Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 26-27)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
روى الواحدى فى أسباب النزول عن ابن عباس أن الله - تعالى - لما أنزل قوله - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ } وقوله - تعالى - { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً } لما نزل قال المشركون أرأيتم أى شىء يصنع بهذا ؟ ! فأنزل الله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا … } . وروى عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت فى كتابه وضرب بهما المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا من كلام الله ! فأنزل الله هذه الآية { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى } . إلخ . وقال السدى لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعنى قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً … } وقوله تعالى { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } قال المنافقون الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ! فأنزل الله هذه الآية ويبدو أن الآية الكريمة قد نزلت للرد على جميع تلك الفرق الضالة ، فقد قرر العلماء أن لا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة أو للطائفة من الآيات . والاستحياء والحياء واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأجر واستجاب . وهو فى أصل اللغة انقباض النفس وانكسارها من خوف ما يعاب به ويذم . وهذا المعنى غير لائق بجلال الله ، لذا ذهب جمع من المفسرين إلى تأويله بإرادة لازمه ، وهو ترك ضرب الأمثال بها . والمعنى إن الله لا يترك أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ، وإطلاق الفعل كالاستحياء على ما يترتب عليه كترك الفعل ، مألوف فى الكلام البليغ حيث يكون المراد واضحاً . ومذهب السلف إمرار هذا وأمثاله على ما ورد ، وتفويض علم كنهه وكيفيته إلى الله - تعالى - مع وجوب تنزيهه عما لا يليق بجلاله من صفات المحدثات . أى ليس الحياء بمانع لله - تعالى - من ضرب الأمثال بهذه المخلوقات الصغيرة فى نظركم كالبعوض والذباب والعنكبوت ، فإن فيها من دلائل القدرة ، وبدائع الصنعة ما تحار فيه العقول ، ويشهد بحكمة الخالق . والمثل فى اللغة الشبيه . وهو فى عرف القرآن الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع ، كالمثلين السابقين اللذين ضربهما الله فى حال المنافقين أو وصف غريب نحو قوله تعالى { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ } وضرب المثل إيراده ، وعبر عن إيراده بالضرب ، لشدة ما يحدث عنه من التأثير فى نفس السامع . وما فى قوله { مَثَلاً مَّا } هى ما الإِبهامية ، تجىء بعد النكرة فتزيدها شيوعاً وعموماً ، كقولك أعطنى كتاباً ما ، أى كتاب كان . والبعوضة واحدة البعوض وهى حشرة صغيرة تطلق على الناموس وهى بدل أو بيان من قوله { مَثَلاً } . وقوله { فَمَا فَوْقَهَا } عطف على بعوضة ، والمراد فما فوقها فى الحجم كالذباب والعنكبوت ، والكلب والحمار ، أو فما فوقها فى المعنى الذى وقع التمثيل فيه ، وهو الصغر والحقارة كجناحها أو كالذرة . قال صاحب الكشاف سيقت هذه الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة والسفهاء وأهل العناد والمراء من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ، ليس بموضع للاستنكار والاستغراب ، من جهة أن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب ، وإدناء المتوهم من المشاهد … وأن لله - تعالى - أن يتمثل للأنداد وحقارة شأنها بما لا شىء أصغر منه وأقل ، كما لو تمثل بالجزء الذى لا يتجزأ أو بما لا يدركه لتناهيه فى صغره إلا هو وحده … وقوله { فَمَا فَوْقَهَا } فيه معنيان أحدهما فما تجاوزهما وزاد عليها فى المعنى الذى ضربت فيه مثلا وهو القلة والحقارة نحو قولك لمن يقول فلان أسفل الناس وأنذلهم ، هو فوق ذلك ، تريد هو أعرق فيما وصف من السفالة والنذالة . والثانى فيما زاد عليها فى الحجم كأنه قصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة . ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موقف الناس أمام هذه الأمثال فقال { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } . أما حرف مفيد للشرط والتفصيل والتأكيد ، أما الشرط فلوقوع الفاء فى جوابها ، وأما التفصيل فلوقوعها بعد مجمل مذكور أو مقدر ، وأما التأكيد فلأنك إذا قلت زيد ذاهب ، ثم قصدت تأكيد ذلك وإفادة أن ذهابه واقع لا محالة قلت أما زيد فذاهب . والضمير فى قوله { أَنَّهُ } يعود على المثل ، أو على ضربه المفهوم من قوله { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } . والحق خلاف الباطن ، وهو الثابت الذى لا يسوغ إنكاره . ووجه كون المثل أو ضربه حقاً ، أنه يوضح المبهم ، ويفصل المجمل ، فهو وسيلة إلى تقرير الحقائق وبيانها . ووجه تفصيل الناس فى هذه الآية إلى قسمين ، أنهم بالنسبة إلى التشريع والتنزيل كذلك ، فهم مؤمن أو كافر . والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم ، وتيئيس الذين أرادوا تشكيكهم ببيان أن إيمانهم يحول بينهم وبين الشك . وعبر فى جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة ، وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز . وقال { أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } معرفاً بأل ، ولم يقل أنه حق للمبالغة فى حقية المثل . ومن المعروف فى علم البيان أن الخبر قد يؤتى به معرفاً بأل ، للدلالة على أن المخبر عنه بالغ فى الوصف الذى أخبر به عنه مرتبة الكمال . وقوله { مِن رَّبِّهِمْ } حال من الحق ، ومن ابتدائية ، أى إن هذا الكلام وارد من الله ، لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب ، فهو مؤذن بأنه من كلام الخالق الذى لا يقع منه الخطأ . ثم بين - سبحانه - موقف الكافرين من هذه الأمثال عندما تتلى عليهم فقال { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } . كلمة { مَاذَآ } مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإِشارة ، غير أن العرب توسعوا فيها فاستعملوها اسم استفهام مركباً من كلمتين ، وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإِشارة ، حتى تصير الإِشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد نحو ماذا التوانى ؟ أو حيث لا يكون للإِشارة موقع كقوله تعالى { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } وقد يتوسعون فيها توسعاً أقوى فيجعلون ذا اسم موصول ، وذلك حين يكون المسئول عنه معروفا للمخاطب بشىء من أحواله ، فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هى صلة ويجعلون ذا موصولا نحو { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } ونحو { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } ، أى ما الذى أراده الله بهذا المثل . والإِرادة فى أصل اللغة نزوع النفس إلى الفعل ، وإذا أسندت إلى الله دلت على صفة له تتعلق بالممكنات ، فيترجح بها أحد وجهى المقدور ، وقد كان جائز الوقوع وعدم الوقوع . وقوله { مَثَلاً } واقع فى موقع التمييز لاسم الإِشارة " هذا " كقولك لمن أجاب بجواب غير مقبول . ماذا أردت بهذا جواباً ؟ والاستفهام الذى حكاه القرآن على ألسنة هؤلاء الكافرين ، المقصود به الإِنكار والتحقير لهذه الأمثال ، ولأن يكون الله - تعالى - قد ضربها للناس . والمعنى فأما المؤمنون الذين من عادتهم الإِنصاف ، والنظر فى الأمور بنظر العقل واليقين ، فإنهم إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذى لا تمر الشبهة بساحته ، وأما الكافرون فإنهم لانطماس بصيرتهم ، وتغلب الأحقاد على قلوبهم فإنهم إذا سمعوا ذلك عاندوا وكابروا وقابلوه بالإِنكار . ثم ساق - سبحانه - جملتين بين فيهما الحكمة من ضرب الأمثال فقال { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } . فقد دلت هاتان الجملتان على أن العلم بكون المثل حقاً ، مما يزداد به المؤمنون رشداً على رشدهم ، وأن إنكاره ضلال يزداد به الكافرون تخبطاً فى ظلمات جهلهم . ووصف كلا من فريقى المؤمنين والمنكرين له بالكثرة مع أن المهديين وصفوا بالقلة كثيرا كما فى قوله { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } وذلك لأن أهل الهدى كثيرون فى أنفسهم ، وإذا وصفوا بالقلة فبالقياس إلى أهل الضلال ، وأيضاً فإن القليل من أهل الهدى كثير فى الحقيقة ، وإن قلوا فى الصورة ، فوصفوا بالكثرة ذهاباً إلى هذه الحقيقة . وقدم الإِضلال على الهداية ، ليكون أول ما يقرع أسماع المبطلين عن الجواب أمراً فظيعاً يسوءهم ويفت فى أعضادهم . ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } . الفاسقون جمع فاسق ، من الفسق ، وهو فى أصل اللغة الخروج . يقال فسقت الرطبة من قشرها . أى خرجت منه ، وشرعاً الخروج عن طاعة الله ، فيشمل الخروج من حدود الإِيمان ، وهو الكفر ، ثم ما دون الكفر من الكبائر والصغائر ، ولكنه اختص فى العرف بارتكاب الكبيرة ، ولم يسمع الفسق فى كلام الجاهلية ، بمعنى الخروج عن الطاعة فهو بهذا المعنى من الألفاظ الإِسلامية . وقصر الإِضلال بالمثل على الفاسقين ، إيذان بأن الفسق هو الذى أعدهم لأن يضلوا به ، حيث إن كفرهم قد صرف أنظارهم عن التدبر فيه حتى أنكروه وقالوا ماذا أراد الله بهذا مثلا . ثم وصف الله - تعالى - هؤلاء الفاسقين بثلاث خصال ذميمة فقال فى بيان الخصلة الأولى { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } . والنقض فى اللغة حقيقة فى فسخ وحل ما ركب ووصل ، بفعل يعاكس الفعل الذى كان به التركيب مثل نقض الحبل المفتول وقد استعمل هنا مجازاً فى إبطال العهد بقرينة إضافته إلى عهد الله . وعبر عن إبطال العهد بالنقض ، لأنه أبلغ فى الدلالة على الإِبطال من القطع والصرم ونحوهما ، لأن فى النقض إفساداً لهيئة الحبل . والعهد اسم للموثق الذى يلزم مراعاته وحفظه ، يقال عهد إليه فى كذا ، إذا أوصاه به ووثقه عليه . وعهد الله تارة يكون بما ركز فى العقول من الحجة على التوحيد ، وتارة يكون بما أوجبه الله على الناس على لسان رسله - صلوات الله عليهم - وتارة بما يلتزمه المؤمن . وليس بلازم له فى أصل الشرع مما ليس بمعصية كالنذور وما يجرى مجراها . والميثاق التوثقة ، وهى التقوية والتثبيت ، والمراد به ما قوى الله به عهده . وقوله { مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } متعلق بينقضون ، ومن لابتداء الغاية ، وميثاقه الضمير فيه يجوز أن يعود على العهد ، وأن يعود على اسم الله - فهو على الأول مصدر مضاف إلى المفعول ، وعلى الثانى مضاف للفاعل . أما الصفة الثانية التى وصفهم الله بها فهى قوله { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } وهو عام فى كل قطيعة لا يرضاها الله ، كقطع الرحم ، والإِعراض عن موالاة المؤمنين ، وترك الجماعات المفروضة ، وعدم وصل الأقوال الطيبة بالأعمال الصالحة ، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطى شر . وأما الصفة الثالثة التى وصفهم بها فهى قوله - تعالى - { وَيُفْسِدُونَ فى ٱلأرْضِ } . والفساد فى الأرض يقع بعبادة غير الله ، وبالدعاية إلى الكفر به ، وبالاستهزاء بالحق ، وبالاعتداء على حقوق الغير ، وبغير ذلك من الأمور التى حرمها الله - تعالى - . وعبر بقوله { فِي ٱلأرْضِ } للإِشعار بأن فسادهم لا يقتصر عليهم ، وإنما هو يتعداهم إلى غيرهم . ثم بين - سبحانه - بعد أن دمغهم بتلك الصفات المرذولة - عاقبة أمرهم فقال { أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } . الخاسرون جمع خاسر مأخوذ من الخسر والخسران وهو النقص ، ومن نقض عهد الله ، وقطع ما أمر الله بوصله ، وأفسد فى الأرض ، لا شك أنه قد نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز ، وكانت عاقبته الخزى فى الدنيا والعذاب فى الآخرة . قال ابن جرير " والخاسرون جمع خاسر ، وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم من رحمة الله بسبب معصيتهم له ، كما يخسر الرجل فى تجارته بأن يوضع من رأس ماله فى بيعه ، وكذلك المنافق والكافر قد خسرا بحرمان الله لهما من رحمته التى خلقها لعباده … " وبعد أن عدد القرآن مساوئ أولئك الضالين ، وبين سوء مصيرهم ، ومآلهم ، وجه إليهم الإِنكار والتوبيخ فخاطبهم بقوله { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ … وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .