Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 55-64)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فقوله - تعالى - { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } بيان لأحوالهم الطيبة ، بعد بيان أحوال الكافرين السيئة . والشغل الشأن الذى يشغل الإِنسان عما سواه من الشئون ، لكونه أهم عنده من غيره ، وما فيه من التنكير للتفخيم ، كأنه قيل فى شغل أى شغل . وفاكهون أى متنعمون متلذذون فى النعمة التى تحيط بهم ، مأخوذ من الفكاهة - بفتح الفاء - وهي طيب العيش مع النشاط . يقال فكه الرجل فكها وفاكه فهو فكه وفاكه ، إذا طاب عيشه ، وزاد سروره ، وعظم نشاطه وسميت الفاكهة بذلك لتلذذ الإنسان بها . أى يقال للكافرين فى يوم الحساب والجزاء زيادة فى حسرتهم - إن أصحاب الجنة اليوم فى شغل عظيم ، يتلذذون فيه بما يشرح صدورهم ، ويرضي نفوسهم ، ويقر عيونهم ، ويجعلهم فى أعلى درجات التنعم والغبطة . وعبر عن حالهم هذه بالجملة الاسمية المؤكدة ، للإِشعار بأن هذه الحال ثابتة لهم ثبوتا تاما ، بفضل الله - تعالى - وكرمه . ثم بين - سبحانه - جانبا من كيفية هذا التمتع بالجنة ونعيمها فقال { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ } . و " هم " مبتدأ ، و " أزواجهم " معطوف عليه . و " متكئون " خبر المبتدأ . قال الإمام الرازى ولفظ الأزواج هنا يحتمل وجهين أحدهما أشكالهم فى الإحسان . وأمثالهم فى الإيمان ، كما قال - تعالى - { وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } وثانيهما الأزواج هم المفهومون من زوج المرأة وزوجة الرجل ، كما فى قوله - تعالى - { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ … } ويبدو أن المراد بالأزواج هنا حلائلهم اللاتى أحلهن الله لهم ، زيادة فى مسرتهم ويهجتهم ، وعلى هذا سار عامة المفسرين . والظلال جمع ظل أو ظلة ، وهى ما يظل الإِنسان ويقيه من الحر . والأرائك جمع أريكة وهى ما يجلس عليه الإِنسان من سرير ونحوه للراحة والمتعة . أى أن أصحاب الجنة هم وحلائلهم يجلسون على الأرائك متكئين فى متعة ولذة . { لَهُمْ فِيهَا } أى فى الجنة { فَاكِهَةٌ } كثيرة متنوعة { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } أى ولهم فوق ذلك جميع ما يطلبونه من مطالب وما يتمنونه من أمنيات . فقوله { يَدَّعُونَ } يصح أن يكون من الدعاء بمعنى الطلب ، كما يصح أن يكون من الادعاء بمعنى التمنى . يقال ادعُ علىَّ ما شئتَ أى تمن علىَّ ما شئت . ويقال فلان فى خير ما يدَّعِى ، أى فى خير ما يتمنى . ثم ختم - سبحانه - هذا العطاء الجزيل للمؤمنين بقوله { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } . وللمفسرين فى إعراب قوله { سَلاَمٌ } أقوال منها أنه مبتدأ خبره الناصب للفظ { قَوْلاً } أى سلام يقال لهم قولا … وقد أشار صاحب الكشاف إلى بعض هذه الأقوال فقال وقوله { سَلاَمٌ } بدل من قوله { مَّا يَدَّعُونَ } كأنه قال لهم سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم . والمعنى أن الله - تعالى - يسلم عليهم بواسطة الملائكة ، أو بغير واسطة ، مبالغة فى تكريمهم ، وذلك غاية متمناهم … وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث ، منها ما رواه ابن أبى حاتم - بسنده - عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بينما أهل الجنة في نعيمهم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم فإذ الرب - تعالى - قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال السلام عليكم يا أهل الجنة . فذلك قوله { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } قال فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شئ من النعيم ما داموا ينظرون إليه . حتى يحتجب عنهم ، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم " . والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة - كما يقال الإِمام الفخر الرازى - يراها تشير إلى أن أصحاب الجنة ليسوا فى تعب ، كما تشير إلى وحدتهم وإلى حسن المكان ، وإلى إعطائهم كل ما يحتاجونه ، وإلى تلذذهم بالنعيم وإلى تلقيهم لأجمل تحية … هذا هو حال المؤمنين ، وهذا بعض ما يقال لهم من ألفاظ التكريم ، فماذا يقال للمجرمين . لقد بين - سبحانه - بعد ذلك ما يقال للمجرمين فقال { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } أى ويقال للمجرمين فى هذا اليوم - على سبيل الزجر والتأنيب انفردوا - أيها المجرمون - عن المؤمنين ، واتجهوا إلى ما أعد لكم من عذاب فى جهنم ، بسبب كفركم وجحودكم للحق . يقال امتاز وتميز القوم بعضهم عن بعض ، إذا انفصل كل فريق عن غيره . قال تعالى { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ . فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ . وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ فَأُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } وقوله - تعالى - بعد ذلك { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَنْ لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } من جملة ما يقال لهم - أيضا - على سبيل التقريع والتوبيخ . والعهد بالشئ الوصية به ، والمراد به هنا وصية الله - تعالى - للناس على ألسنة رسله ، أن يخلصوا له العبادة والطاعة ، وأن يخالفوا ، ما يوسوس لهم به الشيطان من شرك ومعصية . قال الآلوسى والمراد بالعهد هنا . ما كان منه - تعالى - على ألسنة الرسل - عليهم السلام - من الأوامر والنواهى التى من جملتها قوله - تعالى - { يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ … } وقيل هو الميثاق المأخوذ عليهم فى عالم الذر ، إذ قال - سبحانه - { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ … } وقيل هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله - تعالى - الزاجرة عن عبادة غيره . … والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ، ويزينه لهم ، عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها . والمعنى لقد عهدت إليكم - يا بنى آدم - عهدا مؤكدا على ألسنة رسلى ، أن لا تعبدوا الشيطان وأن لا تستمعوا لوسوسته ، وأن لا تتبعوا خطواته ، لأنه لكم عدو ظاهر العداوة ، بحيث لا تخفى عداوته على أحد من العقلاء . فجملة { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تعليل لوجوب الانتهاء عن طاعة الشيطان . وقوله { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } بيان لما يجب عليهم أن يفعلوه بعد النهى عما يجب عليهم أن يجتنبوه . و " أن " فى قوله { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } وفى قوله { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي } مفسرة ، والجملة الثانية معطوفة على الأولى . أى لقد عهدت إليكم بأن تتركوا عبادة الشيطان ، وعهدت إليكم أن تعبدونى وحدى دون غيرى . والإِشارة فى قوله { هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } تعود إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - . أى هذا الذى أمرتكم به من إخلاص العبادة والطاعة لى هو الطريق الواضح المستقيم ، الذى يوصلكم إلى عز الدنيا ، وسعادة الآخرة . وقوله - سبحانه - { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } استئناف مسوق لتأكيد النهى عن طاعة الشيطان ، ولتشديد التوبيخ لمن اتبع خطواته . " وجبلا كثيرا " بمعنى خلقا كثيرا حتى إنهم لكثرتهم كالجبل العظيم . ولفظ " جِبِلاًّ " قرأه نافع وعاصم - بكسر الجيم والباء ، وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائى { جِبِلاًّ } بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام وجيمع القراءات بمعنى واحد . أى ولقد أغوى الشيطان منكم يا بنى آدم خلقا كثيرا ، فهل عقلتم ذلك ، واتعظتم بما فعله مع كثير من أبناء جنسكم ، وأخلصتم لنا العبادة والطاعة ، واتخذتم الشيطان عدوا لكم كما صرح بعداوتكم . وبالعمل على إغوائكم . قال - تعالى - { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } وقال - سبحانه - حكاية عنه { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } وبعد هذا التوبيخ لمن أطاعوا الشيطان ، يقال لهم فى النهاية { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } . أى هذه جهنم ماثلة أمام أعينكم أيها الكافرون ، وهى التى كنتم توعدون بها فى الدنيا ، وكنتم تقابلون ذلك بالسخرية والتكذيب . { ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أى ذوقوا حرها ولهيبها وسعيرها ، بسبب كفركم فى الدنيا ، وموتكم على هذا الكفر . والأمر فى قوله - تعالى - { اصلوها } للتحقير والإِهانة ، كما فى قوله - تعالى - { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } والذين يأمرونهم بذلك هم خزنة النار ، بأمر من الله - تعالى - . ثم تنتقل السورة الكريمة فتحكى لنا جانبا آخر من أحوال الكافرين فى هذا اليوم العصيب ، كما تحكى لنا جانبا من مظاهر قدرة الله - تعالى - فتقول { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ … } .