Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 41, Ayat: 5-5)
Tafsir: at-Taḥrīr wa-t-tanwīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } . ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار صرحوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، بأنهم لا يستجيبون له ولا يؤمنون به ، ولا يقبلون منه ما جاءهم به فقالوا له قلوبنا التي نعقل بها ، ونفهم في أكنة ، أي أغطية . والأكنة ، جمع كنان ، وهو الغطاء والغلاف الذي يغطي الشيء ويمنعه من الوصول إليه . ويعنون أن تلك الأغطية ، مانعة لهم من فهم ما يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم ، وقالوا إن في آذانهم التي يسمعون بها وقراً أي : ثقلاً وهو الصمم . وأن ذلك الصمم مانع لهم من أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ، ومما يقول ، كما قال تعالى عنهم : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [ فصلت : 26 ] . وأن من بينهم وبينه حجاباً ، مانعاً لهم من الاتصال والاتفاق ، لأن ذلك الحجاب يحجب كلا منهما عن الآخر ، ويحول بينهم وبين رؤية ما يبديه صلى الله عليه وسلم من الحق . والله جل وعلا ، ذكر عنهم هذا الكلام في معرض الذم ، مع أنه تعالى صرح بأنه جعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، وجعل بينهم وبين رسوله حجاباً ، عند قراءته القرآن ، قال تعالى في سورة بني إسرائيل : { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً } [ الإسراء : 45ـ46 ] . وقال تعالى في الأنعام : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } [ الأنعام : 25 ] وقال تعالى في الكهف : { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } [ الكهف : 57 ] . وهذا الإشكال الذي أشرنا إليه في هذه الآيات قوي ، ووجه كونه مشكلاً ظاهر ، لأنه تعالى ذمهم على دعواهم الأكنة والوقر والحجاب في هذه الآية الكريمة من فصلت ، وبين في الآيات الأخرى أن ما ذمهم على ادعائه واقع بهم فعلاً ، وأنه تعالى هو الذي جعله فيهم . فيقال : فكيف يذمون على قول شيء ، هو حق في نفس الأمر . والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال ، هو ما ذكرناه مراراً ، من أن الله إنما جعل على قلوبهم الأكنة ، وطبع عليها وختم عليها ، وجعل الوقر في آذانهم ، ونحو ذلك من الموانع من الهدى ، بسبب أنهم بادروا إلى الكفر ، وتكذيب الرسل طائعين مختارين ، فجزاهم الله على ذلك الذنب الأعظم ، طمس البصيرة ، والعمى عن الهدى ، جزاء وفاقاً . فالأكنة والوقر والحجاب المذكورة إنما جعلها الله عليهم ، مجازاة لكفرهم الأول . ومن جزاء السيئة ، تمادي صاحبها في الضلال ، ولله الحكمة البالغة في ذلك . والآيات المصرحة بمعنى هذا كثيرة في القرآن ، كقوله تعالى : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] . فقول اليهود في هذه الآية { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } كقول كفار مكة : { قُلُوبُنَا } { فِيۤ أَكِنَّةٍ } لأن الغلف ، جمع أغلف وهو الذي عليه غلاف ، والأكنة جمع كنان ، والغلاف والكنان كلاهما بمعنى الغطاء الساتر . وقد رد الله على اليهود دعواهم ببل التي هي للإضراب الإبطالي ، في قوله { بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] . فالباء في قوله : بكفرهم سببية ، وهي دالة على أن سبب الطبع على قلوبهم هو كفرهم ، والأكنة والوقر والطبع كلها من باب واحد . وكقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 3 ] ، والفاء في قوله : فطبع سببة أي ثم كفروا ، فطبع على قلوبهم بسبب ذلك الكفر . وقد قدمنا مراراً أنه تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ، ومن المعلوم أن العلة الشرعية سبب شرعي . وكذلك الفاء في قوله : { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 3 ] فهي سببية أيضاً ، أي فطبع على قلوبهم ، فهم بسبب ذلك الطبع لا يفقهون أي لا يفهمون من براهين الله وحججه شيئاً . وذلك مما يبين أن الطبع والأكنة يؤول معناهما إلى شيء واحد ، وهو ما ينشأ عن كل منهما من عدم الفهم . لأنه قال في الطبع { فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 3 ] . وقال في الأكنة : { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [ الأنعام : 25 ] أي كراهة أن يفقهوه ، أو لأجل ألا يفقهوه ، كما قدمنا إيضاحه . وكقوله تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] فبين أن زيغهم الأول ، كان سبباً لإزاغة الله قلوبهم ، وتلك الإزاغة قد تكون بالأكنة والطبع والختم على القلوب . وكقوله تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] وقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] الآية . وقوله تعالى : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] الآية . وإيضاح هذا الجواب : أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَاب } [ فصلت : 5 ] يقصدون بذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يؤمنون به بوجه ، ولا يتبعونه بحال ، ولا يقرون بالحق الذي هو كون كفرهم هذا هو الجريمة ، والذنب الذي كان سبباً في الأكنة ، والوقر والحجاب . فدعواهم كاذبة ، لأن الله جعل لهم قلوباً يفهمون بها ، وآذاناً يسمعون بها ، خلافاً لما زعموا ، ولكنه ، سبب لهم الأكنة ، والوقر والحجاب ، بسبب مبادرتهم إلى الكفر ، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم . وهذا المعنى أوضحه رده تعالى على اليهود في قوله عنهم : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] . وقد حاول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة ، الجواب على الإشكال المذكور فقال : فإن قيل إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار فقال في معرض الذم ، وذكر أيضاً ما يقرب منه في معرض الذم ، فقال : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِم } [ البقرة : 88 ] ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معنى التقرير والإثبات في سورة الأنعام ، فقال : { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً } [ الأنعام : 25 ] فكيف الجمع بينهما ؟ قلنا : إنه لم يقل ها هنا إنهم كذبوا في ذلك ، إنما الذي ذمهم عليه ، أنهم قالوا إنا إذاً كنا كذلك ، لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا ، وهذا الثاني باطل . أما الأول : فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه . اهـ منه . والأظهر : هو ما ذكرنا . قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] . فإن قلت : هل لزيادة : من في قوله : ومن بيننا وبينك حجاب فائدة ؟ قلت : نعم . لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب ، لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين . وأما بزيادة " مِنْ " فالمعنى : أن حجاباً ابتدأ منا وابتدأ منك . فالمسافة المتوسطة لجهتنا ، وجهتك مستوعبة بالحجاب ، لا فراغ فيها . انتهى منه . واستحسن كلامه هذا الفخر الرازي وتعقبه ابن المنير على الزمخشري ، فأوضح سقوطه والحق معه في تعقبه عليه . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] ، وقد قدمنا تفسيره وإيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] .