Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 248-249)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
التابوت " يوزن فعلوت - من التوب وهو الرجوع ، وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كجبروت ، والمراد به صندوق التوراة وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم . وكان عهدهم به قد طال فذكرهم بمآثره ترغيباً فيه وحملا على الانقياد لطالوت " . والسكينة من السكون وهو ثبوت الشىء بعد التحرك أو من السكن - بالتحريك - وهو كل شىء سكنت إليه النفس وهدأت . والمعنى وقال لهم نبيهم ليقنعهم بأن طالوت جدير بالملك { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ } أى علامة ملكه وأنه من الله - تعالى - { أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ } أى أن يرد عليكم التابوت الذى سلب منكم { فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أى فى إتيانه سكون لنفوسكم وطمأنينة لها أو مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ } من آثار تعتزون بها ، وترون فيها صلة بين ماضيكم وحاضركم وقوله { تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } حال من التابوت . قال صاحب الكشاف قوله { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ } هى رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشىء من التوراة . وكان رفعه الله - تعالى - بعد موسى - عليه السلام - فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه ، فكان ذلك آية لاصطفائه لطالوت . فإن قلت من هم آل موسى وآل هارون . قلت الأنبياء من بنى يعقوب بعدهما ، ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما . وقال ابن كثير قال ابن عباس جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدى طالوت والناس ينظرون . ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { إِنَّ فى ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } أى إن فى ذلك الذى أتاكم به طالوت الآية عظيمة وعلامة ظاهرة لكم تدل على أحقية طالوت بالملك والقيادة إن كنتم مؤمنين بآيات الله وبالحق الذى جاء به أنبياؤه . وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد حكى لنا أن هؤلاء القوم من بنى إسرائيل قد جاءهم نبيهم بأنصع الحجج ، وأوضح الأدلة ، وأثبت البراهين التى تؤيده فيما يدعوهم إليه . ثم بين - سبحانه - ما دار بين طالوت وجنوده فقال { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } . { فَصَلَ } بمعنى الفصل . قال الزمخشرى " فصل عن موضع كذا إذا انفصل عنه وجاوزه . وأصله فصل نفسه . ثم كثر حذف المفعول حتى صار فى حكم غير المتعدى كانفصل . وقيل فصل عن البلد فصولا . ويجوز أن يكون فصله فصلا ، وفصل فصولا كوقف وصد ونحوهما والمعنى انفصل عن بلده . " و النهر بالفتح والسكون - المجرى الواسع الذى يجرى فيه الماء مأخوذ من نهر الأرض بمعنى شقها . أى فلما انفصل بهم عن المكان الذى كانوا يقيمون فيه ، وتوجهوا معه لقتال جالوت وجنوده ، قال لهم { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } أى مختبركم وممتحنكم بنهر ، وكان طالوت قد سار بهم فى أرض قفرة فأصابهم عطش شديد . وفى هذا الابتلاء اختبار لعزيمتهم ، وامتحان لصبرهم على المتاعب حتى يتميز من يصير على الحرب ممن لا يصبر ، ومن شأن القواد الأقوياء العقلاء أنهم يختبرون جنودهم قبل اقتحام المعارك حتى يكونوا على بينة من أمرهم . ثم بين لهم موضع الاختبار فقال . { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } . { يَطْعَمْهُ } أى يذقه من طعم الشىء يطعمه إذا ذاقه مأكولا أو مشروباً . { غُرْفَةً } - بالضم - اسم للشىء المغترف وجمعه غراف . وأما الغرفة - بالفتح - فهى اسم للمرة الواحدة من الغرف وقيل هما لغتان بمعنى واحد . أى قال لهم طالوت من شرب من هذا النهر فليس من شيعتى ، فعليه أن يتركنى ولا يصاحبنى فى خوض هذه المعركة لأنه ثبت ضعفه وخوره ، ومن لم يذقه أصلا فإنه من شيعتى وحزبى الذى سيكون معى فى هذه المعركة الخطيرة . ثم أباح لهم أن يغترفوا من النهر غرفة يخففون بها من عطشهم فقال { إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } فإنه لا يخرج بذل عن كونه منى . وفى هذه الجملة الكريمة قدم - سبحانه - جواب الشرط على الاستثناء من الشرط فقد قال { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } والتأليف المعهود للناس أن يقال ومن لم يطعمه إلا من اغترف بيده فإنه منى ولكن الآية الكريمة جاءت بتقديم الجواب على الاستثناء لحكمة بليغة ، وهى المسارعة إلى بيان الحكم ، وإثبات أن أساس الصلة التى تربطهم بنبيهم أن يمتثلوا أمره وألا يشربوا من النهر ، ثم رخص لهم بعد ذلك فى الاغتراف باليد غرفة واحدة . وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال فإن قلت مم استثنى قوله { إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ } قلت من قوله { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } والجملة الثانية فى حكم المتأخرة إلا أنها قدمت للعناية … ومعناه الرخصة فى اغتراف الغرفة باليد دون الكروع " . ثم ختم - سبحانه - ما كان من بنى إسرائيل نتيجة لهذا الامتحان فقال { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } . أى فشربوا من النهر حتى امتلأت بطونهم مخالفين بذلك أمر قائدهم فى وقت تعظم فيه المخالفة لأنه وقت إقدام على الحرب ، إلا عدداً قليلا منهم فإنهم لم يشربوا إلا كما رخص لهم قائدهم . وعلى هذا التفسير - الذى قال به جمهور المفسرين - يكون جميع الذين مع طالوت قد شربوا من النهر إلا أن كثيراً منهم قد شربوا حتى امتلأت بطونهم مخالفين أمر قائدهم ، وقلة منهم شربت غرفة واحدة وهى التى رخص لهم قائدهم فى شربها . وبعض المفسرين يقسم اتباع طالوت ثلاثة أقسام قسم شرب كثيراً مخالفاً أمر طالوت . وقسم شرب غرفة واحدة بيده كما رخص له قائده . وقسم لم يشرب أصلا لا قليلاً ولا كثيراً مؤثراً العزيمة على الرخصة وهذا القسم هو الذى اعتمد عليه طالوت اعتماداً كبيراً فى تناوله لأعدائه . وممن ذكر هذا التقسيم من المفسرين الإِمام القرطبى فقد قال " قال ابن عباس شربوا على قدر يقينهم ، فشرب الكفار شرب الهيم ، وبقى بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً ، وأخذ بعضهم الغرفة ، فأما من شرب فلم يرو بل برح به العطش ، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة " . ثم بين - سبحانه - ما كان من أتباع طالوت بعد اجتيازهم للنهر معه فقال { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِه } . أى فلما جاوز طالوت ومن معه النهر وتخطوه ، وشاهدوا كثرة جند جالوت ، قال بعض الذين مع طالوت لبعض بقلق ووجل لا قدرة لنا اليوم على محاربة أعدائنا ومقاومتهم فهم أكثر منا عَدداً ، وأوفر عُددا . والضمير { هُوَ } فى قوله { هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } مؤكد للضمير المستكن فى جاوز . والقائلون ، هذا القول هم بعض المؤمنين الذين عبروا معه النهر ، ولم يقولوا ذلك هروباً أو نكوصاً عن القتال ، وإنما قالوه كمظهر من مظاهر الوجل الذى يعترى بعض النفوس عند الاستعداد للقتال ، لأن الذين عصوا الله وخالفوا طالوت بشربهم من النهر جبنوا عن لقاء العدو ولم يسيروا معه لقتالهم . أما المؤمنون الصادقون الذين اتصلت قلوبهم بالله ، والذين أذعنوا أنه لا نصر إلا منه ولا اعتماد إلا عليه ، فقد حكى القرآن موقفهم المشرف فقال { قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } . أى قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو الله يوم القيامة فيحاسبهم على أعمالهم . قالوا مشجعين لإِخوانهم الذين تهيبوا قتال أعدائهم كم من جماعة قليلة بإيمانها وصبرها تغلبت بإذن الله وتيسيره على جماعة كثيرة بسبب كفرها وجبنها وتفككها ، والله - تعالى - بعونه وتأييده مع الصابرين . وعلى هذا التفسير يكون المراد بلقاء الله الحشر إليه بعد الموت ، ومجازاة الناس على ما قدموا من عمل ، ويكون المراد بالظن اليقين لأن كل مؤمن متيقن بأن البعث حق . ويجوز أن يكون المراد بلقاء الله قربهم من رضاه يوم القيامة ، وإثابتهم على جهادهم بالجنة ، وعليه يكون الظن على معناه الحقيقى وهو الاعتقاد الراجح ، لأن خواتيم الحياة لا يعلمها كيف تكون سوى علام الغيوب . و { كَم } فى قولهم { كَم مِّن فِئَةٍ } خبرية للتكثير ، وفى هذا التعبير الذى حكاه القرآن عنهم دليل على قوة إيمانهم وصفاء نفوسهم وثقتهم فى نصر الله ثقة لا تحد ، لأنهم أتوا بصيغة التكثير حتى لكأنما أن القاعدة العامة هى انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة الكافرة . وفى تعليقهم النصر على إذن الله للإِشعار بأنهم لم يعتمدوا على قوتهم وثباتهم وشجاعتهم فحسب وإنما جعلوا اعتمادهم الأكبر على تأييد الله لهم . وهذا شأن العقلاء يبذلون أقصى جهدهم فى بلوغ غايتهم مستعينين على ذلك بتأييد الله وتوفيقه . ورحم الله الإِمام القرطبى الذى عاصر دول الإِسلام فى الأندلس وهى تسير فى طريق الضعف والتدهور فقد قال فى ختام تفسيره لهذه الآية قلت هكذا يجب علينا أن نفعل ؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة ، منعت من ذلك حتى انكسر العدد الكبير منا أمام اليسير من العدو وكما شاهدناه غير مرة ، وذلك بما كسبت أيدينا ! وفى البخارى وقال أبو الدرداء إنما تقاتلون بأعمالكم . وفى البخارى - أيضاً - أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل ، والاعتماد ضعيف ، والتقوى زائلة ! ! قال - تعالى - { ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } وقال { وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا } وقال { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } وقال { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } وقال { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } فهذه أسباب النصر وشروطه وهى معدومة عندنا غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا " . ثم حكى القرآن بعد ذلك ما قاله المؤمنون الصادقون عندما برزوا للقاء أعدائهم فقال { وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ … وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } .