Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 45-54)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - تعالى - { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ … } حكاية لموقف المشركين من الناصحين لهم ، ويكف أنهم صموا آذانهم عن سماع الآيات التنزيلية ، بعد صممهم عن التفكر فى الآيات التكوينية . أى وإذا قال قائل لهؤلاء المشركين على سبيل النصح والإِرشاد { ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } أى احذروا ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر ، وصونوا أنفسكم عن ارتكاب المعاصى التى ارتكبها الظالمون من قبلكم ، فأهلكوا بسببها وأبيدوا ، وآمنوا بالله ورسوله واعملوا العمل الصالح ، لعلكم بسبب ذلك تنالون الرحمة من الله - تعالى - . وجواب " إذا " محذوف دل عليه ما بعده ، والتقدير إذا قيل لهم ذلك أعرضوا عن الناصح ، واستخفوا به ، وتطاولوا عليه . ويشهد لهذا الجواب المحذوف قوله - تعالى - بعد ذلك { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } . و " من " الأولى مزيدة لتأكيد إعراضهم وصممهم عن سماع الحق ، والثانية للتبعيض . أى ولقد بلغ الجحود والجهل والعناد عند هؤلاء المشركين ، أنهم ما تأتيهم آية من الآيات التى تدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وعلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فى دعوته ، إلا كانوا عن كل ذلك معرضين إعراضا تاما ، شأنهم فى ذلك شأن الجاحدين من قبلهم . وأضاف - سبحانه - إليه الآيات التى أتتهم ، لتفخيم شأنها ، وبيان أنها آيات عظيمة ، كان من شأنهم - لو كانوا يعقلون - أن يتدبروها ، ويتبعوا من جاء بها . ثم حكى - سبحانه - موقفا آخر ، من مواقفهم القبيحة ممن نصحهم وأرشدهم إلى الصواب ، فقال - تعالى - { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ … } . وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها أن أبا بكر الصديق - رضى الله عنه - كان يطعم مساكين المسلمين ، فلقيه أبو جهل فقال له يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء ؟ قال نعم . قال فما باله لم يطعمهم ؟ قال أبو بكر ابتلى - سبحانه - قوما بالفقر ، وقوما بالغنى ، وأمر الفقراء بالصبر ، وأمر الأغنياء بالإِعطاء . فقال أبو جهل والله يا أبا بكر إن أنت إلا فى ضلال ، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ، ثم تطعمهم أنت … فنزلت هذه الآية . وقيل كان العاصى بن وائل السهمى ، إذا سأله المسكين قال له اذهب إلى ربك فهو أولى منى بك . ثم يقول قد منعه الله فأطعمه أنا … والمعنى وإذا قال قائل من المؤمنين لهؤلاء الكافرين أنفقوا على المحتاجين شيئا من الخير الكثير الذى رزقكم الله - تعالى - إياه . قال الكافرون - على سبيل الاستهزء والسخرية - للمؤمنين هؤلاء الفقراء الذين طلبتهم منا أن ننفق عليهم ، لو شاء الله لأطعمهم ولأغناهم كما أغنانا . { إِنْ أَنتُمْ } أيها المؤمنون { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فى أمركم لنا بالإِنفاق عليهم أو على غيرهم . قال الشوكانى ما ملخصه وقوله { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } حكاية لتهكم الكافرين ، وقد كانوا سمعوا المؤمنين يقولون إن الرزاق هو الله ، وإنه يغنى من يشاء ، ويفقر من يشاء ، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإِلزام للمؤمنين ، وقالوا نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله . وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل ، فإن الله - سبحانه - أغنى بعض خلقه وأفقر بعضا ، وأمر الغنى أن يطعم الفقير ، وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة ، وقولهم { مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } هو وإن كان كلاما صحيحا فى نفسه ، ولكنهم لما قصدوا به الإِنكار لقدرة الله ، وإنكار جواز الأمر بالإِنفاق مع قدرة الله ، كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلا . وقوله { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } من تتمة كلام الكفار . وقيل هو رد من الله عليهم . ثم يحكى القرآن إنكارهم للبعث ، واستهزاءهم بمن يؤمن به فيقول { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . أى ويقول الكافرون للمؤمنين - على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالبعث - { مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ } الذى تعدوننا به من أن هناك بعثا ، وحسابا وجزاء … أحضروه لنا { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فيما تعدوننا به . وهنا يجئ الرد الذى يزلزلهم ، عن طريق بيان بعض مشاهد يوم القيامة ، فيقول - سبحانه - { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ . فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } المراد بالصيحة هنا النفخة الأولى التى ينفخها إسرافيل بأمر الله - تعالى - فيموت جميع الخلائق . وقوله { يَخِصِّمُونَ } أى يختصمون فى أمور دنياهم . وفى هذا اللفظ عدة قراءات سبعية . منها قراءة أبو عمرو وابن كثير { وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } - بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد مع الفتح - ومنها قراءة عاصم والكسائى { وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد مع الكسر . ومنها قراءة حمزة { يَخِصِّمُونَ } بإسكان الخاء وكسر الصاد مع التخفيف . أى أن هؤلاء الكافرين الذين يستنكرون قيام الساعة ، ويستبعدون حصولها ، جاهلون غافلون ، فإن الساعة آتية لا ريب فيها ، وستحل بهم بغتة فإنهم ما ينتظرون { إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } يصيحها إسرافيل بأمرنا ، فتأخذهم هذه الصيحة وتصعقهم وتهلكهم { وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أى وهم يتخاصمون ، ويتنازعون فى أمور دنياهم . وعندما تنزل بهم هذه الصيحة ، لا يستطيع بعضهم أن يوصى بعضا بما يريد أن يقول له ولا يستطيعون جميعا الرجوع إلى أهليهم ، لأنهم يصعقون فى أماكنهم التى يكونون فيها عند حدوث هذه الصيحة . فأنت ترى أن الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أبلغ تصوير لأهوال علامات يوم القيامة ، ولسرعة مجئ هذه الأهوال . أخرج الشيخان عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ، ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة والرجل يليط حوضه - أي يسده بالطين - فلا يسقى منه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن ناقته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها " . ثم بين - سبحانه - حالهم عند النفخة الثانية فقال { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } . والمراد بالنفخ هنا النفخة الثانية التى يكون معها البعث والحساب . والصور القرن الذى ينفخ فيه إسرافيل ، ولا يعلم كيفيته سوى الله - تعالى - والأجداث جمع جَدَث - بفتحتين - كفرس وأفراس - وهى القبور . وينسلون أى يسرعون بطريق الجبر والقهر لا بطريق الاختيار ، والنَّسَلاَن الإسراع فى السير . أى ونفخ فى الصور النفخة الثانية ، فإذا بهؤلاء الكافرين الذين كانوا يستبعدون البعث وينكرونه ، يخرجون من قبورهم سراعا - وبدون اختيار منهم - متجهين إلى ربهم ومالك أمرهم ليقضى فيهم بقضائه العادل . { قَالُواْ } بعد خروجهم من قبورهم بسرعة وفزع { يٰوَيْلَنَا } أى يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك . ثم يقولون بفزع أشد { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } أى من أثارَنا من رقادنا ، وكأنهم لهول ما شاهدوا قد اختلطت عقولهم ، وأصيبت بالهول ، فتوهموا أنهم كانوا نياما . قال ابن كثير - رحمه الله - { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } يعنون قبورهم التى كانوا يعتقدون فى الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها ، فلما عاينوا ما كذبوه فى محشرهم قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ، وهذا لا ينفى عذابهم فى قبورهم ، لأنه بالنسبة إلى ما بعده فى الشدة كالرقاد . وقوله { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } رد من الملائكة أو من المؤمنين عليهم ، أو هو حكاية لكلام الكفرة فى رد بعضهم على بعض على سبيل الحسرة واليأس . و " ما " موصولة والعائد محذوف ، أى هذا الذى وعده الرحمن والذى صدّقه المرسلون . قال صاحب الكشاف فإن قلت إذا جعلت " ما " مصدرية ، كان المعنى هذا وعد الرحمن ، وصدق المرسلين ، على تسمية الموعود والمصدق فيه بالوعد والصدق ، فما وجه قوله { وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } ؟ إذا جعلتها موصولة ؟ قلت تقديره هذا الذى وعده الرحمن ، والذى صدقه المرسلون ، بمعنى والذى صدق فيه المرسلون ، من قولهم صدقوهم الحديث والقتال … ثم بين - سبحانه - سرعة امتثالهم وحضورهم للحساب فقال { إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } . أى ما كانت النفخة التى حكيت عنهم آنفا { إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } صاحها إسرافيل بإذننا وأمرهم فيها بالقيام من قبورهم { فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ } دون أن يتخلف أحد منهم لدينا محضرون ومجموعون للحساب والجزاء . { فَٱلْيَوْمَ } وهو يوم القيامة { لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } من الظلم ، وإنما كل نفس توفى حقها . وقوله - تعالى - { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أى ولا تجزون إلا جزاء ما كنتم تعملونه فى الدنيا ، فالجملة الكريمة تأكيد وتقرير لما قبلها . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } وبعد هذا الحديث المتنوع عن أحوال الكافرين يوم القيامة ، جاء الحديث عما أعده الله - تعالى - بفضله وكرمه للمؤمنين ، وعما يقال للكافرين فى هذا اليوم من تبكيت وتأنيب فقال - تعالى - { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ … } .