Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 55-61)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أى ألا إن لله وحده لا لغيره ، ملك ما فى السماوات والأرض من مخلوقات ، وهو - سبحانه - يتصرف فيها وفق إرادته ومشيئته كما يتصرف المالك فيما يملكه ، فهو يعطى من يشاء ويغفر لمن يشاء ، ويتوب على من يشاء { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } وقوله { أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أى ألا إن كل ما وعد الله به الناس من ثواب وعقاب وغيرهما ، ثابت ثبوتا لا ريب فيه ، وواقع وقوعا لا محيص عنه . وصدرت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح { ألا } الدالة على التنبيه ، لحض الغافلين عن هذه الحقيقة على التذكر والاعتبار والعودة إلى طريق الحق . وأعيد حرف التنبيه فى جملة { أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } لتمييزها بهذا التنبيه عن سابقتها ، لأنها مقصودة بذاتها إذ أن المشركين كانوا يظنون أن ما وعدهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو من باب الترغيب والترهيب وليس من باب الحقائق الثابتة . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى ولكن أكثر هؤلاء الناس الذين بعثت إليهم يا محمد ، لا يعلمون ما جئت به علما نافعا لسوء استعدادهم ، وضعف عقولهم ، وخبث نفوسهم . وقال { أَكْثَرَهُمْ } إنصافا للقلة المؤمنة التى علمت الحق فاتبعته وصدقته ، ووقفت إلى جانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تؤيده وتفتدى دعوته بالنفس والمال . وقوله { هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بيان لكمال قدرته ، إثر بيان عظم ملكوته ، ونفاذ وعده . أى هو - سبحانه - الذى يحيى من يريد إحياءه ويميت من يريد إماتته وإليه وحده ترجعون جميعا ، فيحاسبكم على أعمالكم ، ويجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى . ثم وجه - سبحانه - نداء إلى الناس ، أمرهم فيه بالانتفاع بما اشتمل عليه القرآن الكريم ، من خيرات وبركات فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } . والموعظة معناها التذكير بالتزام الحق والخير ، واجتناب الباطل والشر ، بأسلوب يلين القلوب ، ويرقق النفوس . والشفاء هو الدواء الشافى من كل ما يؤذى ، ويجمع على أشفيه . والهدى هو الإِرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المقصد والبغية ، والرحمة معناها الإِحسان ، أو إرادة الإِحسان . والمعنى يا أيها الناس قد جاءكم من الله - تعالى - كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من موعظة حسنة ترق لها القلوب ، وتخشع لها النفوس . وتصلح بها الأخلاق ومن شفاء لأمراض صدوركم . ومن هداية لكم إلى طريق الحق والخير ، ومن رحمة للمؤمنين ترفعهم إلى أعلى الدرجات وتكفر ما حدث منهم من سيئات . وجاء هذا الإِرشاد والتوجيه عن طريق النداء ، استمالة لهم إلى الحق بألطف أسلوب ، وأكمل بيان ، حتى يثوبوا إلى رشدهم ، ويتنبهوا من غفلتهم . ووصفت الموعظة بأنها من ربكم ، لتذكيرهم بما يزيدهم تعظيما وقبولا ، لأنها لم تصدر عن مخلوق تحتمل توجيهاته الخطأ والصواب ، وإنما هى صادرة من خالق النفوس ومربيها ، العليم بما يصلحها ويشفيها . وقيد الرحمة بأنها للمؤمنين ، لأنهم هم المستحقون لها ، بسبب إيمانهم وتقواهم . قال الآلوسى ما ملخصه " واستدل بالآية على أن القرآن يشفى من الأمراض البدنية كما يشفى من الأمراض القلبية ، فقد أخرج ابن مردويه عن أبى سعيد الخدرى قال " جاء رجل إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال إنى اشتكى صدرى ، فقال - عليه الصلاة والسلام - " اقرأ القرآن ، يقول الله - تعالى - شفاء لما فى الصدور " . وأخرج البيهقى فى الشعب عن وائلة بن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وجع حلقه ، فقال له " عليك بقراءة القرآن " . وأنت تعلم أن الاستدلال بهذه الآية على ذلك مما لا يكاد يسلم ، والخبر الثانى لا يدل عليه ، إذ ليس فيه أكثر من أمره - صلى الله عليه وسلم - الشاكى بقراءة القرآن إرشادا له إلى ما ينفعه ويزول به وجعه . ونحن لا ننكر أن لقراءة القرآن بركة ، قد يذهب الله بسببها الأمراض والأوجاع ، وإنما ننكر الاستدلال بالآية على ذلك . والخبر الأول وإن كان ظاهرا فى المقصود ، لكن ينبغى تأويله ، كأن يقال لعله - صلى الله عليه وسلم - اطلع على أن فى صدر الرجل مرضا معنويا قلبيا ، قد صار سببا للمرض الحسى البدنى ، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بقراءة القرآن ليزول عنه الأول فيزول الثانى . والحسن البصرى ينكر كون القرآن شفاء للأمراض ، فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال " إن الله - تعالى - جعل القرآن شفاء لما فى الصدور ، ولم يجعله شفاء لأمراضكم ، والحق ما ذكرناه " . وقوله { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } حض للناس على اغتنام ما فى تعاليم الإِسلام من خيرات ، وإيثارها على ما فى الدنيا من شهوات . أى قل يا محمد لمن يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة اجعلوا فرحكم الأكبر ، وسروركم الأعظم ، بفضل الله الذى شرع لكم هذا الدين على لسان رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبرحمته التى وسعت كل شىء وهى بالمؤمنين أوسع ، لا بما تجمعون فى هذه الدنيا من أموال زائلة ومتع فانية . وقد فسر بعضهم فضل الله ورحمته بالقرآن ، ومنهم من فسر فضل الله بالقرآن ، ورحمته بالإِسلام . ومنهم من فسرهما بالجنة والنجاة من النار . ولعل تفسيرهما بما يشمل كل ذلك أولى لأنه لم يرد نص صحيح عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - يحدد المراد منهما ، وما دام الأمر كذلك فحملهما على ما يشمل الإِسلام والقرآن والجنة أولى . قال ابن كثير قوله - تعالى - { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أى بهذا الذى جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى مما يفرحون به من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية والذاهبة لا محالة . فعن أيفع بن عبد الكلاعى قال لما قدم خراج العراق إلى عمر - رضى الله عنه - خرج عمر ومولى له ، فجعل يعد الإِبل ، فإذا هى أكثر من ذلك ، فجعل عمر يقول الحمد لله - تعالى - ويقول مولاه هذا والله من فضل الله ورحمته . فقال عمر كذبت ليس هذا هو الذى يقول الله - تعالى - { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } . أى ليس هذا المال هو المعنى بهذه الآية ، وإنما فضل الله ورحمته يتمثل فيما جاءهم من الله - تعالى - من دين قويم ، ورسول كريم ، وقرآن مبين . ودخلت الباء على كل من الفضل والرحمة ، للإِشعار باستقلال كل منهما بالفرح به . والجار والمجرور فى كل منهما متعلق بمحذوف ، وأصل الكلام قل لهم يا محمد ليفرحوا بفضل الله وبرحمته ، ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإِفادة الاختصاص ، وأدخلت الفاء لإِفادة السببية ، فكأنه قيل إن فرحوا بشىء فليكن بسبب ما أعطاهم الله - تعالى - من فضل ورحمته ، لا بسبب ما يجمعون من زينة الحياة الدنيا . قال القرطبى " والفرح لذة فى القلب بإدراك المحبوب . وقد ذم الله الفرح فى مواضع ، كقوله - سبحانه - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } وكقوله { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } ولكنه مطلق . فإذا قيد الفرح لم يكن ذما ، لقوله - تعالى { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } وكقوله - سبحانه - هنا { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أى بالقرآن والإِسلام فليفرحوا … " . ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد أيضا على أولئك الذين أحلوا وحرموا على حسب أهوائهم دون أن يأذن الله لهم بذلك فقال { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } أى قل لهم يا محمد - أيضا - أخبرونى أيها المبدلون لشرع اله على حسب أهوائكم إن الله - تعالى - قد أفاض عليكم ألوانا من الرزق الحلال فجئتم أنتم ، وقسمتم هذا الرزق الحلال ، فجعلتم منه حلالا وجعلتم منه حراما . وقد حكى الله - تعالى - فعلهم هذا فى آيات متعددة ، منها قوله - تعالى - { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا } قال الإِمام ابن كثير " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ، نزلت إنكارا على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصائل كقوله - تعالى - { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً … } الآيات . وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبى إسحاق ، سمعت أبا الأحوص وهو " عوف بن مالك بن نضلة يحدث عن أبيه قال أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا رث الهيئة فقال هل لك مال ؟ قلت نعم . قال من أى المال ؟ قال قلت من كل المال . من الإِبل والرقيق والخيل والغنم . فقال إذا آتاك الله مالا فلير عليك ثم قال هل تنتج إبلك صحاحا آذانها ، فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول هذه بحر . وتشق جلودها وتقول هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك . قال نعم . قال فإن ما آتاك الله لك حل . ساعد الله أشد من ساعدك . وموسى الله أحد من موساك " . وقوله { قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } استفهام قصد به التوبيخ والزجر أى قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والزجر إن الله وحده هو الذى يملك التحليل والتحريم ، فهل هو - سبحانه - أذن لكم فى ذلك ، أو إنما أنتم الذين حللتم وحرمتم على حسب أهوائكم . لأنه لو أذن لكم فى ذلك لبينه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - . قال صاحب الكشاف " وقوله { ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } متعلق بأرأيتم ، وقل . تكرير للتوكيد . والمعنى أخبرونى آلله أذن لكم فى التحليل والتحريم ، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تكذبون على الله فى نسبة ذلك إليه . ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار وأم منقطعة ، بمعنى بل أتفترون على الله ، تقريرا للافتراء . ثم قال وكفى بهذه الآية زاجرا بليغا عن التجوز فيما يسأل عنه من الأحكام ، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه ، وأن لا يقول أحد فى شىء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان ، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت وإلا فهو مفتر على الله " . ثم توعدهم - سبحانه - بسوء المصير على جرأتهم وكذبهم فقال { وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ … } . أى هؤلاء الذين أحلوا وحرموا افتراء على الله ماذا يظنون أن الله سيفعل بهم يوم القيامة ؟ أيظنون أن الله سيتركهم بدون عقاب ؟ كلا إن عقابهم لشديد بسبب افترائهم عليه الكذب . وأبهم - سبحانه - هذا العقاب للتهويل والتعظيم ، حيث أباحوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله - تعالى - وقال - سبحانه - { وَمَا ظَنُّ … } بصيغة الماضى لتحقيق الوقوع ، وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بهذه الصيغة لهذا الغرض . وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } تذييل قصد به حض الناس على شكر خالقهم ، واتباع شريعته فيما أحل وحرم . أى إن الله لذو فضل عظيم على عباده ، حيث خلقهم ورزقهم ، وشرع لهم ما فيه مصلحتهم ومنفعتهم ، ولكن أكثرهم لا يشكرونه على هذه النعم ، لأنهم يستعملونها فى غير ما خلقت له . وبعد أن ذكر - سبحانه - عباده بفضله ، وما يجب عليهم من شكره ، عطف على ذلك تذكيره إياهم بإحاطة علمه بكل صغير وكبير فى هذا الكون فقال { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً … } . أى وما تكون - أيها الرسول الكريم - فى شأن من الشئون أو فى حال من الأحوال . وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن يهدى إلى الرشد . ولا تعملون - أيها الناس - عملا ما صغيرا أو كبيرا ، إلا كنا عليكم مطلعين . ومن فى قوله { منه } للتعليل ، والضمير يعود إلى الشأن ، إذ التلاوة أعظم شئونه - صلى الله عليه وسلم - ولذا خصت بالذكر . ويجوز أن يعود للقرآن الكريم ، ويكون الإِضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه ، وتعظيم أمره . ومن فى قوله { مِن قُرْآنٍ } مزيدة لتأكيد النفى . وقال الآلوسى " والخطاب الأول خاص برأس النوع الإِنسانى ، وسيد المخاطبين - صلى الله عليه وسلم - هذا . وقوله { وَلاَ تَعْمَلُونَ … } عام يشمل سائر العباد برهم وفاجرهم وقد روعى فى كل من المقامين ما يليق به ، فعبر فى مقام الخصوص فى الأول بالشأن ، لأن عمل العظيم عظيم ، وفى الثانى بالعمل العام للجليل والحقير . وقيل الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما فى قوله - تعالى - { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ } وقوله { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً } استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة . أى وما تلابسون بشىء منها فى حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه ، حافظين له " . وقوله { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أى تخوضون وتندفعون فى ذلك العمل ، لأن الإِفاضة فى الشىء معناها الاندافع فيه بكثرة وقوة . وقوله { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } بيان لشمول علمه - سبحانه - لكل شىء . ويعزب أى يبعد ويغيب ، وأصله من قولهم عزب الرجل يعزب بإبله إذا أبعد بها وغاب فى طلب الكلأ والعشب . والكلام على حذف مضاف . أى وما يغيب ويخفى عن علم ربك مثقال ذرة فى الوجود علويه وسفلية ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، إلا وهو معلوم ومسجل عنده فى كتاب عظيم الشأن ، تام البيان . وقوله { مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } تمثيل لقلة الشىء ودقته ، ومن فيه لتأكيد النفى وقدمت الأرض على السماء هنا ، لأن الكلام فى حال أهلها ، والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه - سبحانه - بتفاصيلها . فكأنه - سبحانه - يقول إن من يكون هذا شأنه لا يخفى عليه شىء من أحوال أهل الأرض مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - . وقوله { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } جملة مستقلة لسيت معطوفة على ما قبلها . و { لا } نافية للجنس و { أصغر } اسمها منصوب لشبهه بالمضاف ، و { أكبر } معطوف عليه . و { فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } متعلق بمحذوف خبرها . وقدم ذكر الأصغر على الأكبر ، لأنه هو الأهم فى سياق العلم بما خفى من الأمور . وقرأ حمزة ويعقوب وخلف { وَلاَ أَصْغَرَ } بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أى ولا ما هو أصغر من ذلك . والمراد بالكتاب المبين علم الله الذى وسع كل شىء ، أو اللوح المحفوظ الذى حفظ الله فيه كل شىء . وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد أقامت الأدلة على شمول قدرة الله - تعالى - لكل شىء ، وعلى دعوة الناس إلى الانتفاع بما جاء به القرآن من خيرات وبركات ، وعلى وجوب التزامهم بما شرعه - سبحانه - وعلى إحاطة علمه بما ظهر وبطن من الأمور . وبعد أن وجه - سبحانه - نداء إلى الناس دعاهم فيه إلى الانتفاع بما جاء فى القرآن من خيرات ، وتوعد الذين شرعوا شرائع لم يأذن بها الله ، وأقام الأدلة على نفاذ قدرته ، وشمول علمه . بعد كل ذلك ، بشر أولياءه بحسن العاقبة ، وأنذر أعداءه بسوء المصير ، ورد على الذين قالوا اتخذ الله ولداً بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم فقال - تعالى - { أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ … } .