Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 28-29)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ كَيْفَ } اسم استفهام للسؤال عن الأحوال ، وليس المراد به هنا استعلام المخاطبين عن حال كفرهم ، وإنما المراد منه معنى تكثر تأديته فى صورة الاستفهام وهو الإِنكار والتوبيخ ، كما تقول لشخص كيف تؤذى أباك وقد رباك ؟ لا تقصد إلا أن تنكر عليه أذيته لأبيه وتوبيخه عليها . وفى الآية الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة تقريعهم والتعجب من أحوالهم الغريبة ، لأنهم معهم ما يدعو إلى الإِيمان ومع ذلك فهم منصرفون إلى الكفر . وقوله { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } جار مجرى التنبيه على أن كفرهم ناشئ عن جهل وعدم تأمل فى أدلة الإِيمان القائمة أمام أعينهم . والأموات جمع ميت بمعنى المعدوم . والإِحياء بمعنى الخلق . والمعنى كيف تكفرون بالله وحالكم أنكم كنتم معدومين فخلقكم ، وأخرجكم إلى الوجود كما قال - تعالى - { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } ويصح أن يفسر الأموات بمعنى فاقدى الحياة . والإِحياء بنفخ الروح فيهم فيكون المعنى وكنتم أمواتاً يوم استقراركم نطفاً فى الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها ، فنفخ فيكم الأرواح وأصبحتم فى طور إإحساس وحركة وتفكير وبيان . وبعد أن وبخهم على كفرهم بمن أخرجهم من الموت إلى الحياة ، أورد جملا لاستيفاء الأطوار التى ينتقل فيها الإِنسان من مبدأ الحياة إلى مقره الخالد فى دار نعيم أو عذاب فقال { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } بقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } يبعثكم بعد الموت { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . أي تصيرون إليه دون سواه ، فيجمعكم فى المحشر ويتولى حسابكم ، والحكم فى أمركم بمقتضى عدله { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } أما الإِماتة فهم يشاهدونها بأعينهم بين الحين والحين ، وأما البعث فقد أخبر الله عنه بما يدل على صحته وينفى استبعاده ، أو استحالته ، بأدلة عقلية ونقلية كثيرة ، أما الأدلة العقلية ، فمنها أن الذى قدر على إحيائهم من العدم ، قادر على إحيائهم وإعادتهم بعد موتهم فإن الإِعادة أهون من البدء دائما ، وأما الأدلة النقلية ، فمنها قوله - تعالى - { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } وفى قوله - تعالى - { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ترهيب لمن ينزع إلى الشر ، ويرتكب المعاصى من غير مبالاة ، وترغيب لمن يقبل على فعل الخير ، ويقدم على الطاعات . قال الجمل " والفاء فى قوله { فَأَحْيَاكُمْ } على بابها من التعقيب ، وثم على بابها من التراخى ، لأن المراد بالموت الأول ، العدم السابق ، وبالحياة الأولى الخلق ، وبالموت الثانى الموت المعهود ، وبالحياة الثانية الحياة للبعث فجاءت الفاء وثم على بابيهما من التعقيب والتراخى ، على هذا التفسير وهو أحسن الأقوال ، ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد ، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن البعث " . وبعد أن ذكر - سبحانه - ما يشهد بقدرته ووحدانيته عن طريق الأدلة المتعلقة بذوات المكلفين ، أردف ذلك بالكلام عن الأدلة الكونية فقال تعالى { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } . أى أنه خلق جميع ما فى الأرض من نحو الحيوان والنبات والمعادن والجبال من أجلكم ، فهو المنعم عليكم لتنتفعوا بها فى دنياكم ، وتستعينوا بها على طاعته . وقد أخذ العلماء من هذه الآية شاهداً على أن الأشياء التى فيها منافع مأذون فيها حتى يقوم دليل على حرمتها . ثم استدل - سبحانه - على مظاهر قدرته بخلق السماوات فقال { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم } . استوى إلى السماء أقبل وعمد إليها بإرادته . وتسويتها معناه تعديل خلقها وتقويمه . والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السماوات ، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السماوات ، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإِناث فى قوله { فَسَوَّاهُنَّ } ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار فى معنى الجمع . فمعنى { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } علا إليها وارتفع ، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه ، مع كمال التنزيه عن سمات المحدثات ، وقد سئل الإِمام مالك عن الاستواء على العرش فقال الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة . وجملة { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ } معطوفة على جملة { خَلَقَ لَكُمْ } ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض . وعبر بسواهن للإِشعار بأنه - سبحانه - خلقهن فى استقامة ، واستقامة الخلق هى انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب . قال - تعالى - { مَّا تَرَىٰ في خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } وجملة { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مقررة لما ذكر قبلها من خلق السماوات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة ، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها ، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها ، ولإِِحاطته بكل شىء علماً وضع كل جزء فى موضعه اللائق به . وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما فى الأرض جميعاً ، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هى نعمة خلقه لأبيهم آدم ، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته ، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً … وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } .