Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 94-97)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فقوله - سبحانه - { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } تصريح بالنهى عن اتخاذ الإِيمان من أجل الغش والخديعة ، بعد النهى عن نقض العهود بصفة عامة . أى ولا تتخذوا - أيها المؤمنون - الحلف بالله - تعالى - ذريعة إلى غش الناس وخداعهم واستلاب حقوقهم ، فقد جرت عادة الناس أن يطمئنوا إلى صدق من يقسم بالله - تعالى - ، فلا تجعلوا هذا الاطمئنان وسيلة للكذب عليهم ، ولإِفساد ما بينكم وبينهم من مودة . ثم رتب - سبحانه - على هذا النهى ما من شأنه أن يردع النفوس عن اتخاذ الأيمان دخلا فقال { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } وأصل الزلل الخروج عن الطريق السليم . يقال زل فلان يزل زللا وزلولا ، إذا دحضت قدمه ولم تصب موضعها الصحيح أى لا تتخذوا أيمانكم وسيلة للخديعة والإِفساد بين الناس ، فتزل أقدامكم عن طريق الإِسلام بعد ثبوتها عليها ، ورسوخها فيها ، قالوا والجملة الكريمة مثل يُضْرَب لكل من وقع فى بلية ومحنة ، بعد أن كان فى عافية ونعمة . قال صاحب الكشاف فإن قلت لم وحدت القدم ونكرت ؟ قلت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق . بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة ؟ . وقوله { وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } بيان لما يصيبهم من عذاب دنيوى بسبب اتخاذ أيمانهم دخلا بينهم . أى وتذوقوا السوء وهو العذاب الدنيوى من المصائب والخوف والجوع ، بسبب صدودكم وإعراضكم عن أوامر الله ونواهيه ، أو بسبب صدكم لغيركم عن الدخول فى دين الله ، حيث رأى منكم ما يجعله ينفر منكم ومن دينكم . والتعبير بتذوقوا فيه إشارة إلى أن العذاب الدنيوى الذى سينزل بهم بسبب اتخاذهم أيمانهم دخلا بينهم ، سيكون عذابا شديدا يحسون آلامه إحساسا واضحا ، كما يحس الشارب للشئ المر مرارته ، ويتذوق آلامه . قال ابن كثير حذر الله - تعالى - عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا ، أى خديعة ومكرا ، لئلا تزل قدم بعد ثبوتها مثل لمن كان على الاستقامة وحاد عنها ، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة ، المشتملة على الصد عن سبيل الله ، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به ، لم يبق له وثوق بالدين ، فانصد بسببه عن الدخول فى الإِسلام . وقوله { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } لا يعلم مقدار شدته وهوله إلا الله - عز وجل - فأنت ترى أن الآية الكريمة قد رتبت على اتخاذ الأيمان دخلا ، انقلاب حالة الإِنسان من الخير إلى الشر ، ونزول العذاب الدنيوى والأخروى به . ثم نهاهم - سبحانه - عن أن يبيعوا دينهم بدنياهم فقال - تعالى - { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } . والاشتراء هنا استعارة للاستبدال ، والذى استبدل به الثمن القليل هو الوفاء بعهد الله . والمراد بعهد الله - تعالى - أوامره ونواهيه التى كلفنا بالتزامها والعمل بمقتضاها . والمراد بالثمن القليل حظوظ الدنيا وشهواتها وزينتها من الأموال وغيرها . والمعنى ولا تستبدلوا بأوامر الله - تعالى - ونواهيه ، عرضا قليلا من أعراض الدنيا الزائلة ، بأن تنقضوا عهودكم فى مقابل منفعة دنيوية زائلة . وليس وصف الثمن بالقلة فى قوله { ثمنا قليلا } من الأوصاف المخصصة للنكرات ، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل فى مقابل عدم الوفاء بالعهد ، إذ لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب رضا الله - تعالى - . ورحم الله الإِمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية الكريمة { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أى لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها ، فإنها قليلة ، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له . ثم رغبهم - سبحانه - فيما عنده فقال { إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . أى إن ما ادخره الله - تعالى - لكم من ثواب عظيم ، وأجر جزيل ، وحياة طيبة ، هو خير لكم من ذلك الثمن القليل الذى تتطلعون إليه ، وتنقضون العهود من أجله ، إن كنتم من أهل العلم والفطنة ، الذين يؤثرون الباقى على الفانى . قال الآلوسى قوله { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أى إن كنتم من أهل العلم والتمييز . فالفعل منزل منزلة اللازم . وقيل متعد ، والمفعول محذوف ، وهو فضل ما بين العوضين ، والأول أبلغ ومستغن عن التقدير . ثم أضاف - سبحانه - إلى ترغيبهم فى العمل بما يرضيه ترغيبا آخر فقال { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } . أى ما عندكم من متاع الدنيا وزهرتها يفنى وينقضى ويزول ، وما عند الله - تعالى - فى الآخرة من عطاء باق لا يفنى ولا يزول ، فآثروا ما يبقى على ما ينفد . يقال نفد الشئ بكسر الفاء - ينفد - بفتحها - نفادا ونفودا ، إذا ذهب وفنى . ثم بشر - سبحانه - الصابرين على طاعته بأعظم البشارات فقال { وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . أى ولنجزين الذين صبروا على طاعتنا ، واجتنبوا معصيتنا ، ووفوا بعهودنا ، بجزاء أفضل وأكرم مما كانوا يعملونه فى الدنيا من خيرات وطاعات . وأكد - سبحانه - هذه البشارة بلام القسم ، ونون التوكيد ، لترغيبهم فى الثبات على فضيلة الصبر ، وعلى الوفاء بالعهد . قال الجمل ما ملخصه وقوله { أجرهم } مفعول ثان لنجزى . وقوله { بأحسن } نعت لمحذوف ، أى بجزاء أحسن من عملهم الذى كانوا يعملونه فى الدنيا ، والباء بمعنى على . ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين الذين يحرصون على العمل الصالح فقال - تعالى - { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . أى من عمل عملا صالحا ، بأن يكون خالصا لوجه الله - تعالى - وموافقا لما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم سواء أكان هذا العامل المؤمن ذكرا أم أنثى ، فلنحيينه حياة طيبة ، يظفر معها بصلاح البال ، وسعادة الحال . وقال - سبحانه - { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } مع أن لفظ " مَنْ " فى قوله { من عمل } يتناول الذكور والإِناث للتنصيص على النوعين ، حتى يكون أغبط لهما ، ولدفع ما قد يتوهم من أن الخطاب للذكور وحدهم . ولذا قال صاحب الكشاف فإن قلت " مَن " متناول فى نفسه للذكر والأنثى فما معنى تبيينه بهما ؟ قل هو مبهم صالح على الإِطلاق للنوعين ، إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور ، فقيل { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ } على التبيين ليعم الوعد النوعين جميعا . وقيد - سبحانه - العامل بكونه مؤمنا فقال { وهو مؤمن } لبيان أن العمل لا يكون مقبولا عند الله - تعالى - إلا إذا كان مبنيا على العقيدة الصحيحة ، وكان صاحبه يدين بدين الإِسلام ، وقد أوضح القرآن هذا المعنى فى آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } والمراد بالحياة الطيبة فى قوله - تعالى - { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } الحياة الدنيوية التى يحياها المؤمن إلى أن ينقضى أجله . قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه هذا وعد من الله - تعالى - لمن عمل صالحا من ذكر أو أنثى ، بأن يحييه الله حياة طيبة فى الدنيا … والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أى جهة كانت . وقد روى عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال ، وعن على بن أبى طالب أنه فسرها بالقناعة . والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ، كما جاء فى الحديث الذى رواه الإِمام أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه " . وقيل المراد بالحياة الطيبة هنا الحياة الأخروية ، وقد صدر الشيخ الآلوسى تفسيره بهذا الرأى فقال ما ملخصه قوله - تعالى - { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } والمراد بالحياة الطيبة التى تكون فى الجنة ، إذ هناك حياة بلا موت ، وغنى بلا فقر ، وصحة بلا سقم ، وسعادة بلا شقاوة … فعن الحسن لا تطيب الحياة لأحد إلا فى الجنة . وقال شريك هى حياة تكون فى البرزخ … وقال غير واحد هى فى الدنيا . ويبدو لنا أن تفسير الحياة الطيبة هنا بأنها الحياة الدنيوية أرجح ، لأن الحياة الأخروية جاء التصريح بها بعد ذلك فى قوله - تعالى - { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . فلو فسرنا الحياة الطيبة بالحياة الأخروية لكان فى الآية الكريمة ما يشبه التكرار ، ولكننا لو فسرناها بالحياة الدنيوية لكانت الآية الكريمة مبينة لجزاء المؤمنين فى الدارين . وأيضا فإن قول النبى صلى الله عليه وسلم السابق " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا " يشير إلى أن المراد بالحياة الطيبة ، الحياة الدنيوية ، لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة . وعلى ذلك يكون المعنى الإِجمالى للآية الكريمة من عمل عملا صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة فى الدنيا ، يظفر معها بالسعادة وصلاح البال ، والأمان والاطمئنان ، أما فى الآخرة فسنجزيه جزاء أكرم وأفضل مما كان يعمله فى الدنيا من أعمال صالحة . قال صاحب الكشاف قوله { حياة طيبة } يعنى فى الدنيا ، وهو الظاهر لقوله { ولنجزينهم } وعدهم الله ثواب الدنيا والآخرة ، كقوله { فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ … } وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا ، يعيش عيشا طيبا ، إن كان موسرا فلا مقال فيه ، وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله . وأما الفاجر فأمره على العكس . إن كان معسرا فلا إشكال فى أمره ، وإن كان موسرا ، فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه . ثم أشار - سبحانه - إلى أن من الأعمال الصالحة ، أن يستعيذ المسلم عند قراءته للقرآن الكريم من الشيطان الرجيم ، فقال - تعالى { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ … } .