Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 61-61)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الصبر حبس النفس على الشىء ، بمعنى إلزامها إياه ، ومنه الصبر على الطاعات ، أو يطلق على حبسها بمعنى كفها . ومنه الصبر عن المعاصى . والطعام ما رزقوه فى التيه من المن والسلوى والبقل ما تنبته الأرض من الخضر مما يأكله الناس والأنعام من نحو النعناع والكراث وغيرهما . والقوم قيل هو الثوم ، وقيل هو الحنطة . والقثاء نوع من المأكولات أكبر حجماً من الخيار . قال ابن جرير وكان سبب مسألتهم موسى - عليه السلام - ذلك فيما بلغنا عن قتادة أنه قال كان القوم فى البرية قد ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى فملوا ذلك ، وذكروا عيشاً كان لهم بمصر ، فسألوه موسى ، فقال الله تعالى { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } . ثم ساق ابن جرير رواية ، فيها تصريح بأن سؤالهم لم يكن فى البرية بل كان فى التيه فقال حدثنى يونس بن عبد الأعلى ، قال أخبرنا ابن وهب قال أنبأنا ابن زيد قال " كان طعام بنى إسرائيل فى التيه واحداً ، وشرابهم واحداً . كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له المن ، وطعامهم طير يقال له السلوى ، يأكلون الطير ويشربون العسل ، لم يكونوا يعرفون خبزاً ولا غيره ، فقالوا يا موسى إنا { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا } فقرأ حتى بلغ قوله تعالى { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } . وقد جرى أبو حيان وصاحب الكشاف - فى تفسيريهما - على أن سؤالهم لمرسى - عليه السلام كان فى التيه . قال أبو حيان عند تفسير قوله تعالى { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } " لما سئموا من الإِقامة فى التيه . والمواظبة على مأكول واحد لبعدهم عن الأرض التى ألفوها ، وعن العوائد التى عهدوها ، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك ، وتشوقهم إلى ما كانوا يألفون ، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم " . وقال صاحب الكشاف " كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم - فأجموا - أى ملوا وكرهوا - ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم عدم البقاء { عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } أرادوا ما رزقوه فى التيه من المن والسلوى " . ومعنى الآية الكريمة إجمالا واذكروا يا بنى إسرائيل بعد أن أسبغنا عليكم نعمنا ما كان من سوء اختيار أسلافكم ، وفساد أذواقكم ، وإعناتهم لنبيهم موسى - عليه السلام - حيث قالوا له ببطر وسوء أدب لن نصبر على طعام المن والسلوى فى كل وقت ، فسل ربك أن يخرج لنا مما تنبته الأرض من خضرها وفاكهتها وحنطتها وعدسها وبصلها ، لأن نفوسنا قد عافت المن والسلوى ، فوبخهم نبيهم موسى - عليه السلام - بقوله أتختارون الذى هو أقل فائدة وأدنى لذة ، وتتركون المن والسلوى وهو خير مما تطلبون لذة وفائدة ؟ انزلوا إلى مصر من الأمصار فإنكم تجدون به ما طلبتموه من البقول وأشباهها . وأحاطت ببنى إسرائيل المهانة والاستكانة كما تحيط القبة بمن ضربت عليه ، وحق عليهم غضب الله . ثم بين الله - تعالى - السبب فى جحودهم للنعم وفى أنه ضرب عليهم الذلة والمسكنة وأنزل عليهم غضبه بقوله { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } إلخ أى إن الكفر بآيات الله قد تأصل فيهم ، وقتل أنبيائهم بغير الحق قد تكرر منهم حتى صار كالطبيعة الثانية والسجية الثابتة ، فليس غريباً على هؤلاء أن يقولوا لن نصبر على المن والسلوى وأن ينزل بهم غضب الله ونقمته من أجل جحودهم وكفرهم . وقوله تعالى { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } تذكير لهم برغبة من رغباتهم الناشئة عن ذوق سقيم . لا يقدر النعمة قدرها ، وفيه انتقال من تعداد النعم عليهم إلى بيان موفقهم الجحودى منها ، وانسياقهم وراء شهواتهم وأهوائهم وحماقاتهم ، وفيه إشعار بسوء أدبهم فى مخاطبتهم لنبيهم موسى - عليه السلام - إذ عبروا عن عدم رغبتهم فى تناول المن والسلوى بحرف { لَن } المفيد تأكيد النفى فقالوا { لَن نَّصْبِرَ } … إلخ فكأنهم يقولون له مهددين ، ليلجئوه إلى دعاء ربه سريعاً إننا ابتداء من هذا الوقت الذى نخاطبك فيه إلى أن نموت ، لن نحبس أنفسنا عن كراهية على تناول طعام واحد ، لأننا قد سئمناه ومللناه ، ولن نعود إليه فالتعبير " بلن " يشعر بشدة ضجرهم ، وبلوغ الكراهية لهذا الطعام منهم منتهاها . قال الحسن البصرى - رضى الله عنه - " بطروا طعم المن والسلوى فلم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم الذى كانوا فيه ، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وثوم " . ووصفوه بالوحدة مع أن المن والسلوى نوعان ، لأنهم أرادوا من الوحدة أنه طعام متكرر فى كل يوم لا يختلف بحسب الأوقات ، والعرب تقول لمن يفعل على مائدته فى كل يوم من الطعام أنواعا لا تتغير ، إنه يأكل من طعام واحد . وسألوا موسى - عليه السلام - أن يدعو لهم ، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإِجابة من دعاء غيرهم ، وكذلك دعاء الصالحين ، حيث يصدر من قلوب عامرة بتقوى الله وجلاله ، فيلاقى من الإِجابة ما لا يلاقيه دعاء نفوس تستهويها الشهوات ، وتستولى عليها السيئات . وقولهم { فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ } ولم يقولوا ربنا ، لعدم رسوخ الإِيمان فى قلوبهم ، ولأنه سبحانه - قد اختصه بما لم يعط مثله من مناجاته وتكميله وإيتائه التوراة . وقولهم { يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } هو مضمون ما طلبوه من موسى - عليه السلام - وهو فى معنى مقول قول محذوف والتقدير أى قل لربك يخرج لنا . وجاء التعبير بالفعل { يُخْرِجْ } مجزوماً - مع أن مقتضى الظاهر أن يقال " أن يخرج - للإِيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه ، حتى لكأن إخراج ما تنبت الأرض متوقف على مجرد دعاء موسى ربه ، وأنه لو لم يدع لهم ، لكان شحيحاً عليهم بما فيه نفعهم . والجملة الكريمة { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } من مقول موسى - عليه السلام - لهم ، وفيها توبيخ شديد لهم على سوء اختيارهم ، وضعف عقولهم . لإِيثارهم الأدنى وهو البقل وما عطف عليه ، على ما هو خير منه وهو المن والسلوى . قال ابن جرير عند تفسيره للآية الكريمة " أى قال لهم موسى أتاخذون الذى هو أخس خطراً وقيمة وقدراً من العيش ، بدلا بالذى هو خير منه خطراً وقيمة وقدراً ، وذلك كان استبدالهم ، وأصل الاستبدال هو ترك شىء لآخر غيره مكان المتروك ، ومعنى قوله { أَدْنَىٰ } أخس وأضع وأصغر قدراً وخطراً ، وأصله من قولهم هذا رجل دنى بين الدناءة ، وإنه ليدنى فى الأمور - بغير همز - إذا كان يتتبع خسيسها . ثم قال ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقول والقثاء والعدس والبصل والثوم ، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه " . ثم أضاف موسى - عليه السلام - إلى توبيخهم السابق على بطرهم وجحودهم توبيخاً آخر فقال لهم { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أى إذا كان هذا هو مرغوبكم ، فاتركوا هذا المكان ، وانزلوا إلى مصر من الأمصار ، لكى تجدوا ما سألتمونى إياه من البقل والثوم وأشباههما ، لأن ما اخترتموه لا يوجد فى المكان الذى حللتم به ، وإنما يوجد فى الأمصار والقرى . وقوله تعالى { مِصْراً } . قال ابن كثير " هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف فى المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف " . وقال ابن جرير " فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } وهى القراءة التى لا يجوز عندى غيرها ، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين واتفاق قراءة القراء على ذلك … " اهـ . وقال أبو حيان فى البحر " وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان ابن تغلب مصر بغير تنوين ، وقد وردت كذلك فى مصحف أبى بن كعب وعبد الله بن مسعود ، وبعض مصاحف عثمان - رضى الله عنه " اهـ . والمعنى على القراءة الأولى اهبطوا مصرا من الأمصار لأنكم فى البدو ، والذى طلبتم لا يكون فى البوادى والفيافى وإنما يكون فى القرى والأمصار ، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش . والمعنى على القراءة الثانية اتركوا المكان الذى أنتم فيه ، واهبطوا مصر التى كنتم تسامون فيها سوء العذاب فإنكم تجدون فيها ما تبغونه ، لأنكم قوم لا تقدرون نعمة الحرية ، ولا ترتاحون للفضائل النفسية ، بل شأنكم - دائما - أن تستبدلوا الذى هو أدنى بالذى هو خير . ومن حجة الذين قالوا إن الله أراد بالمصر فى الآية الكريمة ، مصر فرعون ، قوله تعالى فى سورة الشعراء { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } وقوله تعالى فى سورة الدخان { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } قالوا فأخبر الله - تعالى - أنه قد ورثهم ذلك ، وجعلها لهم ، فلم يكونوا يرثونها ، ثم لا ينتفعون بها ، ولا يكونون منتفعين إلا بمصر بعضهم إليها . قال ابن جرير " ومن حجة من قال إن الله - إنما عنى بقوله { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } أى مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها ، أن الله - تعالى - جعل أرض الشام لبنى إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر ، وإنما ابتلاهم بالتيه . فامتناعهم عن موسى فى حرب الجبابرة ، إذ قال لهم { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ التى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } إلى قوله تعالى { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } فحرم الله - تعالى - على قائل ذلك - فيما ذكر لنا - دخولها حتى هلكوا فى التيه وابتلاهم بالتيهان فى الأرض أربعين سنة . ثم أهبط ذريتهم الشام ، فأسكنهم الأرض المقدسة ، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع " يوشع بن نون " بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا أن الله - تعالى - قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة ، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها ، فيجوز لنا أن نقرأ { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } ونتأوله أنه ردهم إليها . قالوا فإن احتج محتج بقوله تعالى { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } قيل لهم فإن الله - تعالى - إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها . ولم يردهم إليها وجعل مساكنهم الشام " اهـ . قال أبو حيان فى البحر ولم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر اهـ . ومع أن ابن جرير - رحمه الله - قد رد على من قال ، إن المراد بالمصر مصر فرعون استناداً إلى قراءة غير الجمهور ، إلا أنه لم يرجح أحد الرأيين فقد قال والذى نقول به فى ذلك ، أنه لا دلالة فى كتاب الله - تعالى - على الصواب من هذين التأويلين ، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر ، وأهل التأويل متنازعون تأويله ، فأولى الأقوال فى ذلك عندنا بالصواب أن يقال إن موسى سأل ربه أن يعطى قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله - تعالى - فى كتابه وهم فى الأرض تائهون فاستجاب الله لموسى دعاءه وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قراراً من الأرض التى تنبت ما سأل لهم من ذلك ، إذا صاروا إليه ، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر ، وجائز أن يكون الشام . … " . ومن هذا النص الذى نقلناه عن ابن جرير ، نرى أنه لم يقطع برأى فى المكان الذى أمر بنو اسرائيل بالهبوط فيه وأنه يرى أن الله - تعالى - قد استجاب لموسى - عليه السلام - دعاءه ، وأن موسى وقومه قد هبطوا - فعلا - إلى قرار من الأرض التى تنبت البقول وأشباهها . وقد عارض الإِمام ابنُ كثير فى تفسيره رأى ابن جرير فقال وهذا الذى قاله - أى ابنُ جرير - فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار ، كما روى عن ابن عباس وغيره والمعنى على ذلك ، لأن موسى - عليه السلام - يقول لهم هذا الذى سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير فى أى بلد دخلتموها وجدتموه ، فليس يساوى مع دناءته وكثرته فى الأمصار أن أسأل الله فيه ، ولهذا قال { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أى ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم . وبذلك يظهر لنا أن ابن كثير - رحمه الله - يرى أن المراد بالمصر مكان غير معين وأن موسى - عليه السلام - لم يسأل ربه إجابة طلبهم لأنهم كانوا متعنتين . بطرين ، والله - تعالى - يكره من كان كذلك ، وأن قول موسى - عليه السلام - لهم " اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " من باب التوبيخ والتجهيل لهم ، إذ ليس حينئذ بلد قريب يستطيعون الوصول إليه . هذا ، والذى نرجحه فى هذا المقام هو ما ذهب إليه الإِمام ابن كثير لما يأتى أولا أن القراءة بالتنوين متواترة ، وابن جرير نفسه لم يجوز القراءة بغيرها ، وهذه القراءة المتواترة ، نص فى أن المراد من مصر ، أى بلد كان ، لا مصر فرعون ، ثم إذا كان المراد به ذلك فليس لنا أن نقول إنه يصدق على مصر فرعون ، وذلك لأن الأمصار التى تنبت ما طلبوا من البقول والخضر أقرب إليهم من مصر ، فليس من المعقول أن يؤمروا بالذهاب إلى مصر فرعون وهى بعيدة عن مكانهم بعداً شاسعاً ، ويتركوا الأمصار الأقرب إليهم وفيها ما يريدون . ثانياً لم ينقل أحد من المؤرخين أنهم رجعوا إلى مصر بعد خروجهم منها كما قال أبو حيان وغيره ، بل الثابت أن بنى إسرائيل خرجوا من مصر ، وأمروا بعد خروجهم بدخول الأرض المقدسة لقتال الجبارين ولكنهم أبوا طاعة نبيهم - عليه السلام - فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين ، ولعصيانهم أمر نبيهم وماتوا جميعاً فى التيه ، وبقى أبناؤهم فامتثلوا أمر الله - تعالى - وهبطوا إلى الشام . وقاتلوا الجبارين ودخلوا الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون . ثالثاً ليس فى الآية ما يشعر بأن موسى - عليه السلام - طلب من ربه أن يجيبهم إلى رغبتهم فكيف نقول بما لم يدل عليه القرآن الكريم ولو من طريق الإِشارة ؟ رابعاً دخولهم فى التيه كان عقوبة لهم على نكوصهم عن قتال الجبارين ، ليدخلوا الأرض المقدسة التى كتبها الله لهم . فالتيه والحالة هذه كان بمثابة سجن لهم يعاقبون فيه ، كما يشعر بذلك قوله تعالى { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فى ٱلأَرْضِ } فكيف يخرج السجين من سجنه تلبية لبعض رغباته المنكرة . وبناء على ذلك يكون الأمر فى قول موسى لهم { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } للتهديد والتوبيخ والتجهيل . ثم بين - سبحانه - العقوبات التى حلت بهم جزاء ظلمهم وفجورهم فقال تعالى { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } ضرب الذلة والمسكنة عليهم كناية عن لزومهما لهم ، وإحاطتهما بهم ، كما يحيط السرادق بمن بداخله . قال صاحب الكشاف جعلت الذلة محيطة بهم ، مشتملة عليهم ، فهم فيها كمن يكون فى القبة من ضربت عليه ، أو ألصقت به حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه ، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة . وأصل الضرب فى كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم ، بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال ضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق . والذلة على وزن فعلة من قول القائل ذل فلان يذل ذلة وذلة ، والمراد بها الصغار والهوان والحقارة . والمسكنة ، مفعلة من السكون ، ومنها أخذ لفظ المسكين ، لأن الهم قد أثقلة فجعله قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفاقه والفقر ، والمراد بها فى الآية الضعف النفسى ، والفقر القلبى الذى يستولى على الشخص ، فيجعله يحس بالهوان ، مهما يكن لديه من أسباب القوة . والفرق بينها وبين الذلة . أن الذلة هوان تجىء أسبابه من الخارج ، كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو . أما المسكنة فهى هوان ينشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق واستيلاء المطامع والشهوات عليها ، وتوارث الذلة قروناً طويلة يورث هذه المسكنة ، ويجعلها كالطبيعة الثابتة فى الشخص المستذل . ولقد عاش اليهود قروناً وأحقاباً مستعبدين لمختلف الأمم ، فأكسبهم هذا الاستعباد ضعفاً نفسياً جعلهم لا يفرقون بين الحياة الذليلة والكريمة ، بل إنهم ليفضلون الأولى على الثانية ما دامت تجلب لهم غرضاً من أغراض الدنيا ، ومهما كثر المال فى أيديهم ، فإنهم لا يتحولون عن فقرهم النفسى وظهورهم أمام الناس بمظهر البائس الفقير . وقوله تعالى { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } بيان لسوء عاقبتهم فى الآخرة ومبالغة فى إهانتهم وتحقيرهم ، فهم فى الدنيا أذلاء حقراء ، وفى الآخرة سيرجعون بغضب من الله بسبب أفعالهم القبيحة . قال ابن جرير - رحمه الله - يعنى بقوله تعالى { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر يقال منه باء فلان بذنبه يبوء بوأ وبواء ، ومنه قوله تعالى { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يعنى تنصرف متحملهما ، وترجع بهما قد صارا عليك دونى ، فمعنى الكلام إذا . ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط . وقال صاحب الكشاف { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } من قولك باء فلان بفلان ، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أى صاروا أحقاء بغضبه . ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بسبب ما أحاط بهم من الذلة والمسكنة واستحقاقهم غضب الله وسخطه ، فقال تعالى { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . والجملة الكريمة استئناف بيان جواب عن سؤال تقديره لم فعل بهم كل ذلك ؟ فكان الجواب ، فعلنا بهم بسبب جحودهم لآيات الله ، وبسبب قتلهم لأنبيائه ، وخروجهم عن طاعته ومجاوزتهم حدودهم والآيات تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله تعالى وربوبيته ، وتطلق ويراد بها النصوص التى تشتمل عليها الكتب السماوية ، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغون عن الله - تعالى - وهى التى يسميها علماء التوحيد المعجزات ، وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ، ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع { يَكْفُرُونَ } . وقوله تعالى { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } أى ويقتلون أنبياء الله الذين بعثهم مبشرين ومنذرين ، ولقد قتل اليهود - فيمن قتلوا من الأنبياء - زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام - لأنهما أبيا الانقياد وراء شهواتهم وأهوائهم . وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً ، لإِفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر فى شريعتهم لأنها تحرمه ، { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فى ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم وتخليد مذمتهم ، وتقبيح إجرامهم ، حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ فى الفهم ، أو تأول فى الحكم ، أو شبهة فى الأمر ، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا ، وخالفوا شرع الله عن تعمد وإصرار . قال صاحب الكشاف " فإن قلت قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره ؟ قلت معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا فى الأرض فيقتلوا ، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقون به للقتل عندهم " . وقال الإِمام الرازى " فإن قيل قال هنا { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } وقال فى آل عمران { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } فما الفرق ؟ قلت . إن الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذى يوجب القتل يتجلى فى حديث " " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث " كفر بعد إيمان ، وزناً بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق " فالحق المذكور هنا بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أى لم يكن هناك أى حق يستندون إليه ، لا هذا الذى يعرفه المسلمون ولا غيره البتة " . ثم قال تعالى { ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . العصيان الخروج عن طاعة الله . والاعتداء تجاوز الحد الذى حده الله - تعالى - لعباده إلى غيره . وكل متجاوز حد شىء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه . وللمفسرين فى مرجع الإِشارة " ذلك " رأيان أحدهما أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، وعليه يكون المعنى إن هؤلاء اليهود قد مرنوا على عصيانهم لخالقهم ، وتعديهم حدوده بجرأة وعدم مبالاة فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله - تعالى - وامتدت أيديهم الأثيمة إلى قتل الأنبياء بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة . والجملة الكريمة على هذا الرأى تفيد أن التردى فى المعاصى وارتكاب المناهى ، وتجاوز الحدود المشروعة ، يؤدى إلى الانتقال من صغير الذنوب إلى كبيرها ، ومن حقيرها إلى عظيمها ، لأن هؤلاء اليهود لما استمرأوا المعاصى وداوموا على تعدى الحدود ، هانت على نفوسهم الفضائل ، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا ، فكذبوا بآيات الله تكذيباً وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق . والثانى يرى أصحابه أن اسم الاشارة الثانى يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإِشارة الأول ، وتكون الحكمة فى تكرار الإِشارة هو تمييز المشار إليه حرصاً على معرفته ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم ، واستحقاقهم لغضب الله - تعالى - كما بينا ، والإِشارة حينئذ من قبيل التكرير المغنى عن العطف كما فى قوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } والمعنى أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة ، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا . وقتلهم أنبياءنا ، وخروجهم عن طاعتنا وتعديهم لحدودنا . وعلى هذا الرأى يكون ذكر أسباب العقوبة التى حلت بهم فى الدرجة العليا من حسن الترتيب ، فقد بدأ - سبحانه - بما فعلوه فى حقه وهو كفرهم بآياته ، ثم ثنى بما يتلوه فى العظم وهو قتلهم لأنبيائهم ، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء ، وتخطى الحدود ، وعدم المبالاة بالعهود ، وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم فى سوق الأحكام ، مشفوعة بعللها وأسبابها . وبهذا تكون الآية الكريمة قد وصفت بنى إسرائيل بجحود النعم ، وسوء الأدب وحمق التفكير ، وهوان النفس ، وبلادة الطبع ، وبطر الحق ، والبغى على أنفسهم وعلى غيرهم ، وما وصفتهم به أيدته الأيام وصدقته الأحداث فى كل زمان ومكان . وبعد أن بين القرآن الكريم ما حل باليهود من عقوبات بسبب جحودهم لنعم الله ، وكفرهم بآياته - أردف بذلك ما وعد الله به المؤمنين من جزيل الثواب . فقال - تعالى { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ … } .