Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 22-28)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لفظ { تِلْقَآءَ } فى قوله - تعالى - { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } منصوب على الظرفية المكانية ، وهو فى الأصل اسم مصدر . يقال دارى تلقاء دار فلان ، إذا كانت محاذية لها . و { مَدْيَنَ } اسم لقبيلة شعيب - عليه السلام - أو لقريته التى كان يسكن فيها ، سميت بذلك نسبة إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام - . وإنما توجه إليها موسى - عليه السلام - ، لأنها لم تكن داخلة تحت سلطان فرعون وملئه . أى وبعد أن خرج موسى من مصر خائفا يترقب ، صرف وجهه إلى جهة قرية مدين التى على أطراف الشام جنوبا ، والحجاز شمالا . صرف وجهه إليها مستسلماً لأمر ربه ، متوسلا إليه بقوله { عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } . أى قال على سبيل الرجاء فى فضل الله - تعالى - وكرمه عسى ربى الذى خلقنى بقدرته ، وتولانى برعايته وتربيته ، أن يهدينى ويرشدنى إلى أحسن الطرق التى تؤدى بى إلى النجاة من القوم الظالمين . فالمراد بسواء السبيل الطريق المستقيم السهل المؤدى . إلى النجاة ، من إضافة الصفة إلى الموصوف أى عسى أن يهدينى ربى إلى الطريق الوسط الواضح . وأجاب الله - تعالى - دعاءه ، ووصل موسى بعد رحلة شاقة مضنية إلى أرض مدين ، ويقص علينا القرآن ما حدث له بعد وصوله إليها فيقول { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } . قال القرطبى ووروده الماء معناه بلغه ، لا أنه دخل فيه . ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول فى المورود ، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه وإن لم يدخل ، فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه … وقوله - تعالى - { تَذُودَانِ } من الذود بمعنى الطرد والدفع والحبس . يقال ذاد فلان إبله عن الحوض ، ذودا وذيادا إذا حبسها ومنعها من الوصول إليه . والمعنى وحين وصل موسى - عليه السلام - إلى الماء الذى تستقى منه قبيلة مدين { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً } أى جماعة كثيرة { مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ } أى يسقون إبلهم وغنمهم ، ودوابهم المختلفة . { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } أى ووجد بالقرب منهم . أو فى جهة غير جهتهم . { ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } أى امرأتين تطردان وتمنعان أغنامهما أو مواشيهما عن الماء ، حتى ينتهى الناس من السقى ، ثم بعد ذلك هما تسقيان دوابهما ، لأنهما لا قدرة لهما على مزاحمة الرجال . وهنا قال لهما موسى - صاحب الهمة العالية ، والمروءة السامية ، والنفس الوثابة نحو نصرة المحتاج - قال لهما بما يشبه التعجب { مَا خَطْبُكُمَا } ؟ أى ما شأنكما ؟ وما الدافع لكما إلى منع غنمكما من الشرب من هذا الماء ، مع أن الناس يسقون منه ؟ وهنا قالتا له على سبيل الاعتذار وبيان سبب منعهما لمواشيهما عن الشرب { لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } . ويصدر من أصدر - والصدر عن الشىء الرجوع عنه ، وهو ضد الورود . يقال صدر فلان عن الشىء . إذا رجع عنه . قال الشوكانى قرأ الجمهور " يصدر " بضم الياء وكسر الدال - مضارع أصدر المتعدى بالهمزة ، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو " يصدر " بفتح الياء وضم الدال - من صدر يصدر اللازم ، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف . أى يرجعون مواشيهم … و { ٱلرِّعَآءُ } جمع الراعى ، مأخوذ من الرعى بمعنى الحفظ . أى قالتا لموسى - عليه السلام - إن من عادتنا أن لا نسقى . مواشينا حتى يصرف الرعاء دوابهم عن الماء ، ويصبح الماء خاليا لنا ، لأننا لا قدرة لنا على المزاحمة ، وليس عندنا رجل يقوم بهذه المهمة ، وأبونا شيخ كبير فى السن لا يقدر - أيضا - على القيام بمهمة الرعى والمزاحمة على السقى . وبعد أن سمع موسى منهما هذه الإِجابة ، سارع إلى معاونتهما - شأن أصحاب النفوس الكبيرة ، والفطرة السليمة ، وقد عبر القرآن عن هذه المسارعة بقوله { فَسَقَىٰ لَهُمَا } . أى فسقى لهما مواشيهما سريعا . من أجل أن يريحهما ويكفيهما عناء الانتظار وفى هذا التعبير إشارة إلى قوته ، حيث إنه استطاع وهو فرد غريب بين أمة من الناس يسقون - أن يزاحم تلك الكثرة من الناس ، وأن يسقى للمرأتين الضعيفتين غنمهما . دون أن يصرفه شىء عن ذلك . رحم الله صاحب الكشاف . فقد أجاد عند عرضه لهذه المعانى . فقال ما ملخصه " قوله { فَسَقَىٰ لَهُمَا } أى فسقى غنمهما لأجلهما . وروى أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا سبعة رجال … فأقله وحده . وإنما فعل ذلك رغبة فى المعروف وإغاثة للملهوف والمعنى أنه وصل إلى ذلك الماء ، وقد ازدحمت عليه أمة من الناس ، متكافئة العدد ، ورأى الضعيفتين من ورائهم ، مع غنمهما مترقبتين لفراغهم . فما أخطأت همته فى دين الله تلك الفرصة ، مع ما كان به من النصب والجوع ، ولكنه رحمهما فأغاثهما ، بقوة قلبه ، وبقوة ساعده . فإن قلت لم ترك المفعول غير مذكور فى قوله { يَسْقُونَ } و { تَذُودَانِ } قلت لأن الغرض هو الفعل لا المفعول . ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقى ، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا . فإن قلت كيف طابق جوابهما سؤاله ؟ قلت سألهما عن سبب الذود فقالتا السبب فى ذلك أننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ، فلا بد لنا من تأخير السقى إلى أن يفرغوا ، ومالنا رجل يقوم بذلك ، وأبونا شيخ كبير ، فقد أضعفه الكبر ، فلا يصلح للقيام به ، فهما قد أبدتا إليه عذرهما فى توليهما السقى بأنفسهما . فإن قلت كيف ساغ لنبى الله الذى هو شعيب - عليه السلام - أن يرضى لابنتيه بسقى الماشية ؟ قلت ، الأمر فى نفسه ليس بمحظور ، فالدين لا يأباه ، وأما المروءة فالناس مختلفون فى ذلك . والعادات متباينة فيه … وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم . ومذهب أهل البدو غير مذهب أهل الحضر ، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة … وقوله - تعالى - { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ } فقال { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } بيان لما فعله موسى وقاله بعد أن سقى للمرأتين غنمهما . أى فسقى موسى للمرأتين غنمهما ، ثم أعرض عنهما متجها إلى الظل الذى كان قريبا منه فى ذلك المكان ، قيل كان ظل شجرة وقيل ظل جدار . فقال على سبيل التضرع إلى ربه ياربى إنى فقير ومحتاج إلى أى خير ينزل منك على سواء أكان هذا الخير طعاما أم غيره . قال الآلوسى ما ملخصه وقوله { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ } أى لأى شىء تنزله من خزائن كرمك إلى { مِنْ خَيْرٍ } جل أو قل ، { فَقِيرٌ } أى محتاج ، وهو خبر إن . وعدى باللام لتضمنه معنى الاحتياج . و { ما } نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صفتها . والرابط محذوف ، و { مِنْ خَيْرٍ } بيان لها والتنوين فيه للشيوع ، والكلام تعريض لما يطعمه ، بسبب ما ناله من شدة الجوع . يدل لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما سقى موسى للجاريتين ، ثم تولى إلى الظل . فقال رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير ، وإنه يومئذ فقير إلى كف من تمر " . واستجاب الله - تعالى - لموسى دعاءه . وأرسل إليه الفرج سريعا ، يدل لذلك قوله - تعالى - بعد هذا الدعاء من موسى { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا … } . وفى الكلام حذف يفهم من السياق وقد أشار إليه ابن كثير بقوله لما رجعت المرأتان سراعا بالغنم إلى أبيهما ، أنكر حالهما ومجيئهما سريعا ، فسألهما عن خبرهما فقصتا عليه ما فعل موسى - عليه السلام - . فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها ، كما قال - تعالى - { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ } اى مشى الحرائر ، كما روى عن عمر بن الخطاب أنه قال كانت مستترة بكم درعها . أى قميصها . ثم قال ابن كثير وقد اختلف المفسرون فى هذا الرجل من هو ؟ على أقوال أحدهما أنه شعيب النبى - عليه السلام - الذى أرسله الله إلى أهل مدين ، وهذا هو المشهور عند كثيرين وقد قاله الحسن البصرى وغير واحد ورواه ابن أبى حاتم . وقد روى الطبرانى عن مسلمة بن سعد العنزى أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مرحبا بقوم شعيب ، وأختان موسى . وقال آخرون بل كان ابن أخى شعيب . وقيل رجل مؤمن من آل شعيب . ثم قال - رحمه الله - ثم من المقوى لكونه ليس بشعيب ، أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه فى القرآن ها هنا . وما جاء فى بعض الأحاديث من التصريح بذكره فى قصة موسى لم يصح إسناده . والمعنى ولم يطل انتظار موسى للخير الذى التمسه من خالقه - عز وجل - فقد جاءته إحدى المرأتين اللتين سقى لهما ، حالة كونها { تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ } أى على تحشم وعفاف شأن النساء الفضليات . { قَالَتْ } بعبارة بليغة موجزة { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ } للحضور إليه { لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أى ليكافئك على سقيك لنا غنمنا . واستجاب موسى لدعوة أبيها وذهب معها للقائه { فَلَمَّا جَآءَهُ } ، أى فلما وصل موسى إلى بيت الشيخ الكبير ، { وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ } ، أى وقص عليه ما جرى له قبل ذلك ، من قتله القبطى ، ومن هربوه إلى أرض مدين . فالقصص هنا مصدر بمعنى اسم المفعول ، أى المقصوص . { قَالَ } أى الشيخ الكبير لموسى { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أى لا تخف يا موسى من فرعون وقومه ، فقد أنجاك الله - تعالى - منهم ومن كل ظالم . وهذا القول من الشيخ الكبير لموسى ، صادف مكانه ، وطابق مقتضاه ، فقد كان موسى - عليه السلام - أحوج ما يكون فى ذلك الوقت إلى نعمة الأمان والاطمئنان ، بعد أن خرج من مصر خائفا يترقب . ثم يحكى القرآن بعد ذلك ، ما أشارت به إحدى الفتاتين على أبيها فقال - تعالى - { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا } ولعلها التى جاءت إلى موسى على استحياء لتقوله له { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } . { يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ } أى قالت لأبيها بوضوح واستقامة قصد - شأن المرأة السليمة الفطرة النقية العرض القوية الشخصية - يا أبت استأجر هذا الرجل الغريب ليكفينا تعب الرعى ، ومشقة العمل خارج البيت . ثم عللت طلبها بقولها { إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } أى استأجره ليرعى غنمنا ، فإنه جدير بهذه المهمة ، لقوته وأمانته ، ومن جمع فى سلوكه وخلقه بين القوة والأمانة ، كان أهلا لكل خير ، ومحلا لثقة الناس به على أموالهم وأعراضهم . قال ابن كثير قال عمر ، وابن عباس ، وشريح القاضى ، وأبو مالك ، وقتادة … وغير واحد لما قالت { إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ } قال لها أبوها وما علمك بذلك ؟ قالت إنه رفع الصخرة التى لا يطيق حملها إلا عشرة رجال ، وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال لى كونى من ورائى ، فإذا اجتنبت الطريق فاحذفى - أى فارمى - بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدى إليه . واستجاب الشيخ الكبير لما اقترحته عليه ابنته ، وكأنه أحس بصدق عاطفتها ، وطهارة مقصدها وسلامة فطرتها ، فوجه كلامه إلى موسى قائلا { قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } أى قال الشيخ الكبير لموسى مستجيبا لاقتراح ابنته يا موسى إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتى هاتين . ولعله أراد بإحداهما ، تلك التى قالت له يا أبت استأجره ، لشعوره - وهو الشيخ الكبير ، والأب العطوف ، الحريص على راحة ابنته - بأن هناك عاطفة شريفة تمت بين قلب ابنته ، وبين هذا الرجل القوى الأمين ، وهو موسى - عليه السلام - . وفى هذه الآيات ما فيها من الإِشارة إلى رغبة المرأة الصالحة ، فى الرجل الصالح ، وإلى أنه من شأن الآباء العقلاء أن يعملوا على تحقيق هذه الرغبة . قال الشوكانى فى هذه الآية مشروعية عرض ولى المرأة لها على الرجل ، وهذه سنة ثابتة فى الإِسلام ، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبى بكر وعثمان ، وغير ذلك مما وقع فى أيام الصحابة أيام النبوة ، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله - سبحانه - { عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } بيان لما اشترطه الشيخ الكبير على موسى - عليه السلام - . أى قال له بصيغة التأكيد إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتى هاتين ، بشرط أن تعمل أجيرا عندى لرعى غنمى { ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أى ثمانى سنين . قال الجمل وقوله { عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي } فى محل نصب على الحال ، إما من الفاعل أو من المفعول . أى مشروطا على أو عليك ذلك … و { تَأْجُرَنِي } مفعلوه الثانى محذوف أى تأجرنى نفسك و { ثَمَانِيَ حِجَجٍ } ظرف له . وقوله { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } أى فإن أتممت عشر سنين كأجير عندى لرعاية غنمى ، أى فهذا الإِتمام من عندك على سبيل التفضل والتكرم فإنى لا أشترط عليك سوى ثمانى حجج . وقوله { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } بيان لحسن العرض الذى عرضه الشيخ على موسى . أى وما أريد أن أشق عليك أو أتبعك فى أمر من الأمور خلال استئجارى لك ، بل ستجدنى - إن شاء الله - تعالى - من الصالحين ، فى حسن المعاملة ، وفى لين الجانب ، وفى الوفاء بالعهد . وقال { سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ … } للدلالة على أنه من المؤمنين . الذين يفوضون أمورهم إلى الله - تعالى - ويرجون توفيقه ومعونته على الخير . ثم حكى - سبحانه - ما رد به موسى فقال { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } . أى { قَالَ } موسى فى الرد على الشيخ الكبير { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } أى ذلك الذى قلته لى واشترطته على ، كائن وحاصل بينى وبينك ، وكلانا مطالب بالوفاء به فاسم الإِشارة مبتدأ ، وبينى وبينك خبره ، والإِشارة مرجعها إلى ما تعاقدا عليه ، وأى فى قوله { أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ } شرطية ، وجوابها ، { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } و { وما } مزيدة للتأكيد . والمعنى أى الأجلين ، أى الثمانية الأعوام أو العشرة الأعوام { قَضَيْتُ } أى وفيت به ، وأديته معك أجيرا عندك { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أى فلا ظلم على ، وأصل العدوان تجاوز الحد . قال صاحب الكشاف ما ملخصه أى قال موسى ذلك الذى قلته … قائم بيننا جميعا لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما اشترطت على ولا أنت عما اشترطت على نفسك … ثم قال أى أجل من الأجلين قضيت - أطولهما أو أقصرهما - { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أى فلا يعتدى على فى طلب الزيادة عليه . فإن قلت تصور العدوان إنما هو فى أحد الأجلين الذى هو الأقصر ، وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا ؟ قلت معناه ، كما أنى إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمانى . أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه ثابت مستقر ، وأن الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما فى القضاء ، وأما التتمة فهى موكولة إلى رأيى . إن شئت أتيت بها ، وإلا لم أجبر عليها . والمقصود بقوله { وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } توثيق العهد وتأكيده ، وأنه لا سبيل لواحد منهما على الخروج عنه أصلا . أى والله - تعالى - شهيد ووكيل ورقيب على ما اتفقنا عليه ، وتعاهدنا على تنفيذه ، وكفى بشهادته - سبحانه - شهادة . وقد ساق الإِمام ابن كثير جملة من الآثار التى تدل على أن موسى - عليه السلام - قد قضى أطول الأجلين . ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سألت جبريل أى الأجلين قضى موسى ؟ قال " أكملهما وأتمهما ، وفى رواية أبرهما وأوفاهما " . هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يرى فيها بجلاء ووضوح ، ما جبل عليه موسى - عليه السلام - من صبر على بأساء الحياة وضرائها ومن همة عالية تحمله فى كل موطن على إعانة المحتاج ، ومن طبيعة إيجابية تجعله دائما لا يقف أمام مالا يرضيه مكتوف اليدين ، ومن عاطفة رقيقة تجعله فى كل الأوقات دائم التذكر لخالقه ، كثير التضرع إليه بالدعاء . كما يرى فيها الفطرة السوية ، والصدق مع النفس ، والحياء ، والعفاف ، والوضوح ، والبعد عن التكلف والالتواء ، كل ذلك متمثل فى قصة هاتين المرأتين اللتين سقى لهما موسى غنمهم ، واللتين جاءته إحداهما تمشى على استحياء ، ثم قالت لأبيها يا أبت استأجره . كما يرى فيها ما كان يتحلى به ذلك الشيخ الكبير من عقل راجح ، ومن قول طيب حكيم ، يدخل الأمان والاطمئنان على قلب الخائف ، ومن أبوة حانية رشيدة ، تستجيب للعواطف الشريفة ، وتعمل على تحقيق رغباتها عن طريق الزواج الذى شرعه الله - تعالى - . ومضت السنوات العشر ، التى قضاها موسى أجيرا عند الشيخ الكبير فى مدين ، ووفى كل واحد منهما بما وعد به صاحبه ، وتزوج موسى بإحدى ابنتى الشيخ الكبير ، وقرر الرجوع بأهله إلى مصر ، فماذا حدث له فى طريق عودته ؟ يحكى لنا القرآن الكريم بأسلوبه البديع ما حدث لموسى - عليه السلام - بعد ذلك فيقول { فَلَمَّا قَضَىٰ … } .