Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 101-105)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - تعالى - { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ … } التبديل رفع الشئ مع وضع غيره مكانه . فتبديل الآية رفعها بآية أخرى . وجمهور المفسرين على أن المراد بالآية هنا الآية القرآنية . وعلى أن المراد بتبديلها نسخها . قال صاحب الكشاف تبديل الآية مكان الآية هو النسخ ، والله - تعالى - ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح ، وما كان مصلحة بالأمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم وخلافه مصلحة . والله - تعالى - عالم بالمصالح والمفاسد ، فيثبت ما يشاء ، وينسخ ما يشاء بحكمته … وقال الجمل قوله - تعالى - { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ … } وذلك أن المشركين من أهل مكة قالوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم يسخر بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا ، ما هذا إلا مفترى يتقوله من تلقاء نفسه ، فأنزل الله - تعالى - { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ … } والمعنى وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر . وقال الآلوسى قوله - تعالى - { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } أى وإذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه . وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها … ومنهم من يرى أن المراد بالآية هنا " الآية الكونية " أى المعجزة التى أتى بها كل نبى لقومه وأن المراد بتبديلها الإِتيان بمعجزة أخرى سواها . قال الشيخ القاسمى عند تفسيره لهذه الآية وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدمين . كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية ، بآية أخرى نفسية علمية ، وهى كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل . فبدلت تلك - وهى الآيات الكونية - بآية هو كتاب العلم والهدى من نبى أمى صلى الله عليه وسلم . ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن قوله - تعالى - بعد ذلك { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ … } يدل دلالة واضحة على أن المراد بالآية ، الآية القرآنية . وقوله - سبحانه - { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } جملة معترضة بين الشرط وجوابه للمسارعة إلى توبيخ المشركين وتجهيلهم . أى والله - تعالى - أعلم من كل مخلوق بما هو أصلح لعباده ، وبما ينزله من آيات ، وبما يغير ويبدل من أحكام ، فكل من الناسخ والمنسوخ منزل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } وقوله - تعالى - { قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } جواب الشرط ، وهو حكاية لما تفوهوا به من باطل وبهتان وقوله { مفتر } من الافتراء وهو أشنع أنواع الكذب . أى قال المشركون للنبى صلى الله عليه وسلم عند تبديل آية مكان آية إنما أنت يا محمد تختلق هذا القرآن من عند نفسك ، وتفتريه من إنشائك واختراعك . . وقوله - تعالى - { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم . أى لا تهتم - أيها الرسول الكريم - بما قاله هؤلاء المشركون فى شأنك وفى شأن القرآن الكريم ، فإن أكثرهم جهلاء أغبياء ، لا يعلمون ما فى تبديلنا للآيات من حكمة ، ولا يفقهون من أمر الدين الحق شيئا . وقال - سبحانه - { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } للإِشارة إلى أن هناك قلة منهم تعرف الحق وتدركه ، ولكنها تنكره عنادا وجحودا وحسدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله . ثم لقن الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم الرد الذى يقذفه على باطلهم فيزهقه فقال { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ } وروح القدس هو جبريل - عليه السلام - ، والإِضافة فيه إضافة الموصوف إلى الصفة . أى الروح المقدس . ووصف بالقدس لطهارته وبركته . وسمى روحا لمشابهته الروح الحقيقى فى أن كلا منهما مادة الحياة للبشر ، فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإِلهية تحيا به القلوب ، والروح تحيا به الأجسام . والمعنى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاهلين ، إن هذا القرآن الذى تزعمون أننى افتريته ، قد نزل به الروح الأمين على قلبى من عند ربى ، نزولا ملتبسا بالحق الذى لا يحوم حوله باطل ، ليزيد المؤمنين ثباتا فى إيمانهم ، وليكون هداية وبشارة لكل من أسلم وجهه لله رب العالمين . وفى قوله { من ربك } تكريم وتشريف للرسول صلى الله عليه وسلم حيث اختص - سبحانه - هذا النبى الكريم بإنزال القرآن عليه ، بعد أن رباه برعايته ، وتولاه بعنايته . وقوله { بالحق } فى موضع الحال ، أى نزله إنزالا ملتبسا بالحكمة المقتضية له ، بحيث لا يفارقها ولا تفارقه . وقوله { لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ } بيان للوظيفة التى من أجلها نزل القرآن الكريم ، وهى وظيفة تسعد المؤمنين وحدهم ، أما الكافرون فهم بعيدون عنها . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك مقولة أخرى من مقولات المشركين فقال - تعالى - { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ … } . قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه يقول - تعالى - مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء إن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما يعلمه هذا الذى يتلوه علينا من القرآن بشر ، ويشيرون إلى رجل أعجمى كان بياعا يبيع عند الصفا ، وربما كان النبى صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشئ ، وذاك كان أعجمى اللسان لا يعرف إلا اليسير من العربية . وعن عكرمة وقتادة كان اسم ذلك الرجل " يعيش " ، وعن ابن عباس كان اسمه " بلعام " ، وكان أعجمى اللسان ، وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده ، فقالوا إنما يعلمه بلعام ، فأنزل الله هذه الآية . والمعنى ولقد نعلم - أيها الرسول الكريم - علما مستمرا لا يعزب عنه شئ مما يقوله المشركون فى شأنك ، من أنك تتعلم القرآن من واحد من البشر . قال الآلوسى وإنما لم يصرح القرآن باسم من زعموا أنه يعلمه - عليه الصلاة والسلام - مع أنه أدخل فى ظهور كذبهم ، للإِيذان بأن مدار خطئهم ، ليس بنسبته صلى الله عليه وسلم إلى التعلم من شخص معين ، بل من البشر كائنا من كان ، مع كونه صلى الله عليه وسلم معدنا لعلوم الأولين والآخرين . وقوله - تعالى - { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } رد عليهم فيما زعموه وافتروه . والمراد باللسان هنا الكلام الذى يتكلم به الشخص ، واللغة التى ينطق بها . وقوله { يلحدون } من الإِلحاد بمعنى الميل . يقال لحد وألحد ، إذا مال عن القصد ، وسمى الملحد بذلك ، لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها . والأعجمى نسبة إلى الأعجم وهو الذى لا يفصح فى كلامه سواء أكان من العرب أم من العجم . وزيدت فيه ياء النسب على سبيل التوكيد . والمعنى لقد كذبتم - أيها المشركون - كذبا شنيعا صريحا ، حيث زعمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه القرآن بشر ، مع أن لغة هذا الإِنسان الذى زعمتم أنه يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم لغة أعجمية ، ولغة هذا القرآن لغة عربية فى أعلى درجات البلاغة والفصاحة ، فقد أعجزكم بفصاحته وبلاغته ، وتحداكم وأنتم أهل اللسن والبيان أن تأتوا بسورة من مثله . فخبرونى بربكم ، من أين للأعجمى أن يذوق بلاغة هذا التنزيل وما حواه من العلوم ، فضلا عن أن ينطق به ، فضلا عن أن يكون معلما له ! ! . ثم هدد - سبحانه - المعرضين عن آياته بقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على وحدانيته - سبحانه - وعلى صدق نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه . { لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ } إلى طريق الحق فى الدنيا ، بسبب زيغهم وعنادهم وإيثارهم الغى على الرشد . { ولهم } فى الآخرة عذاب أليم جزاء إصرارهم على الباطل ، وإعراضهم عن الآيات التى لو تأملوها واستجابوا لها لاهتدوا إلى الصراط المستقيم . ثم بين - سبحانه - أن افتراء الكذب لا يصدر عن المؤمنين فضلا عن الرسول الأمين ، وإنما يصدر عن الكافرين فقال - تعالى - { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ } أى يختلقه ويخترعه { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على وحدانيته وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وعلى صدق رسله ، وعلى صحة البعث يوم القيامة ، لأن عدم إيمانهم بذلك يجعلهم لا يخافون عقابا ، ولا يرجون ثوابا . { وأولئك } الكافرون بما يجب الإِيمان به { هم الكاذبون } فى قولهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يعلمه بشر ، وفى قولهم { إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } وفى غير ذلك من أقوالهم الباطلة ، التى حاربوا بها دعوة الحق . قال بعض العلماء ولا يخفى ما فى الحصر بعد القصر من العناية بمقامه - صلوات الله عليه - ، وقد كان أصدق الناس وأبرهم … بحيث كانوا يلقبونه بالصادق الأمين . ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان فقال له - من بين ما قال - هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال لا . فقال هرقل ما كان ليدع الكذب على الناس ، ويكذب على الله - تعالى - . وفى هذه الآية دلالة على أن الكذب من أكبر الكبائر ، وأفحش الفواحش . والدليل عليه أن كلمة " إنما " للحصر . " وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم قيل له هل يكذب المؤمن ؟ قال " لا ، ثم قرأ هذه الآية " . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حكم من أكره على النطق بكلمة الكفر ، وحكم من استحب الكفر على الإِيمان فقال - تعالى - { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ … } .