Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 50-54)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله " أرأيتم " بمعنى أخبرونى . وكلمة أرأيت تستعمل فى القرآن للتنبيه والحث على الرؤية والتأمل ، فهو استفهام للتنبيه مؤداه أرأيت كذا أو عرفته ؟ إن لم تكن أبصرته أو عرفته فانظره وتأمله وأخبرنى عنه . ولما كانت الرؤية للشىء سببا لمعرفته وللإِخبار عنه ، أطلق السبب وأريد المسبب فهو مجاز مرسل علاقته السببية والمسببية . وقوله بياتا أى ليلا ، ومنه البيت لأنه يبات فيه . يقال بات يبيت بيتا وبياتا . والمعنى أخبرونى أيها الجاهلون الحمقى أى دافع جعلكم تستعجلون نزول العذاب ؟ إن وقوع العذاب سواء أكان بالليل أم بالنهار لا يمكن دفعه ، ولا يمكن أن يتعجله عاقل ، لأنه - كما يقول صاحب الكشاف - كل مكروه ، مر المذاق ، موجب للنفار منه ، فكيف ساغ لكم أن تستعجلوا نزول شىء فيه هلاككم ومضرتكم ؟ ! ! وقال - سبحانه - { بياتا } ولم يقل ليلا ، للإِشعار بمجئ العذاب فى وقت غفلتهم ونومهم بحيث لا يشعرون به ، فهم قد يقضون جانبا من الليل فى اللهو واللعب ، ثم ينامون فيأتيهم العذاب فى هذا الوقت الذى هجعوا فيه . فالآية الكريمة توبيخ لهم على استعجالهم وقوع شىء من شأن العقلاء أنهم يرجون عدم وقوعه . ولذا قال القرطبى " قوله { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ } استفهام معناه التهويل والتعظيم . أى ما أعظم ما يستعجلون به . كما يقال لمن يطلب أمرا تستوخم عاقبته ماذا تجنى على نفسك " . وجواب الشرط لقوله { إِنْ أَتَاكُمْ … } محذوف والتقدير إن أتاكم عذابه فى أحد هذين الوقتين أفزعكم وأهلككم فلماذا تستعجلون وقوع شىء هذه نتائجه ؟ وقد ذكر صاحب الكشاف وجها آخر بعد أن ذكر هذا الوجه فقال فإن قلت فهلا قيل ماذا يستعجلون منه ؟ قلت أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإِجرام ، لأن من شأن المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعا من مجيئه وإن أبطأ - فضلا عن أن يستعجله - ويجوز أن يكون { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ } جوابا للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمنى . وقوله - سبحانه - { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ … } زيادة فى تجهيلهم وتأنيبهم والهمزة داخلة على محذوف ، و { ثم } حرف عطف يدل على الترتيب والتراخى وجىء به هنا للدلالة على زيادة الاستبعاد . والمعنى إنكم أيها الجاهلون لستم بصادقين فيما تطلبون ، لأنكم قبل وقوع العذاب تتعجلون وقوعه ، فإذا ما وقع وشاهدتم أهواله . وذقتم مرارته … آمنتم بأنه حق ، وتحول استهزاؤكم به إلى تصديق وإذعان وتحسر . وقوله { الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } قصد به زيادة إيلامهم وحسرتهم ولفظ { الآنَ } ظرف زمان يدل على الحال الحاضرة ، وهو فى محل نصب على أنه ظرف لفعل مقدر . أى قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب الآن آمنتم بأنه حق ؟ مع أنكم قبل ذلك كنتم به تستهزئون ، وتقولون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأتباعه { مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ألا فلتعلموا أن إيمانكم فى هذا الوقت غير مقبول ، لأنه جاء فى غير أوانه ، وصدق الله إذ يقول { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَافِرُونَ } وقوله { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } تأكيد لتوبيخهم وتأنيبهم بعد أن نزل بهم العذاب ، وهو معطوف على لفظ " قيل " المقدر قبل لفظ { الآن } . أى قيل لهم الآن آمنتم بأن العذاب حقيقة بعد أن كنتم به تستعجلون ؟ ثم قيل لهؤلاء الظالمين الذين أصروا على الكفر واقتراف المنكرات ذوقوا عذاب الخلد أى العذاب الباقى الدائم ، إذ الخلد والخلود مصدر خلد الشىء إذا بقى على حالة واحدة لا يتغير . والاستفهام فى قوله { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } للنفى والإِنكار . أى لا تجزون إلا بالجزاء المناسب لما كنتم تكسبونه فى الدنيا من كفر بالحق ، وإيذاء للدعاة إليه ، وتكذيب بوحى الله - تعالى - . ثم قال - سبحانه - { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } النبأ كما يقول الراغب . خبر ذو فائدة عظيمة ، يحصل به علم أو غلبة ظن . والاستنباء طلب الأخبار الهامة . أى إن هؤلاء الضالين يطلبون منك - أيها الرسول الكريم - على سبيل التهكم والاستهزاء ، أن تخبرهم عن هذا العذاب الذى توعدتهم به ، أهو واقع بهم على سبيل الحقيقة ، أم هو غير واقع ولكنك تحدثهم عنه على سبيل الإِرهاب والتهديد ؟ وقوله { قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } إرشاد من الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى الجواب الذى يرد به عليهم . ولفظ { أي } بكسر الهمزة وسكون الياء - حرف جواب وتصديق بمعنى نعم ، إلا أنه لا يستعمل إلا مع القسم . أى قل لهم يا محمد نعم وحق ربى إن العذاب الذى أخبرتكم به لا محيص لكم عنه وما أنتم بمعجزى الله - تعالى - إذا أراد أن ينزله بكم فى أى وقت يريده ، بل أنتم فى قبضته وتحت سلطانه وملكه ، فاتقوا الله ، بأن تخلصوا به العبادة ، وتتبعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءكم به من عنده - سبحانه - . وقد أكد سبحانه - الجواب عليهم بأتم وجوه التأكيد ، لأنهم كانوا قوما ينكرون أشد الإِنكار أن يكون هناك عذاب وحساب وبعث وجنة ونار . قال ابن كثير " وهذه الآية ليس لها نظير فى القرآن إلا آيتان أخريان ، يأمر الله - تعالى - رسوله فيهما أن يقسم به على من أنكر المعاد ، أما الآية الأولى فهى قوله - تعالى - { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ … } وأما الآية الثانية فهى قوله - تعالى - { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ … } وجملة { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } إما معطوفة على جواب القسم ، أو مستأنفة سبقت لبيان عجزهم عن الخلاص ، وتأكيد وقوع العذاب عليهم . ثم بين - سبحانه - أنهم لن يستطيعوا افتداء أنفسهم من العذاب عند وقوعه فقال - تعالى - { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ } . أى ولو أن لكل نفس تلبست بالظلم بسبب شركها وفسوقها ، جميع ما فى الأرض من مال ومتاع ، وأمكنها أن تقدمه كفداء لها من العذاب يوم القيامة ، لقدمته سريعا دون أن تبقى منه شيئا حتى تفتدى ذاتها من العذاب المهين . ومفعول { افتدت } محذوف . أى لافتدت نفسها به . ولو هنا امتناعية ، أى امتنع افتداء كل نفس ظالمة ، لامتناع ملكها لما تفدى به ذاتها وهو جميع ما فى الأرض من أموال ، ولامتناع قبول ذلك منها فيما لو ملكته على سبيل الفرض . وقوله { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } بيان لما انتابهم من حسرات عند مشاهدتهم لأهوال العذاب المعد لهم . و { أَسَرُّواْ } من الإِسرار بمعنى الإِخفاء والكتمان . يقال أسر فلان الحديث . أى خفض صوته به ، ويقابله الإِعلان والجهر ، ومنه قوله - تعالى - { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } والندامة والندم ما يجده الإِنسان فى نفسه من آلام وحسرات على أقوال أو أفعال سيئة ، فات أوان تداركها . أى وأخفى هؤلاء الظالمون الندامة حين رأوا بأبصارهم مقدمات العذاب ، وحين أيقنوا أنهم لا نجاة لهم منه ، ولا مصرف لهم عنه . قال صاحب الكشاف " قوله - سبحانه - { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ، ولم يخطر ببالهم ، وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ، ما سلبهم قواهم ، وبهرهم ، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع ، سوى إسرار الندم والحسرة فى القلوب ، كما ترى المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخبط ويغلب ، حتى لا ينبس بكلمة ويبقى جامدا مبهوتا . وقيل أسر رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم ، حياء منهم وخوفا من توبيخهم … وقيل أسروا الندامة أظهروها من قولهم أسر الشىء إذا أظهره وليس هناك تجلد " . وقوله { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بيان لعدالة الله فى أحكامه بين عباده . أى وقضى الله - تعالى - بين هؤلاء الضالمين وبين غيرهم بالعدل دون أن يظلم أحدا . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته ، وسعة رحمته ، ، وعلى أنه وحده الذى يملك التحليل والتحريم ، ويعلم السر وأخفى فقال - تعالى - { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ … }