Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 118-119)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال ابن كثير - رحمه الله - لما ذكر - تعالى - أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، وإنما أرخص فيه عند الضرورة وفى ذلك توسعة لهذه الأمة التى يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر - ، ذكر - سبحانه - بعد ذلك ما كان حرمه على اليهود فى شريعتهم قبل أن ينسخها ، وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج ، فقال { وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ … } . أى فى سورة الأنعام فى قوله { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } والمعنى وعلى اليهود بصفة خاصة ، دون غيرهم من الأمم ، حرمنا بعض الطيبات التى سبق أن بيناها لك فى هذا القرآن الكريم ، وما كان تحريمنا إياها عليهم إلا بسبب بغيهم وظلمهم . وفى الآية الكريمة إبطال لمزاعمهم ، حيث كانوا يقولون لسنا أول من حرمت عليه هذه الطيبات ، وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم وغيرهما ممن جاء بعدهما . وقوله { من قبل } متعلق بحرمنا ، أو بقصصنا . وبذلك يتبين أن ما حرمه الله - تعالى - على الأمة الإِسلامية ، كالميتة والدم ولحم الخنزير … كان من باب الرحمة بها ، والحرص على مصلحتها … أما ما حرمه - سبحانه - على اليهود ، فقد كان بسبب بغيهم وظلمهم . وقوله - تعالى - { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بيان لمظهر من مظاهر عدل الله - تعالى - فى معاملته لعباده . أى وما ظلمنا هؤلاء اليهود بتحريم بعض الطيبات عليهم ، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم ، حيث تركوها تسير فى طريق الشيطان ، ولم يوقفوها عند حدود الله - تعالى - ، فاستحقوا بسبب ذلك ما استحقوا من عقوبات . وصدق الله إذ يقول { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وقوله - سبحانه - { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ … } بيان لسعة رحمته - سبحانه - بعباده ، ورأفته بهم . والمراد بالجهالة الجهل والسفه اللذان يحملان صاحبهما على ارتكاب ما لا يليق بالعقلاء ، وليس المراد بها عدم العلم . قال مجاهد كل من عصى الله - تعالى - عمدا أو خطأ فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته . وقال ابن عطيه الجهالة هنا بمعنى تعدى الطور ، وركوب الرأس لا ضد العلم . ومنه ما جاء فى الخبر " اللهم إنى أعوذ بك من أن أجهل ، أو يجهل على " . ومنه قول الشاعر @ ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين @@ والمعنى ثم إن ربك - أيها الرسول الكريم - ، لكثير الغفران والرحمة لأولئك الذين عملوا الأعمال السيئة ، بدافع الجهل والسفه والطيش وعدم تدبر العواقب ، ثم إنهم بعد ذلك تابوا توبة صادقة عن تلك الأعمال السيئة ، ولم يكتفوا بذلك بل أصلحوا من شأن أنفسهم ، حيث أوقفوها عند حدود الله - تعالى - وأجبروها على تنفيذ أوامره ، واجتناب نواهيه . قال الآلوسى والتقييد بالجهالة قيل لبيان الواقع ، لأن كل من يعمل السوء لا يعمله إلا بجهالة . وقال العسكرى ليس المعنى أنه - تعالى - يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ، ولا يغفر لمن عمله بدون جهالة ، بل المراد أن جميع من تاب فهذه سبيله . وإنما خص من يعمل السوء بجهالة ، لأن أكثر من يأتى الذنوب يأتيها بقلة فكر فى عاقبة الأمر ، أو عند غلبة الشهوة ، أو فى جهالة الشباب فذكر الأكثر على عادة العرب فى مثل ذلك . واسم الاشارة فى قوله { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ } يعود إلى الأعمال السيئة التى عملوها قبل التوبة والإِصلاح . أى ثم تابوا توبة صادقة من بعد أن عملوا ما عملوا من سيئات ، وأصلحوا نفوسهم فهيأوها للسير على الطريق المستقيم . والضمير فى قوله { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } يعود إلى التوبة وما يصاحبها من فعل للطاعات ومن اجتناب للسيئات . أى إن ربك - أيها الرسول الكريم - من بعد هذه التوبة النصوح ، لكثير المغفرة والرحمة للتائبين . والتعبير - بثم - فى قوله { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ … } وقوله { … ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } لبيان الفرق الشاسع بين رحمة الله - تعالى - بعباده ، وبين ما يصدر عن بعضهم من كفران وارتكاب للمعاصى ، وبين المصرين على فعل السوء ، وبين التائبين عنه . وكرر - سبحانه - { إن ربك } مرتين فى الآية الواحدة ، لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه . وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } ثم مدح - سبحانه - خليله ابراهيم مدحا عظيما ، وأنه بشره بالعطاء الذى يسعده فى دنياه وآخرته ، وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة أبيه إبراهيم ، فقال - تعالى - { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } .