Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 34-36)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أى قل يا محمد لهؤلاء الغافلين عن الحق هل من شركائكم الذين عبدتموهم من دون الله ، أو أشركتموهم مع الله ، من له القدرة على أن يبدأ خلق الإِنسان من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة … ثم ينشئه خلقا آخر ، ثم يعيده إلى الحياة مرى أخرى بعد موته ؟ قل لهم يا محمد الله وحده هو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده ، أما شركاؤكم فهم أعجز من أن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له … وإذا كان الأمر كذلك من الوضوح والظهور { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } والإِفك الصرف والقلب عن الشىء . يقال أفكه عن الشىء يأفكه أفكا ، إذا قلبه عنه وصرفه . أى فكيف ساغ لكم أن تصرفوا عقولكم عن عبادة الإِله الحق ، إلى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر ؟ ! وجاءت جملة { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ … } بدون حرف العطف على ما قبلها للإِيذان باستقلالها فى الحصول المطلوب ، وإثبات المقصود . وساق - سبحانه - الأدلة بأسلوب السؤال والاستفهام ، لأن الكلام إذا كان واضحا جليا ثم ذكر على سبيل الاستفهام ، وتفويض الجواب إلى المسئول كان ذلك أبلغ وأوقع فى القلب . وجعل - سبحانه - إعادة المخلوقات بعد موتها حجة عليهم فى التدليل على قدرته مع عدم اعترافهم بها ، للإِيذان بسطوع أدلتها ، لأن القادر على البدء يكون أقدر على الإِعادة كما قال - تعالى - { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ … } فلما كان إنكارهم لهذه الحقيقة الواضحة من باب العناد أو المكابرة ، نزل إنكارهم لها منزلة العدم . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله " فإن قلت كيف قيل لهم هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ، وهم غير معترفين بالإِعادة ؟ قلت قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن دفعه دافع كان مكابرا رادا الظاهر البين الذى لا مدخل للشبهة فيه ، ودلالة على أنهم فى إنكارهم لها منكرون أمرا مسلما معترفا بصحته عند العقلاء . وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } فأمره بأن ينوب عنهم فى الجواب . يعنى أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فتكلم أنت عنهم … " وقوله { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقّ } . حجة أخرى تدمغ جهلهم ، جىء بها لتكون دليلا على قدرة الله على الهداية والإِضلال ، عقب إقامة الأدلة على قدرته - سبحانه - على بدء الخلق وإعادتهم . أى قل لهم يا محمد - أيضا - على سبيل التهكم من أفكارهم هل من شركائكم من يستطيع أن يهدى غيره إلى الدين الحق ، فينزل كتاباً ، أو يرسل رسولا ، أو يشرع شريعة ، أو يضع نظاما دقيقا لهذا الكون . أو يحث العقول على التدبر والتفكر فى ملكوت السماوات والأرض … ؟ قل لهم يا محمد الله وحده هو الذى يفعل كل ذلك ، أما شركاؤكم فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئا من ذلك أو من غيره . وقوله { أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ … } توبيخ آخر لهم على جهالاتهم وغفلتهم عن إدراك الأمور الواضحة . أى قل لهم يا محمد أفمن يهدى غيره إلى الحق وهو الله - تعالى - . أحق أن يتبع فيما يأمر به وينهى عنه ، أم من لا يستطيع أن يهتدى بنفسه إلا أن يهديه غيره أحق بالاتباع ؟ لا شك أن الذى يهدى غيره إلى الحق أحق بالاتباع من الذى هو فى حاجة إلى أن يهديه غيره . وقوله { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } استفهام قصد به التعجيب من أحوالهم التى تدعو إلى الدهشة والغرابة . أى ما الذى وقع لكم ، وما الذى أصابكم فى عقولكم حتى صرتم تشركون فى العبادة مع الله الخالق الهادى ، مخلوقات لا تهدى بنفسها وإنما هى فى حاجة إلى من يخلقها ويهديها . قال الإِمام الرازى " واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا ثم بالهداية ثانيا ، عادة مطردة فى القرآن ، فقد حكى - سبحانه - عن إبراهيم أنه ذكر ذلك فقال { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } وعن موسى أنه قال { رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } وأمر محمدا - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ . ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ . وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } وهو فى الحقيقة دليل شريف ، لأن الإِنسان له جسد وله روح ، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية ، فها هنا أيضا لما ذكر دليل الخلق فى الآية الأولى وهو قوله { مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أتبعه بدليل الهداية فى هذه الآية . وقوله { أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ } ورد فيه ست قراءات ، منها قراءة يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال ، ومنها قراءة حمزة والكسائى بالتخفيف كيرمى ، ومنها قراءة ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع " يهدى " فتح الياء والهاء وتشديد الدال … والاستثناء فى قوله { أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ } مفرغ من أعم الأحوال . والتقدير أفمن يهدى إلى الحق أحق بالاتباع ، أم من لا يستطيع الهداية إلا أن يهديه إليها غيره أحق بالاتباع ؟ وجاء قوله - سبحانه - { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } باستفهامين متواليين ، زيادة فى توبيخهم وتقريعهم ، ولفت أنظارهم إلى الحق الواضح الذى لا يخفى على كل ذى عقل سليم . وقوله { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً … } توبيخ آخر لهم على انقيادهم للأوهام والظنون ، وتسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه منهم من إساءات . أى إن هؤلاء الذين أعرضوا عن دعوتك يا محمد ، لا يتبعون فى عقائدهم وعبادتهم لغير خالقهم سوى الظنون والأوهام التى ورثها الأبناء عن الآباء . وخص أكثرهم بالذكر ، لأن هناك قلة منهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ، ولكنهم لا يتبعونه عنادا وجحودا وحسدا ، كما قال - تعالى - { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } ويجوز أن يكون - سبحانه - خص أكثرهم بالذكر ، للإِشارة إلى أن هناك قلة منهم تعرف الحق ، وستتبعه فى الوقت الذى يريده الله - تعالى . والتنكير فى قوله { ظنا } للتنويع . أى لا يتبع أكثرهم إلا نوعا من الظن الواهى الذى لا يستند إلى دليل أو برهان . وقوله { إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } استئناف مسوق لبيان شأن الظن وبطلانه . والمراد بالظن هنا ما يخالف العلم واليقين ، والمراد بالحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع . أى إن الظن الفاسد المبنى على الأوهام لا يغنى صاحبه شيئا من الإِغناء ، عن الحق الثابت الذى لا ريب فى ثبوته وصحته . وقوله { شيئا } مفعول مطلق أى لا يغنى شيئا من الإِغناء ، ويجوز أن يكون مفعولا به على جعل يغنى بمعنى يدفع . وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } تذييل قصد به التهديد والوعيد . أى إن الله - تعالى - عليم بأقوالهم وأفعالهم ، وسيحاسبهم عليها يوم القيامة ، وسينالون ما يستحقونه من عقاب بسبب أقوالهم الباطلة . وأفعالهم الفاسدة . قال صاحب المنار ما ملخصه " استدل العلماء بهذه الآية على أن العلم اليقينى واجب فى الاعتقاديات ، ويدخل فى الاعتقاديات الإِيمان بأركان الإِسلام وغيرها من الفرائض والواجبات القطعية ، والإِيمان بتحريم المحظورات القطعية كذلك … أما ما دون العلم اليقينى مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به فى الاعتقاد وهو متروك للاجتهاد فى الأعمال ، كاجتهاد الأفراد فى الأعمال الشخصية ، واجتهاد أولى الأمر فى الإدارة والسياسة ، مع التقيد بالشورى وتحرى العدل … " . وبعد أن ساقت السورة الكريمة ألوانا من البراهين الدالة على وحدانية الله - تعالى - ، وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله تعالى ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن القرآن الكريم ، فتحدت أعداءه أن يأتوا بسورة مثله ، ووصفتهم بالجهالة وسفاهة الرأى ، وصورت أحوالهم ومواقفهم من دعوة الحق تصويرا بليغا . استمع إلى السورة الكريمة وهى تتحدث عن كل ذلك فتقول { وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن … }