتفاء اللبث مبالغة في العجل . والحنيذ المشوي ، وهو المحنوذ . والشيُّ أسْرَع من الطبخ ، فهو أعون على تعجيل إحضار الطعام للضيف . و { لا تصل إليه } أشد في عدم الأخذ من لا تتناوله . ويقال نكر الشيء إذا أنكره أي كرهه . وإنّما نكرهم لأنّه حسب أنّ إمساكهم عن الأكل لأجل التبرّؤ من طعامه ، وإنّما يكون ذلك في عادة النّاس في ذلك الزّمان إذا كان النّازل بالبيت يضمر شرّاً لمضيّفه ، لأنّ أكل طعام القرى كالعهد على السّلامة من الأذى ، لأنّ الجزاء على الإحسان بالإحسان مركوز في الفطرة ، فإذا انكفّ أحد عن تناول الإحسان فذلك لأنّه لا يريد المسالمة ولا يرضى أن يكون كفوراً للإحسان . ولذلك عقب قوله { نكرهم } بـ { أوجس منهم خيفة } ، أي أحسّ في نفسه خيفة منهم وأضمر ذلك . ومصدره الإيجاس . وذلك أنّه خشي أن يكونوا مضمرين شرّاً له ، أي حسبهم قطّاعاً ، وكانوا ثلاثة وكان إبراهيم - عليه السّلام - وحده . وجملة { قالوا لا تخف } مفصولة عمّا قبلها ، لأنّها أشبهت الجواب ، لأنّه لمّا أوجس منهم خيفة ظهر أثرها على ملامحه ، فكان ظهور أثرها بمنزلة قوله إنّي خفت منكم ، ولذلك أجابوا ما في نفسه بقولهم { لا تَخف } ، فحكي ذلك عنهم بالطّريقة الّتي تحكى بها المحاورات ، أو هو جواب كلام مقدّر دلّ عليه قوله { وأوجس منهم خيفة } ، أي وقال لهم إنّي خفت منكم ، كما حكي في سورة الحجر 52 { قال إنّا منكم وَجِلون } ومن شأن النّاس إذا امتنع أحد من قبول طعامهم أن يقولوا له لعلّك غادر أو عَدوّ ، وقد كانوا يقولون للوافد أحَرْبٌ أم سِلْمٌ . وقولهم { إنّا أرسلنا إلى قوم لوط } مكاشفة منهم إيّاه بأنّهم ملائكة . والجملة استئناف مبينة لسبب مجيئهم . والحكمةُ من ذلك كرامة إبراهيم - عليه السّلام - وصدورهم عن علم منه . وحذف متعلّق { أرسلنا } أي بأي شيء ، إيجازاً لظهوره من هذه القصّة وغيرها . وعبّر عن الأقوام المراد عذابهم بطريق الإضافة { قوم لوط } إذ لم يكن لأولئك الأقوام اسم يجمعهم ولا يرجعون إلى نسب بل كانوا خليطاً من فصائل عرفوا بأسماء قراهم ، وأشهرها سدوم كما تقدّم في الأعراف . وجملة { وامرأته قائمة فضحكت } في موضع الحال من ضمير { أوجس } ، لأنّ امرأة إبراهيم - عليه السّلام - كانت حاضرة تقدّم الطّعام إليهم ، فإن عادتهم كعادة العرب من بعدهم أنّ ربة المنزل تكون خادمة القوم . وفي الحديث " والعروس خادمهم " وقال مرّة بن محكان التميمي @ يا ربّة البيت قومي غير صاغرة ضُمّي إليك رجال القوم والغربا @@ وقد اختصرت القصة هنا اختصاراً بديعاً لوقوعها في خلال الحوار بين الرسل وإبراهيم - عليهم السّلام - ، وحكاية ذلك الحوار اقتضت إتمامه بحكاية قولهم { لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط } . وأمّا البشرى فقد حصلت قبل أن يخبروه بأنّهم أرسلوا إلى قوم لوط كما في آية سورة الذاريات 28 { فأوجس منهم خيفةً قالوا لا تخَف وبشّروه بغلامٍ عليمٍ } فلمّا اقتضى ترتيب المحاورة تقديم جملة { قالوا لا تخف } حكيت قصة البشرى وما تبعها من المحاورة بطريقة الحال ، لأنّ الحال تصلح للقبْليّة وللمقارنَة وللبعدية ، وهي الحال المقدّرة . وإنّما ضحكت امرأة إبراهيم - عليه السّلام - من تبشير الملائكة إبراهيم - عليه السّلام - بغلام ، وكان ضحكها ضحك تعجّب واستبعاد . وقد وقع في التّوراة في الإصحاح الثامن عشر من سفر التكوين « وقالوا له أين سارة امرأتك ؟ فقال ها هي في الخيمة . فقالوا يكون لسارة امرأتك ابن ، وكانت سارة سامعة في باب الخيمة فضحكت سارة في باطنها قائلة أفبالحقيقة ألِدُ وأنا قد شِخت ؟ فقال الربّ لماذا ضحكتْ سارة ؟ فأنكرت سارة قائلة لم أضحك ، لأنّها خافت ، قال لا بل ضحكت » . وتفريع { فبشّرناها بإسحاق } على جملة { ضحكت } باعتبار المعطوف وهو { ومن وراء إسحاق يعقوب } لأنّها ما ضحكت إلاّ بعد أن بشّرها الملائكة بابن ، فلمّا تعجبت من ذلك بشّروها بابن الابن زيادة في البشرى . والتّعجيب بأن يولد لها ابن ويعيش وتعيش هي حتّى يولد لابنها ابن . وذلك أدخل في العجب لأن شأن أبناء الشيوخ أن يكونوا مهزولين لا يعيشون غالباً إلاّ معلولين ، ولا يولد لهم في الأكثر ولأن شأن الشيوخ الذين يولد لهم أن لا يدركوا يفع أولادهم بله أولاد أولادهم . ولما بشّروها بذلك صرحت بتعجبها الذي كتمته بالضحك ، فقالت { يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشيءٌ عجيب } ، فجملة { قالت } جواب للبشارة . ويعقوب مبتدأ { ومن وراء إسحاق } خبر ، والجملة على هذا في محلّ الحال . وهذه قراءة الجمهور . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص { يعقوبَ } بفتحة وهو حينئذٍ عطف على { إسحاق } . وفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف وخطبه سهل وإن استعظمه ظاهرية النحاة كأبي حيان بقياس حرف العطف النائب هنا مناب الجار على الجار نفسه ، وهو قياس ضعيف إذ كون لفظ بمعنى لفظ لا يقتضي إعطاءه جميع أحكامه كما في « مغني اللبيب » . والنداء في { يا ويلتا } استعارة تبعية بتنزيل الويلة منزلة من يعقل حتّى تنادى ، كأنها تقول يا ويلتي احضر هنا فهذا موضعك . والويلة الحادثة الفظيعة والفضيحة . ولعلّها المرة من الويل . وتستعمل في مقام التعجب ، يقال يا ويلتي . واتّفق القرّاء على قراءة { يا ويلتا } - بفتحة مشبعة في آخره بألف - . والألف التي في آخر { يا ويلتا } هنا يجوز كونها عوضاً عن ياء المتكلم في النداء . والأظهر أنها ألف الاستغاثة الواقعة خلَفاً عن لام الاستغاثة . وأصله يا لَويلة . وأكثر ما تجيء هذه الألف في التعجّب بلفظ عجب ، نحو يا عجباً ، وباسم شيء متعجب منه ، نحو يا عشبا . وكتب في المصحف بإمالة ولم يقرأ بالإمالة ، قال الزجاج كتب بصورة الياء على أصل ياء المتكلم . والاستفهام في { أألد وأنا عجوز } مستعمل في التعجب . وجملة { أنا عجوز } في موضع الحال ، وهي مناط التعجب . والبعل الزوج . وسيأتي بيانه عند تفسير قوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلاّ لبعولتهن } في سورة النّور 31 ، فانظره . وزادت تقرير التعجب بجملة { إنّ هذا لشيء عجيب } وهي جملة مؤكدة لصيغة التعجب فلذلك فصلت عن التي قبلها لكمال الاتّصال ، وكأنّها كانت متردّدة في أنهم ملائكة فلم تطمئنّ لتحقيق بشراهم . وجملة { هذا بعلي } مركبة من مبتدأ وخبر لأنّ المعنى هذا المشار إليه هو بعلي ، أي كيف يكون له ولد وهو كما ترى . وانتصب { شيخاً } على الحال من اسم الإشارة مبينة للمقصود من الإشارة . وقرأ ابن مسعود { وهذا بعلي شيخ } - برفع شيخ - على أن بعلي بيان من هذا وشيخ خبر المبتدأ . ومعنى القراءتين واحد . وقد جرت على هذه القراءة النادرة لطيفة وهي ما أخبرنا شيخنا الأستاذ الجليل سالم بوحاجب أنّ أبا العبّاس المبرّد دُعي عند بعض الأعيان في بغداد إلى مأدبة ، فلمّا فرغوا من الطّعام غنّت من وراء الستار جارية لرب المنزل ببيتين @ وقالوا لها هذا حبيبك معرضٌ فقالت ألاَ إعراضه أهون الخطب فما هي إلاّ نظرة وابتسامة فتصطكّ رجلاه ويسقط للجنب @@ فطرب كل من بالمجلس إلاّ أبا العبّاس المبرد فلم يتحرك ، فقال له رب المنزل ما لك لم يطربك هذا ؟ . فقالت الجارية مَعذُور يحسبني لحنت في أن قلت معرضٌ - بالرفع - ولم يعلم أنّ عبد الله بن مسعود قرأ « وهذا بعلي شيخٌ » فطرب المبرد لهذا الجواب . وجواب الملائكة إياها بجملة { أتعجبين من أمر الله } إنكار لتعجبها لأنه تعجّبٌ مراد منه الاستبعاد . و { أمر الله } هو أمر التكوين ، أي أتعجبين من قدرة الله على خرق العادات . وجوابهم جار على ثقتهم بأن خبرهم حق منبىء عن أمر الله . وجملة { رحمت الله وبركاته عليكم } تعليل لإنكار تعجبها ، لأن الإنكار في قوة النفي ، فصار المعنى لا عجب من أمر الله لأنّ إعطاءك الولد رحمة من الله وبركة ، فلا عجب في تعلّق قدرة الله بها وأنتم أهل لتلك الرحمة والبركة فلا عجب في وقوعها عندكم . ووجه تعليل نفي العجب بهذا أن التعجب إمّا أن يكون من صدور هذا من عند الله وإما أن يكون في تخصيص الله به إبراهيم - عليه السّلام - وامرأته فكان قولهم { رحمت الله وبركاته عليكم } مفيداً تعليل انتفاء العجبين . وتعريف { البيت } تعريف حضور ، وهو البيت الحاضر بينهم الذي جرى فيه هذا التحاور ، أي بيت إبراهيم - عليه السّلام - . والمعنى أهل هذا البيت . والمقصود من النداء التنويه بهم ويجوز كونه اختصاصاً لزيادة بيان المرَاد من ضمير الخطاب . وجملة { إنّه حميد مجيد } تعليل لتوجه رحمته وبركاته إليهم بأنّ الله يحمد من يطيعه ، وبأنّه مَجِيدٌ ، أي عظيم الشأن لاَ حَدّ لِنِعَمِه فلا يعظم عليه أن يعطيها ولداً ، وفي اختيار وصف الحميد من بين الأسماء الحسنى كناية عن رضى الله تعالى على إبراهيم - عليه السّلام - وأهله .