Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 4-5)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

عطف على جملة { ولا تتّبعوا } الأعراف 3 وهذا الخبر مستعمل في التّهديد للمشركين الذين وجه إليهم التّعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم . وقد ثلث هنا بتمحيض التّوجيه إليهم . وإنّما خُصّ بالذّكر إهلاك القرى ، دون ذكر الأمم كما في قوله { فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية } الحاقة 5 ، 6 ، لأنّ المواجهين بالتّعريض هم أهل مكّة وهي أمّ القرى ، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأنّ تعليق فعل { أهلكنا } بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشّمول ، فهو مغن عن أدوات الشّمول ، فالسّامع يعلم أنّ المراد من القرية أهلها لأنّ العبرة والموعظة إنّما هي بما حصل لأهل القرية ، ونظيرها قوله تعالى { وسأل القرية التي كنا فيها } يوسف 82 ونظيرهما معاً قوله { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون } الأنبياء 6 ، فكلّ هذا من الإيجاز البديع ، والمعنى على تقدير المضاف ، وهو تقدير معنى . وأجرى الضّميران في قوله { أهلكناها فجاءها بأسنا } على الإفراد والتّأنيث مراعاة للفظ قرية ، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متّصللِ القرب ، ثمّ أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله { أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم } إلخ لحصول الفصل بين الضّمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية ، وهو { بأسنا بياتاً } لأنّ بياتاً متحمّل لضمير البأس ، أي مبيِّتاً لهم ، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال { أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم } . وكم اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدّم في أوّل سورة الأنعام . والإهلاك الإفناء والاستئصال . وفعل { أهلكناها } يجوز أن يكون مستعملاً في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملاً في ظاهر معناه . والفاء في قوله { فجاءها بأسنا } عاطفة جملة { فجاءها بأسنا } على جملة { أهلكناها } ، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه ، ولما كان مجيء البأس حاصلاً مع حصول الإهلاك أو قبلَه ، إذ هو سبب الإهلاك ، عسر على جمع من المسفّرين معنى موقع الفاء هنا ، حتّى قال الفرّاء إنّ الفاء لا تفيد التّرتيب مطلقاً ، وعنه أيضاً إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدّمت أيّهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني . وعن بعضهم أنّ الكلام جرى على طريقة القلب ، والأصل جاءها بأسنا فأهلكناها ، وهو قلب خلي عن النّكتة فهو مردود ، والذي فسّر به الجمهور أنّ فعل أهلكناها مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم } النحل 98 وقوله { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } المائدة 6 الآية أي فإذا أردت القراءة ، وإذا أردتم القيام إلى الصّلاة ، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال ومن أمثلة المجاز قوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } النحل 98 استعمل { قرأت } مكان أردت القراءة لكون القراءة مسبّبة عن إرادتها استعمالاً مجازياً بقرينة الفاء في { فاستعذ بالله } ، وقولُه { وكم من قرية أهلكناها } في موضع أردنا إهلاكها بقرينة { فجاءها بأسنا } والبأس الإهلاك . والتّعبير عن إرادة الفعل بذكر الصّيغة التي تدلّ على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل ، عزماً لا يتأخّر عنه العمل ، بحيث يستعار اللّفظ الدّال على حصول المراد ، للإرادة لتشابههما ، وإمّا الإتيان بحرف التّعقيب بعد ذلك فللدّلالة على عدم التّريّث ، فدلّ الكلام كلّه على أنّه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل ، كلّ ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة ، وقد استفيد هذا التّقارن بالتّعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل ، والتّعبير عن حصول السّبب بحرف التّعقيب ، والغرض من ذلك تهديد السّامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحلّ غضب الله عليهم فيريد إهلاكهم ، فضيَّقَ عليهم المهلّة لئلا يتباطأوا في تدارك أمرهم والتّعجيل بالتّوبة . والذي عليه المحققون أنّ التّرتيب في فاء العطف قد يكون التّرتيبَ الذكريّ ، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه . ففي الآية أخبر عن كيفيّة إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك ، وهذا التّرتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال ، فيكون من عطف المفصّل على المجمل ، وبذلك سمّاه ابن مالك في « التّسهيل » ، ومثَّل له بقوله تعالى { إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً عُرباً } الواقعة 35 ، 37 الآية . ومنه قوله تعالى { ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين } الزمر 72 ــــ أو قوله ــــ { فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه } البقرة 36 لأنّ الإزلال عن الجنّة فُصل بأنّه الإخراج ، وقوله تعالى { كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر } القمر 54 وهذا من أساليب الإطناب وقَد يغفل عنه . والبأس ما يحصل به الألم ، وأكثر إطلاقه على شدّة الحساب ولذلك سمّيت الحرب البأساء ، وقد مضى عند قوله تعالى { والصّابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس } في سورة البقرة 177 ، والمراد به هنا عذاب الدّنيا . واستعير المجيء لحدوث الشّيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيهاً لحُلول الشّيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقُّل خطواته ، وقد تقدّم نظير هذا في قوله تعالى { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } في سورة الأنعام 43 . والبيات مصدر بَات ، وهو هنا منصوب على الحال من البأس ، أي جاءهم البأس مبَيِّتا لهم ، أي جاءهم ليلاً ، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلاً ، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدّة الحرب كما المراد من البيات حالة من حال الحرب ، هي أشدّ على المغزوّ ، فكان ترشيحاً للاستعارة التّمثيليّة ، ويجوز أن يكون { بياتاً } منصوباً على النّيابة عن ظرف الزّمان أي في وقت البيات . وجملة { هم قائلون } حال أيضاً لعطفها على { بياتاً } بأو ، وقد كفى هذا الحرفُ العاطف عن ربط جملة الحال بواو الحال ، ولولا العطف لكان تجرد مثل هذه الجملة عن الواو غير حسَن ، كما قال في « الكشاف » ، وهو متابع لعبد القاهر . وأقول إنّ جملة الحال ، إذا كانت جملة اسميّة ، فإمّا أن تكون منحلّة إلى مفردين أحدهما وصف صاحب الحال ، فهذه تَجَرّدُها عن الواو قبيح ، كما صرّح به عبد القاهر وحقّقه التفتزاني في « المطوّل » ، لأنّ فصيح الكلام أن يجاء بالحال مفردة إذ لا داعي للجملة ، نحو جاءني زيد هو فارس ، إذ يغني أن تقول فارساً . وأمّا إذا كانت الجملة اسميّة فيها زيادة على وصف صاحب الحال ، وفيها ضمير صاحب الحال ، فخلوها عن الواو حسن نحو قوله تعالى { قلنا اهبطوا منها جميعاً بعضكم لبعض عدوّ } طه 123 فإنّ هذه حالة لكلا الفريقين ، وهذا التّحقيق هو الذي يظهر به الفرق بين قوله { بعضكم لبعض عدوّ } طه 123 وقولهم ، في المثال جاءني زيد هو فارس ، وهو خير ممّا أجاب به الطيبي وما ساقه من عبارة « المفتاح » وعبارة ابن الحاجب فتأمّله . وعُلّل حذف واو الحال بدفع استثقال توالي حرفين من نوع واحد . وأو لِتقسيم القُرى المهلَكة إلى مهلكة في اللّيل ، ومهلّكة في النّهار ، والمقصود من هذا التّقسيم تهديد أهل مكّة حتّى يكونوا على وجل في كلّ وقت لا يدرون متى يحلّ بهم العذاب ، بحيث لا يأمنون في وقت مَّا . ومعنى { قائلون } كائنون في وقت القيلولة ، وهي القائلة ، وهي اسم للوقت المبتدىء من نصف النّهار المنتهي بالعصر ، وفعله قال يقيل فهو قائل ، والمقيل الرّاحة في ذلك الوقت ، ويطلق المقيل على القائلة أيضاً . وخصّ هذان الوقتان من بين أوقات اللّيل والنّهار لأنّهما اللّذان يطلب فيهما النّاس الرّاحة والدعة ، فوقوع العذاب فيهما أشدّ على النّاس ، ولأنّ التّذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذّبين تخيَّل نعيمَ الوقتين . والمعنى وكم من أهللِ قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم ، فكونوا يا معشر أهل مكّة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنّكم وإياهم سواء . وقوله { فما كان دعواهم } يصحّ أن تكون الفاء فيه للترتيب الذّكري تبعاً للفاء في قوله { فجاءها بأسنا } لأنّه من بقيّة المذكور ، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس . والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله { دعواهم فيها سبحانك اللّهمّ } يونس 10 وهو كثير في القرآن ، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب ، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة ، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى . ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ ، فلم تبق لهم دعوى ، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون ، فيكون الاستثناء منقطعاً لأنّ اعترافهم ليس بدعوى . واقتصارهم على قولهم { إنا كنا ظالمين } إمَّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب ، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو ، فعوجلوا بالعذاب ، فكان اعترافهم ــــ آخر قولهم في الدّنيا ــــ مقدّمة لشهادةِ ألسنتهم عليهم في الحشر ، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب . وأيّاً ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم ، ولكنّ العنادَ والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه ، ومن شأن مَن تصيبه شدّة أن يَجري على لسانه كلام ، فمن اعتاد قول الخير نطق به ، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومُنكر القول ، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم . والمراد بقولهم { كنا ظالمين } أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، وتكذيب الرّسل ، والإعراض عن الآيات ، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ ، وذلك يجمعه الإشراكُ بالله ، قال تعالى { إنّ الشرك لظلم عظيم } لقمان 13 ، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله { ولا تتبعوا من دونه أولياء } الأعراف 3 أي أنّ الله لم يظلمهم ، وهو يحتمل أنّهم عَلموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامِهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلاّ بالظّالمين ، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألْسنة رسلهم ، فيكون الكلام إقراراً محضاً أقرّوا به في أنفسهم ، فصيغة الخبرِ مستعملة في إنشاء الإقرار ، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمُون ، من قبل نزول العذاب ، وكانوا مصرين عليه ومكابرين ، فلمّا رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم ، فيكون الكلام ، إقراراً مشوباً بحسرة وندامة ، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصّريح ومعناه الكنائي ، والمعنى المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازاً صريحاً . وهذا القول يقولونه لغير مخاطَب معيَّن ، كشأن الكلام الذي يجري على اللّسان عند الشّدائد ، مثل الويل والثّبور ، فيكون الكلام مستعملاً في معناه المجازي ، أو يقوله بعضهم لبعض ، بينهم ، على معنى التّوبيخ ، والتّوقيف على الخطأ ، وإنشاء النّدامة ، فيكون مستعملاً في المعنى المجازي الصّريح ، والمعنى الكنائي ، على نحو ما قرّرتُه آنفاً . والتّوكيد بإنّ لتحقيق للنّفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدّمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم ، أو بين جماعتهم ، جارياً مجرى التّعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنّهم جديرون به ، ولذلك أطلقوا على الشّرك حينئذ الاسم المشعر بمذمّته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل . واسم كان هو { أن قالوا } المفرغ له عمل كان ، و { دعواهم } خبر كان مقدّم ، لقرينة عدم اتّصال كان بتاء التّأنيث ، ولو كان دعوى هو اسمها لكان اتّصالها بتاء التّأنيث أحسن ، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كلّ موضع جاء فيه المصدر المؤول من أنْ والفعل محصوراً بعد كان ، نحو قوله تعالى { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } الأعراف 82 { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } آل عمران 147 وغير ذلك ، وهو استعمال ملتزم ، غريب ، مطّرد في كلّ ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقّق أحدهما في تحقّق الآخر لأنّهما لمَّا اتّحدا في الماصْدق ، واستويا في التّعريف كان المحصور أولى باعتبار التّقدّم الرّتبي ، ويتعيّن تأخيره في اللّفظ ، لأنّ المحصور لا يكون إلاّ في آخر الجزأين ، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصورِ . واعلم أن كون أحد الجزأين محصوراً دون الآخر في مثل هذا ، ممّا الجزآن فيه متحدَا الماصْدق ، إنّما هو منوط باعتبار المتكلّم أحدهما هو الأصلَ والآخر الفرع ، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقّب من السّامع للقصّة ابتداء ، واعتبر الدّعاء هو المترقّب ثانياً ، كأنّ السّامع يسأل ماذا قالوا لمَّا جاءهم البأس ، فقيل له كان قولهم { إنا كنا ظالمين } دعاءَهم ، فأفيد القول وزيد بأنّهم فرّطوا في الدّعاء ، وهذه نكتة دقيقة تنفعك في نظائر هذه الآية ، مثل قوله { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم } الأعراف 82 ، على أنّه قد قيل إنّه لاطِّراد هذا الاعتبار مع المصدر المؤول من أن والفعل عِلَّة لفْظيّة وهي كون المصدر المؤول يشبه الضّمير في أنّه لا يوصف ، فكان أعرف من غيره ، فلذلك كان حقيقاً بأن يكون هو الاسم ، لأنّ الأصل أنّ الاعرف من الجُزأين وهو الذي يكون مسنداً إليه .