Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 14-21)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - سبحانه - { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ } بيان لجانب من النعم التى أنعم الله - تعالى - بها على موسى فى تلك المرحلة من حياته . و { لَمَّا } ظرف بمعنى حين . والأشد قوة الإِنسان ، واشتعال حرارته من الشدة بمعنى القوة والارتفاع يقال شد النهار إذا ارتفع . وهو مفرد جاء بصيغة الجمع ولا واحد له من لفظه . وقوله { وَٱسْتَوَىٰ } من الاستواء بمعنى الاكتمال وبلوغ الغاية والنهاية . أى - وحين بلغ موسى - عليه السلام - منتهى شدته وقوته ، واكتمال عقله ، قالوا وهى السن التى كان فيها بين الثلاثين والأربعين . { آتَيْنَاهُ } بفضلنا وقدرتنا { حُكْماً } أى حكمة وهى الإِصابة فى القول والفعل ، وقيل النبوة . { وَعِلْماً } أى فقها فى الدين ، وفهما سليما للأمور ، وإدراكا قويما لشئون الحياة . وقوله - سبحانه - { وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِين } بيان لسنة من سننه - تعالى - التى لا تتخلف . أى ومثل هذا الجزاء الحسن ، والعطاء الكريم ، الذى أكرمنا به موسى وأمه نعطى ونجازى المحسنين ، الذين يحسنون أداء ما كلفهم الله - تعالى - به . فكل من أحسن فى أقواله وأعماله ، أحسن الله - تعالى - جزاءه ، وأعطاه الكثير من آلائه . ثم حكى - سبحانه - بعض الأحداث التى تعرض لها موسى - عليه السلام - فى تلك الحقبة من عمره فقال { وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } . والمراد بالمدينة مصر ، وقيل ضاحية من ضواحيها ، كعين شمس ، أو منف . وجملة { عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } حال من الفاعل . أى دخلها مستخفيا . قيل والسبب فى دخوله على هذه الحالة ، أنه بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون ، فخافهم وخافوه . فاختفى وغاب ، فدخلها متنكرا . أى وفى يوم من الأيام ، وبعد أن بلغ موسى سن القوة والرشد ، دخل المدينة التى يسكنها فرعون وقومه { عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } أى دخلها مستخفيا فى وقت كان أهلها غافلين عما يجرى فى مدينتهم من أحداث ، بسبب راحتهم فى بيوتهم فى وقت القيلولة ، أو ما يشبه ذلك . { فَوَجَدَ } موسى { فِيهَا } أى فى المدينة { رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ } أى يتخاصمان ويتنازعان فى أمر من الأمور . { هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ } أى أحد الرجلين كان من طائفته وقبيلته . أى من بنى إسرائيل { وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ } أى والرجل الثانى كان من أعدائه وهم القبط الذين كانوا يسيمون بنى إسرائيل سوء العذاب . { فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } أى فطلب الرجل الإِسرائيلى من موسى ، أن ينصره على الرجل القبطى . والاستغاثة طلب الغوث والنصرة ، ولتضمنه معنى النصرة عدى بعلى . { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } والفاء هنا فصيحة . والوكز الضرب بجميع الكف . قال القرطبى والوكز واللكز واللهز بمعنى واحد ، وهو الضرب بجميع الكف . أى فاستجاب موسى لمن استنصره به ، فوكز القبطى ، أى فضربه بيده مضمومة أصابعها فى صدره ، { فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } أى فقتله . وهو لا يريد قتله ، وإنما كان يريد دفعه ومنعه من ظلم الرجل الإِسرائيلي . والتعبير بقوله - تعالى - { فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ } يشير إلى أن موسى - عليه السلام - كان على جانب عظيم من قوة البدن ، كما يشير - أيضا - إلى ما كان عليه من مروءة عالية . حملته على الانتصار للمظلوم بدون تقاعس أو تردد . ولكن موسى - عليه السلام - بعد أن رأى القبطى جثة هامدة ، استرجع وندم ، وقال { هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } أى قال موسى هذا الذى فعلته وهو قتل القبطى ، من عمل الشيطان ومن وسوسته ، ومن تزيينه . { إِنَّهُ } أى الشيطان { عَدُوٌّ } للإِنسان { مُّضِلٌّ } له عن طريق الحق { مُّبِينٌ } أى ظاهر العداوة والإِضلال . ثم أضاف إلى هذا الندم والاسترجاع ، ندما واستغفارا آخر فقال { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ } . أى قال موسى - عليه السلام - بعد قتله القبطى بدون قصد - مكررا الندم والاستغفار يا رب إنى ظلمت نفسى ، بتلك الضربة التى ترتب عليها الموت ، فاغفر لى ذنبى ، { فَغَفَرَ } الله - تعالى { لَهُ } ذنبه ، { إِنَّهُ } - سبحانه - { هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } ثم أكد موسى عليه السلام - للمرة الثالثة ، توبته إلى ربه ، وشكره إياه على نعمه ، فقال { رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } . والظهير المعين لغيره والناصر له . يقال ظاهر فلان فلانا إذا أعانه ، ويطلق على الواحد والجمع . ومنه قوله - تعالى - { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } . قال صاحب الكشاف قوله { بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف ، تقديره أقسم بإنعامك على بالمغفرة لأتوبن { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } . وأن يكون استعطافا ، كأنه قال رب اعصمنى بحق ما أنعمت على من المغفرة فلن أكون - إن عصمتنى - ظهيرا للمجرمين . وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه فى جملته ، وتكثيره سواده ، حيث كان يركب بركوبه ، كالولد مع الوالد . وكان يسمى ابن فرعون . وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإِثم ، كمظاهرة الإِسرائيلى المؤدية إلى القتل الذى لم يحل له . وهذه الضراعة المتكررة إلى الله - تعالى - من موسى - عليه السلام - ، تدل على نقاء روحه ، وشدة صلته بربه ، وخوفه منه ، ومراقبته له - سبحانه - ، فإن من شأن الأخيار فى كل زمان ومكان ، أنهم لا يعينون الظالمين ، ولا يقفون إلى جانبهم . قال القرطبى ويروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته ، ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة ، يوم تزل الأقدام ، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه ، أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام " . ثم بين - سبحانه - ما كان من أمر موسى بعد هذه الحادثة فقال { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } . أى واستمر موسى - عليه السلام - بعد قتله للقبطى ، يساوره القلق ، فأصبح يسير فى طرقات المدينة التى حدث فيها القتل ، { خَآئِفاً } من وقوع مكروه به { يَتَرَقَّبُ } ما سيسفر عنه هذا القتل من اتهامات وعقوبات ومساءلات . والتعبير بقوله { خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } يشعر بشدة القلق النفسى الذى أصاب موسى - عليه السلام - فى أعقاب هذا الحادث ، كما يشعر - أيضا - بأنه - عليه السلام - لم يكن فى هذا الوقت على صلة بفرعون وحاشيته ، لأنه لو كان على صلة بهم ، ربما دافعوا عنه ، أو خففوا المسألة عليه . و { إِذَا } فى قوله - تعالى - { فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسْتَنْصَرَهُ بِٱلأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } فجائية . ويستصرخه أى يستغيث به ، مأخوذ من الصراخ وهو رفع الصوت ، لأن من عادة المستغثيث بغيره أن يرفع صوته طالبا النجدة والعون . أى وبينما موسى على هذه الحالة من الخوف والترقب ، فإذا بالشخص الإِسرائيلى الذى نصره موسى بالأمس ، يستغيث به مرة أخرى من قبطى آخر ويطلب منه أن يعينه عليه . وهنا قال موسى - عليه السلام - لذلك الإِسرائيلى المشاكس { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } . والغوى فعيل من أغوى يغوى ، وهو بمعنى مغو ، كالوجيع والأليم بمعنى الموجع والمؤلم . والمراد به هنا الجاهل أو الخائب أو الضال عن الصواب . أى قال له موسى بحدة وغضب إنك لضال بين الضلال ولجاهل واضح الجهالة ، لأنك تسببت فى قتلى لرجل بالأمس ، وتريد أن تحملنى اليوم على أن أفعل ما فعلته بالأمس ، ولأنك لجهلك تنازع من لا قدرة لك على منازعته أو مخاصمته . ومع أن موسى - عليه السلام - قد قال للإِسرائيلى { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } إلا أن همته العالية ، وكراهيته للظلم ، وطبيعته التى تأبى التخلى عن المظلومين كل ذلك دفعه إلى إعداد نفسه لتأديب القبطى ، ويحكى القرآن ذلك فيقول { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا … } . والبطش هو الأخذ بقوة وسطوة . يقال بطش فلان بفلان إذا ضربه بعنف وقسوة . أى فحين هيأ موسى - عليه السلام - نفسه للبطش بالقبطى الذى هو عدو لموسى وللإِسرائيلى ، حيث لم يكن على دينهما . { قَالَ يٰمُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِٱلأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } . ويرى بعض المفسرين ، أن القائل لموسى هذا القول ، هو الإِسرائيلى ، الذى طلب من موسى النصرة والعون ، وسبب قوله هذا أنه توهم أن موسى يريد أن يبطش به دون القبطى ، عندما قال له { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } . فيكون المعنى قال الاسرائيلى لموسى بخوف وفزع يا موسى أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا - هى نفس القبطى - بالأمس ، وما تريد بفعلك هذا إلا أن تكون { جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } أى ظالما قتالا للناس فى الأرض ، { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِينَ } الذين يصلحون ، بين الناس ، فتدفع التخاصم بالتى هى أحسن . ويرى بعضهم أن القائل لموسى هذا القول هو القبطى ، لأنه فهم من قول موسى للإِسرائيلى { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } أنه - أى موسى - هو الذى قتل القبطى بالأمس . وقد رجح الإِمام الرازى هذا الوجه الثانى فقال والظاهر هذا الوجه ، لأنه - تعالى - قال { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِٱلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يٰمُوسَىٰ } فهذا القول إذن منه - أى من القبطى - لا من غيره - وأيضا قوله { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } لا يليق إلا بأن يكون قولا من كافر - وهو القبطى - . وما رجحه الإِمام الرازى هو الذى نميل إليه ، وإن كان أكثر المفسرين قد رجحوا الرأى الأول ، وسبب ميلنا إلى الرأى الثانى ، أن السورة الكريمة قد حكت ما كان عليه فرعون وملؤه من علو وظلم واضطهاد لبنى إسرائيل ، ومن شأن الظالمين أنهم يستكثرون الدفاع عن المظلومين ، بل ويتهمون من يدافع عنهم بأنه جبار فى الأرض ، لذا نرى أن القائل هذا القول لموسى ، هو القبطى ، وليس الإِسرائيلى - والله أعلم بمراده - . وقوله - سبحانه - { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ … } معطوف على كلام محذوف يرشد إليه السياق . والتقدير وانتشر خبر قتل موسى للقبطى بالمدينة ، فأخذ فرعون وقومه فى البحث عنه لينتقموا منه … وجاء رجل - قيل هو مؤمن من آل فرعون - من أقصى المدينة ، أى من أطرافها وأبعد مكان فيها { يَسْعَىٰ … } أى يسير سيرا سريعا نحو موسى ، فلما وصل إليه قال له { يٰمُوسَىٰ إِنَّ ٱلْمَلأَ } وهم زعماء قوم فرعون . { يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } أى يتشاورون فى أمرك ليقتلوك ، أو يأمر بعضهم بعضا بقتلك ، وسمى التشاور بين الناس ائتمارا ، لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ، ويأتمر بأمره . ومنه قوله - تعالى - { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أى وتشاوروا بينكم بمعروف . وقوله { فَٱخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } أى قال الرجل لموسى مادام الأمر كذلك يا موسى فاخرج من هذه المدينة ، ولا تعرض نفسك للخطر ، إنى لك من الناصحين بذلك ، قبل أن يظفروا بك ليقتلوك . واستجاب موسى لنصح هذا الرجل { فَخَرَجَ مِنْهَا } أى من المدينة ، حالة كونه { خَآئِفاً } من الظالمين { يَتَرَقَّبُ } التعرض له منهم ، ويعد نفسه للتخفى عن أنظارهم . وجعل يتضرع إلى ربه قائلا { رَبِّ نَجِّنِي } بقدرتك وفضلك { مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } بأن تخلصنى من كيدهم ، وتحول بينهم وبينى ، فأنا ما قصدت بما فعلت ، إلا دفع ظلمهم وبغيهم . وإلى هنا تكون السورة الكريمة ، قد قصت علينا هذا الجانب من حياة موسى ، بعد أن بلغ أشده واستوى ، وبعد أن دفع بهمته الوثابة ظلم الظالمين ، وخرج من مدينتهم خائفا يترقب ، ملتمسا من خالقه - عز وجل - النجاة من مكرهم . ثم حكت لنا السورة الكريمة بعد ذلك ، ما كان منه عندما توجه إلى جهة مدين ، وما حصل له فى تلك الجهة من أحداث ، فقال - تعالى - { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ … } .