Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 90-93)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال القرطبى ما ملخصه قوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإِحْسَانِ } اختلف العلماء فى تأويل العدل والإِحسان ، فقال ابن عباس العدل لا إله إلا الله ، والإِحسان أداء الفرائض . وقيل العدل الفرض . والإِحسان النافلة ، وقال على بن أبى طالب العدل الإِنصاف . والإحسان التفضل . وقال ابن العربى العدل بين العبد وربه إيثار حقه - تعالى - على حظ نفسه ، وتقديم رضاه على هواه ، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر . وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعه ما فيه هلاكها … وأما العدل بينه وبين غيره فبذل النصيحة ، وترك الخيانة فيما قل أو كثر ، والإِنصاف من نفسك لهم بكل وجه . وأما الإِحسان فهو مصدر أحسن يحسن إحسانا . ويقال على معنيين أحدهما متعد بنفسه ، كقولك أحسنت كذا ، أى حسنته وأتقنته وكملته ، وهو منقول بالهمزة من حسن الشئ . وثانيهما متعد بحرف جر ، كقولك أحسنت إلى فلان ، أى أوصلت إليه ما ينتفع به . وهو فى هذه الآية مراد بالمعنيين معا … ومن هذا الكلام الذى نقلناه بشئ من التلخيص عن الإِمام القرطبى ، يتبين لنا أن العدل هو أن يلتزم الإِنسان جانب الحق والقسط فى كل أقواله وأعماله ، وأن الإِحسان يشمل إحسان الشئ فى ذاته سواء أكان هذا الشئ يتعلق بالعقائد أم بالعبادات أم بغيرهما ، كما يشمل إحسان المسلم إلى غيره . فالإِحسان أوسع مدلولا من العدل لأنه إذا كان العدل معناه أن تعطى كل ذى حق حقه ، بدون إفراط أو تفريط ، فإن الإِحسان يندرج تحته أن تضيف إلى ذلك العفو عمن أساء إليك ، والصلة لمن قطعك ، والعطاء لمن حرمك . وإيثار صيغة المضارع فى قوله { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ … } لإِفادة التجدد والاستمرار . ولم يذكر - سبحانه - متعلقات العدل والإِحسان ليعم الأمر جميع ما يعدل فيه ، وجميع ما يجب إحسانه وإتقانه من أقوال وأعمال ، وجميع ما ينبغى أن تحسن إليه من إنسان أو حيوان أو غيرهما . وقوله - تعالى - { وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ } فضيله ثالثة معطوفة على ما قبلها من عطف الخاص على العام ، إذ هى مندرجة فى العدل والإِحسان . وخصها - سبحانه - بالذكر اهتماما بأمرها ، وتنويها بشأنها ، وتعظيما لقدرها . والإِيتاء مصدر بمعنى الإِعطاء ، وهو هنا مصدر مضاف لمفعوله . والمعنى إن الله - يأمركم - أيها المسلمون - أمرا دائما وواجبا ، أن تلتزموا الحق والإِنصاف فى كل أقوالكم وأفعالكم وأحكامكم ، وأن تلتزموا التسامح والعفو والمراقبة لله - تعالى - فى كل أحوالكم . كما يأمركم أن تقدموا لأقاربكم على سبيل المعاونة والمساعدة ، ما تستطيعون تقديمه لهم من خير وبر … لأن هذه الفضائل متى سرت بينكم ، نلتم السعادة فى دينكم ودنياكم ، إذ بالعدل ينال كل صاحب حق حقه ، وبالإِحسان يكون التحاب والتواد والتراحم ، وبصلة الأقارب يكون التكافل والتعاون . … وبعد أن أمر - سبحانه - بأمهات الفضائل ، نهى عن رءوس الرذائل فقال - تعالى - { وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ … } . والفحشاء كل ما اشتد قبحه من قول أو فعل . وخصها بعضهم بالزنا . والمنكر كل ما أنكر الشرع بالنهى عنه ، فيعم جميع المعاصى والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها . والبغى هو تجاوز الحد فى كل شئ يقال بغى فلان على غيره ، إذا ظلمه وتطاول عليه . وأصله من بغى الجرح إذا ترامى إليه الفساد … أى كما أمركم - سبحانه - بالعدل والإِحسان وإيتاء ذى القربى ، فإنه - تعالى - ينهاكم عن كل قبيح وعن كل منكر ، وعن كل تجاوز لما شرعه الله - عز وجل - . وذلك لأن هذه الرذائل ما شاعت فى أمة إلا وكانت عاقبتها خسرا ، وأمرها فرطا ، والفطرة البشرية النقية تأبى الوقوع أو الاقتراب من هذه الرذائل ، لأنها تتنافى مع العقول السليمة ، ومع الطباع القويمة . ومهما روج الذين لم ينبتوا نباتا حسنا لتلك الرذائل ، فإن النفوس الطاهرة ، تلفظها بعيدا عنها ، كما يلفظ الجسم الأشياء الغريبة التى تصل إليه . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أى ينبهكم - سبحانه - أكمل تنبيه وأحكمه إلى ما يصلحكم عن طريق اتباع ما أمركم به وما نهاكم عنه ، لعلكم بذلك تحسنون التذكر لما ينفعكم ، وتعملون بمقتضى ما علمكم - سبحانه . هذا ، وقد ذكر المفسرون فى فضل هذه الآية كثيرا من الآثار والأقوال ، ومن ذلك ما أخرجه الحافظ أبو يعلى فى كتاب معرفة الصحابة … قال " بلغ أكثم بن صيفى مخرج النبى صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأتيه ، فأبى قومه أن يدعوه وقالوا له أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه . قال فليأته من يبلغه عنى ويبلغنى عنه . فانتدب رجلان فأتيا النبى صلى الله عليه وسلم فقال له نحن رسل أكثم بن صيفى وهو يسألك من أنت وما أنت ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم " أما أنا فمحمد ابن عبد الله ، وأما ما أنا ، فأنا عبد الله ورسوله " . ثم تلا عليهم هذه الآية { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ … } الآية . فقالوا ردد علينا هذا القول ، فردده عليهم حتى حفظوه ، فأتيا أكثم فقالا له أبى أن يرفع نسبه فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكى النسب … وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها فلما سمعهن أكثم قال إنى أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها ، فكونوا فى هذا الامر رءوسا ، ولا تكونوا فيه أذنابا " . وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال أعظم آية فى كتاب الله { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ … } وأجمع آية فى كتاب الله للخير والشر { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } وأكثر آية فى كتاب الله تفويضا { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ … } وأشد آية فى كتاب الله رجاء { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً … } ثم أمرهم - سبحانه - بالوفاء بالعهود فقال { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ … } . والعهد ما من شأنه أن يراعى ويحفظ ، كاليمين والوصية وما يشبههما . وعهد الله أوامره ونواهيه وتكاليفه الشرعية التى كلف الناس بها ، والوفاء بعهد الله - تعالى - يتأتى بتنفيذ أوامره وتكاليفه ، واجتناب ما نهى عنه . قال القرطبى قوله - تعالى - { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ … } لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ، ويلتزمه الإِنسان من بيع أو صلة ، أو مواثقة فى أمر موافق للديانة . وهذه الآية مضمن قوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } لأن المعنى فيها افعلوا كذا ، وانتهوا عن كذا ، فعطف على ذلك التقدير . وقد قيل إنها نزلت فى بيعة النبى صلى الله عليه وسلم على الإِسلام . وقيل نزلت فى التزام الحلف الذى كان فى الجاهلية ، وجاء الإِسلام بالوفاء به - كحلف الفضول - . والعموم يتناول كل ذلك … والمعنى إن الله يأمركم - أيها المسلمون - بالعدل والإِحسان وإيتاه ذى القربى ، ويأمركم - أيضا - بالوفاء بالعهود التى التزمتم بها مع الله - تعالى - أو مع الناس . والآيات التى وردت فى وجوب الوفاء بالعهود كثيرة ومن ذلك قوله - تعالى - { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } وخص - سبحانه - الأمر بالوفاء بالعهد بالذكر - مع أنه داخل فى المأمورات التى اشتملت عليها الآية السابقة كما أشار إلى ذلك القرطبى فى كلامه السابق - لأن الوفاء بالعهود من آكد الحقوق وأوجبها على الإِنسان . وقوله تعالى { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } ومن الأحاديث التى وردت فى ذلك ما رواه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " . وقوله - سبحانه - { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا … } تأكيد للأمر بالوفاء ، وتحذير من الخيانة والغدر . والنقض فى اللغة حقيقة فى فسخ ما ركب بفعل يعاكس الفعل الذى كان به التركيب . واستعمل هنا على سبيل المجاز فى إبطال العهد . والأيمان جمع يمين . وتطلق بمعنى الحلف والقسم . وأصل ذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا توثيق عهودهم بالقسم يقسمونه ، ووضع كل واحد من المتعاهدين يمينه فى يمين صاحبه . أى كونوا أوفياء بعهودكم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، أى بعد توثيقها وتغليظها عن طريق تكرارها بمرة ومرتين ، أو عن طريق الإِتيان فيها ببعض أسماء الله - تعالى - وصفاته . وقوله - تعالى - { بعد توكيدها } للإِشعار بأن نقض الأيمان وإن كان قبيحا فى كل حالة ، فهو فى حالة توكيد الأيمان وتغليظها أشد قبحا . ولذا قال بعض العلماء " وهذا القيد لموافقة الواقع ، حيث كانوا يؤكدون أيمانهم فى المعاهدة ، وحينئذ فلا مفهوم له ، فلا يختص النهى عن النقض بحالة التوكيد ، بل نقض اليمين منهى عنه مطلقا . أو يراد بالتوكيد القصد ، ويكون احترازا عن لغو اليمين . وهى الصادرة عن غير قصد للحلف " . وقال الإِمام ابن كثير ما ملخصه " ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه فى الصحيحين أنه قال " إنى والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذى هو خير وتحللتها " وفى رواية " وكفرت عن يمينى " لأن هذه الأيمان المراد بها فى الآية الداخلة فى العهود والمواثيق ، لا الأيمان التى هى واردة فى حث أو منع … " . والخلاصة ، أن الآية الكريمة تنهى المؤمن عن نقض الأيمان نهيا عاما ، إلا أن السنة النبوية الصحيحة قد خصصت هذا التعميم بإباحة نقض اليمين إذا كانت مانعة من فعل الخير ، ويؤيد هذا التخصيص قوله - تعالى - { وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ … } وجملة { وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً … } حال من فاعل { تنقضوا } ، وهى مؤكدة لمضمون ما قبلها من وجوب الوفاء بالعهود والنهى عن نقضها . والكفيل من يكفل غيره ، أى يضمنه فى أداء ما عليه . أى ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، والحال أنكم قد جعلتم الله - تعالى - ضامنا لكم فيما التزمتم به من عهود ، وشاهدا ورقيبا على أقوالكم وأعمالكم . فالجملة الكريمة تحذر المتعاهدين من النقض بعد أن جعلوا الله - تعالى - كفيلا عليهم . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بهذا التهديد الخفى فقال - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } . أى إن الله - تعالى - يعلم ما تفعلون من الوفاء أو النقض ، وسيجازيكم بما تستحقون من خير أو شر ، فالمراد من العلم لازمه ، وهو المجازاة على الأعمال . ثم ضرب - سبحانه - مثلا لتقبيح نقض العهد ، فقال - تعالى - { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } . وقوله { غزلها } اى مغزولها ، فهو مصدر بمعنى المفعول . والفعل منه غزل يغزل - بكسر الزاى . . من باب ضرب . يقال غزلت المرأة الصوف أو القطن غزلا . والجار والمجرور فى قوله { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } متعلق بالفعل { نقضت } أى نقضته وأفسدته من بعد إبرامه وإحكامه . و { أنكاثا } حال مؤكدة من { غزلها } ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ، بتضمين الفعل نقضت معنى صيرت أو جعلت . والأنكاث جمع نكث - بكسر النون - ، بمعنى منكوث أى منقوض ، وهو ما نقض وحل فتله ليغزل ثانيا ، والجمع أنكاث كحمل وأحمال . يقال نكث الرجل العهد نكثا - من باب قتل - إذا نقضه ونبذه ، ومنه قوله - تعالى - { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } قال ابن كثير هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه . وقال مجاهد وقتادة وابن زيد هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده . وهذا أرجح وأظهر سواء أكان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا . والمعنى كونوا - أيها المسلمون - أوفياء بعهودكم ، ولا تنقضوها بعد إبرامها ، فإنكم إن نقضتموها كان مثلكم كمثل تلك المرأة الحمقاء ، التى كانت تفتل غزلها فتلا محكما ، ثم تنقضه بعد ذلك ، وتتركه مرة أخرى قطعا منكوثة محلولة … فالجملة الكريمة تحقر فى كل جزئية من جزئياتها ، حال من ينقض العهد ، وتشبهه على سبيل التنفير والتقبيح بحال امرأة ملتاثه فى عقلها ، مضطربة فى تصرفاتها . وقوله - سبحانه - { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } . إبطال للأسباب التى كان يتخذها بعض الناس ذرائع ومبررات لنقض العهود . والدَّخَل - بفتح الخاء - المكر والغش والخديعة . وهو فى الأصل اسم للشئ الذى يدخل فى غيره وليس منه . قال الراغب والدخل كناية عن الفساد والعداوة المستبطنة ، كالدَّغلَ ، وعن الدعوة فى النسب … ومنه قيل شجرة مدخولة - أى ليست من جنس الأشجار التى حولها . وقوله { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ … } متعلق بقوله { تتخذون } . وقوله { أربى } مأخوذ من الربو بمعنى الزيادة والكثرة . يقال رَبَا الشئ يربوا إذا زاد وكثر . والمعنى لا تكونوا مشبهين لامرأة هذا شأنها ، حالة كونكم متخذين أيمانكم وأقسامكم وسيلة للغدر والخيانة ، من أجل أن هناك جماعة أوفر عددا وأكثر مالا من جماعة أخرى . قال القرطبى قال المفسرون نزلت هذه الآية فى العرب الذين كانت القبيلة منهم إذا حالفت أخرى ، ثم جاءت إحداهما قبيلة أخرى كبيرة قوية فداخلتها غدرت بالأولى ونقضت عهدها ، ورجعت إلى هذه الكبرى ، فنهاهم الله - تعالى - أن ينقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى ، أو أكثر أموالا … وقال الفراء المعنى لا تغدروا بقوم لقلتهم وكثرتكم ، أو لقلتكم وكثرتهم وقد عززتموهم بالأيمان . وقال ابن كثير قال مجاهد كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز ، فنهوا عن ذلك . والخلاصة أن الآية الكريمة تدعو إلى وجوب الوفاء بالعهود فى جميع الأحوال ، وتنهى عن اللجوء إلى الذرائع الباطلة ، من أجل نقض العهود ، إذ الإِسلام لا يقر هذه الذرائع وتلك المبررات ، بدعوى أن هناك جماعة أقوى من جماعة ، أو دولة أعز من دولة ، وإنما الذى يقره الإِسلام هو مراعاة الوفاء بالعهود ، وعدم اتخاذ الأيمان وسيلة للغش والخداع . والضمير المجرور فى قوله { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ } يعود على مضمون الجملة المتقدمة وهى قوله - تعالى - { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } . أى إنما يبلوكم الله ويختبركم بكون أمة أربى من أمة ، لينظر أتفُون بعهودكم أم لا . وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله قوله - تعالى - { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ } الضمير لقوله { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ … } لأنه فى معنى المصدر . أى إنما يختبركم بكونهم أربى ، لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله ، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم . وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم . ويجوز أن يعود إلى ما أمر الله به من الوفاء بالعهد ، فيكون المعنى إنما يبلوكم الله ويختبركم بما أمركم به من الوفاء بالعهود ، ومن النهى عن النقض ليظهر لكم المطيع من العاصى ، وقوى الإِيمان من ضعيفه . ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان أن مرد الفصل بين العباد فيما اختلفوا فيه إليه - تعالى - وحده ، فقال { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيجازى أهل الحق بما يستحقون من ثواب ، ويجازى أهل الباطل بما هم أهله من عقاب . ثم بين - سبحانه - أن قدرته لا يعجزها شئ فقال - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ } أيها الناس { أمة واحدة } متفقة على الحق { ولكن } لحكم يعلمها ولا تعلمونها ، ولسنن وضعها فى خلقه { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } إضلاله لاستحبابه العمى على الهدى ، وإيثاره الغى على الرشد { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } هدايته لحسن استعداده ، وسلامة اختياره ، ونهيه النفس عن الهوى . { ولتسألن } أيها الناس يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة { عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } فى الدنيا ، فيثيب الطائعين بفضله ، ويعاقب العصاة بعدله . وبعد أن أمر - سبحانه - بالوفاء بالعهود ونهى عن نقضها بصفة عامة ، أتبع ذلك بالنهى عن الحنث فى الإِيمان بصفة خاصة ، فقال تعالى { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ … } .