Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 22-23)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن مريم حملت عيسى . فقوله { حملته } أي عيسى { فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ } أي تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها { مَكَاناً قَصِيّاً } أي في مكان بعيد والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم . وفيه أقوال أخر غير ذلك . وقوله { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ } أي ألجأها الطلق إلى جذع النخلة ، أي جذع نخلة في ذلك المكان . والعرب تقول جاء فلان ، وأجاءه غيره إذا حمله على المجيء ، ومنه قول زهير @ وجار سار معتمداً إلينا أجاءته المخافة والرجاء @@ وقول حسان رضي الله عنه @ إذ شددنا شدة صادقة فأجأناكم إلى سفح الجبل @@ والمخاض الطلق ، وهو وجع الولادة ، وسمي مخاضاً من المخض ، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج . وقوله { قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئاً يذكر . فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين - فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به ، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله ، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك ، وكانت نسياً منسياً وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى ، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى وقعت فيه أو سلمت منه . ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع ، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفخ فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك ، كما قال { وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } التحريم 12 وقال { وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } الأنبياء 91 الآية . والذي عليه الجمهور من العلماء أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت ، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } مريم19 كما تقدم . ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله { فنفخنا } لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته ، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ . فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى ، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل إلا منه إلا بمشيئة جل وعلا - أسنده إلى نفسه - والله تعالى أعلم . وقول من قال إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط ، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل . وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة - قد وقعت فيه ، ولكن الله برأها ، وذلك كقوله عنهم { قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } مريم 27 يعنون الفاحشة ، وقوله عنهم ، { يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } مريم 28 يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد ؟ وكقوله تعالى { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } النساء 156 . وقوله { مكاناً قصياً } القصي ، البعيد ، ومنه قول الراجز @ لتقعدن مقعد القصي مني ذي القاذورة المقلي أو تحلفي بربك العلي أني أبو ذيالك الصبي @@ وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } المؤمنون 50 . وقوله في هذه الآية الكريمة { فانتبذت به } أي انتبذت وهو في بطنها . والإشارة في قوله هذا إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع . وقوله في هذه الآية الكريمة عنها { وكنت نسياً منسياً } النسي والنِّسي - بالكسر وبالفتح - هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته ، كخرق الحيض ، وكالوتد والعصا ، ونحو ذلك . ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم انظروا أنساءكم جمع نسي ؟ أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد . ونحو ذلك . فقولها " وكنت نسياً " أي شيئاً تافهاً حقيراً من حقه أن يترك وينسى عادة . وقولها " منسياً " تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه . وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت @ أتجعلنا جسراً لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل @@ فقوله " بنسي " أي شيء تافه منسي . وقول الشنفرى @ كان لها في الأرض نسياً تقصه على أمها وإن تحدثك تبلت @@ فقوله " نسياً " أي شيء تركته ونسيته . وقوله " تبلت " بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث - أي تقطع كلامها من الحياء . والبلت في اللغة القطع . وقرأ نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي " يا ليتني مت " بكسر الميم . وقرأ الباقون " مت " بضم الميم " . وقرأ حفص عن عاصم وحمزة ، وكنت نسياً " بفتح النون . والباقون بكسرها ، وهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان صحيحتان . تنبيه قراءة " مت " بكسر الميم كثيراً ما يخفى على طلبة العلم وجهها . لأن لغة مات يموت " لا يصح منه " مِت " بكسر الميم . ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات ، كخاف يخاف . لا من مات يموت . كقال يقول فلفظ " مات " فيها لغتان عربيتان فصيحتان ، الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفاً على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة @ من ياء أو واو بتحريك أصل ألفا إبدل بعد فتح متصل @@ إن حرك الثاني … الخ ومضارع هذه المفتوحة " يموت " بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أونونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاء بحركة تناسب العين ، والحركة المناسبة للواو هي الضمة ، فتقول " مت " بضم الميم ، ولا يجوز غير ذلك . الثانية أنها " موت " بكسر الواو ، أبدلت الواو ألفاً للقاعدة المذكرة آنفاً . ومضارع هذه " يمات " بالفتح ، لأن فعل بكسر العين ينقاس في مضارعها بفعل بفتح العين ، كما قال ابن مالك في اللامية @ وافتح موضع الكسر في المبنى من فعلا @@ ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها . والمقرر في فن الصرف أن كل فعل ثلاثي أجوف أعني معتل العين إذا كان على وزن فعل بكسر العين ، أو فعل بضمها فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين ، وتضم إن كان من فعل بضمها . مثال الأول - " مت " من مات يمات ، لأن أصلها " موت " بالكسر وكذلك خاف يخاف ، ونام ينام ، فإنك تقول فيها " مت " بكسر الميم ، و " نمت " بكسر للنون ، " وخفت " بكسر الخاء . لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة . ومثاله في الضم " طال " فأصلها " طول " بضم الواو فتقول فيها " طلت " بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء . أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت ، وقال يقول فإن العين تسقط بالاعتدال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فيضم الفاء إن كانت العين الساقطة واواً كمات يموت ، وقال يقول فتقول مت وقلت . - بالضم - وتكسر الفاء إن كانت العين الساقطة ياء ، كباع وسار ، فتقول بعت وسرت بالكسر فيهما . وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله @ وانقل لفاء الثلاثي شكل عين إذا اعتلت وكان بنا الإضمار متصلاً أو نونه وإذا فتحا يكون منه اعتض مجانس تلك العين منتفلا @@ واعلم أن مات يمات ، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة ، ومنها قول الراجز @ بنيتي سيدة البنات عيشي ولا نأمن أن تما @@ وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة . وقد أشار إلى اللغات الثلاث الفصيحتين والردية بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله @ من منعت زوجته منه المبيت مات يموت ويمات ويميت @@ وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها ، لعدم دليل على شيء منها . وأظهرها أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقاً للعادة ، والله تعالى أعلم .