Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 65-68)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والمراد باليوم فى قوله - تعالى - { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ … } يوم القيامة . وقوله { نَخْتِمُ } من الختم ، والختم الوسم على الشئ بطابع ونحوه ، مأخوذ من وضع الخاتم على الشئ وطبعه فيه للاستيثاق ، لكى لا يخرج منه ما هو بداخله ، ولا يدخله ما هو خارج عنه . أى فى يوم القيامة نختم على أفواه الكافرين فنجعلها لا تنطق ، وإنما تكلمنا أيديهم ، وتشهد عليهم أرجلهم بما كانوا يكسبونه فى الدنيا من أقوال باطلة ، وأفعال قبيحة . قالوا وسبب الختم على أفواههم ، أنهم أنكروا أنهم كانوا مشركين فى الدنيا ، كما حكى عنهم - سبحانه - ذلك فى قوله - تعالى - { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } أو ليكونوا معروفين لأهل الموقف فى ذلك اليوم العصيب ، أو لأن إقرار غير الناطق أبلغ فى الحجة من إقرار الناطق ، أو ليعلموا أن أعضاءهم التى ارتكبت المعاصى فى الدنيا ، قد صارت شهودا عليهم فى الآخرة . وجعل - سبحانه ما تنطق به الأيدى كلاما ، وما تنطق به الأرجل شهادة ، لأن مباشرة المعاصى - غالباً - تكون بالأيدى ، أما الأرجل فهى حاضرة لما ارتكب بالأيدى من سيئات ، وقول الحاضر على غيره شهادة بما له ، أما قول الفاعل فهو إقرار ونطق بما فعله . قال الجمل وقال الكرخى أسند سبحانه فعل الختم إلى نفسه ، وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدى والأرجل ، لئلا يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا ، أو قهراً ، والإِقرار مع الإِجبار غير مقبول . فقال تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم ، أى باختيارها بعد إقدار الله لها على الكلام ، ليكون أدل على صدور الذنب منهم . وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات جملة من الأحاديث ، التى صرحت بأن أعضاء الإِنسان تشهد عليه يوم القيامة بما ارتكبه فى الدنيا من سيئات . ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أنس بن مالك - رضى الله عنه - أنه قال " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال " أتدرون مم أضحك ؟ قلنا الله ورسوله أعلم . قال من مجادلة العبد ربه يوم القيامة . يقول رب ألم تُجِرنى من الظلم ؟ فيقول بلى ، فيقول لا أجيز عليَّ إلا شاهداً من نفسي ، فيقول الله - تعالى - له كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، وبالكرام الكاتبين شهوداً . قال فيختم على فيه . ويقال لأركانه - أي لأعضائه - انطقى . فتنطق بما عمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول بعداً وسحقاً فعنكن كنت أناضل " . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء الكافرين هم فى قبضته فى كل وقت فقال { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } . وقوله { لَطَمَسْنَا } الطمس إزالة أثر الشئ عن طريق محوه . يقال طمست الشئ طمسا - من باب ضرب - بمعنى محوته وأزلت أثره ، والمطموس والطميس الأعمى . ومفعول المشيئة محذوف . والصراط الطريق وهو منصوب بنزع الخافض . أى ولو نشاء طمس أعينهم بأن نمحو عنها الرؤية والإِبصار لفعلنا ، ولكنا لم نفعل بهم ذلك فضلا منا عليهم ، ورحمة بهم ، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوا نعمنا بالشكر لا بالكفر . وقوله - سبحانه - { فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ } معطوف على { لَطَمَسْنَا } على سبيل الفرض . أى لو نشاء محو أبصارهم لمحوناها ، فلو أرادوا فى تلك الحالة المبادرة إلى الطريق ليسيروا فيه ، أو ليعبروه لما استطاعوا ذلك . لأنهم كيف يستطيعون ذلك وهم لا يبصرون شيئاً . فالاستفهام فى قوله - تعالى - { فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } لاستبعاد اجتيازهم الطريق ، ونفى قدرتهم على التصرف . وقوله - سبحانه - { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } والمسخ تبديل الخلقة وتحويلها من حال إلى حال ، ومن هيئة إلى هيئة . أى وفى قدرتنا إذا شئنا ، أن نغير صورهم الإِنسانية إلى صور أخرى قبيحة ، كأن نحولهم إلى قردة أو حيوانات وهم { عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ } أى وهم فى مكانهم الذى يقيمون فيه { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ } بسبب هذا المسخ { مُضِيّاً } أى ذهابا إلى مقاصدهم { وَلاَ يَرْجِعُونَ } أى ولما استطاعوا - أيضا - إذا ذهبوا أن يرجعوا . أى فى إمكاننا أن نمسخهم وهم جالسون فى أماكنهم ، فلا يقدرون أن يمضوا إلى الأمام ، أو أن يعودوا إلى الخلف . فالمقصود بالآيتين الكريمتين تهديدهم على استمرارهم فى كفرهم ، وبيان أنهم تحت قدرة الله - تعالى - وفى قبضته ، وأنه - سبحانه - قادر على أن يفعل بهم ما يشاء من طمس للأبصار ، ومن مسخ للصور ، ومن غير ذلك مما يريده - تعالى - . ثم بين - سبحانه - أحوال الإِنسان عندما يتقدم به العمر فقال { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } وقوله { نُّعَمِّرْهُ } من التعمير . بمعنى إطالة العمر . قال القرطبى وقوله { نُنَكِّسْهُ } قرأه عاصم وحمزة - بضم النون الأولى وتشديد الكاف - من التنكيس . وقرأه الباقون { نَنْكُسُه } - بفتح النون الأولى وضم الكاف - من نكست الشئ أنكُسُه نَكْساً إذا قلبته على رأسه فانتكس . قال قتادة المعنى أنه يصير إلى حال الهرم الذى يشبه حال الصبا … قال الشاعر @ من عاش أَخْلَقَت الأيام جِدَّتَه وخانه ثقتاه السمع والبصر @@ فطول العمر يصير الشباب هَرَما ، والقوة ضعفا ، والزيادة نقصا … وقد استعاذ النبى صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر . . والمعنى " ومن نطل عمره ننكسه فى الخلق " أى نرده إلى أرذل العمر ، فنجعله - بقدرتنا - ضعيفا بعد أن كان قويا ، وشيخا بعد أن كان شابا فتيا ، وناقص العقل بعد أن كان مكتمله … { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } ذلك - أيها الناس - مع أنه من الأمور المشاهدة أمام أبصاركم ، وتعرفون أن من قدر على تحويل الإِنسان من ضعف إلى قوة ، ومن قوة إلى ضعف … قادر - أيضاً - على إعادته إلى الحياة مرة أخرى بعد موته . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ } وقوله - سبحانه - { وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } وبذلك نرى الآيات الكريمة ، قد هددت الكافرين بسوء المصير إذا استمروا فى كفرهم ، وبينت جانباً من فضل الله - تعالى - عليهم ، لعلهم يفيئون إلى رشدهم ، ويشكرونه على نعمه . ثم رد - سبحانه - على الكافرين الذين وصفوا النبى صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر ، كما قالوا عن القرآن أنه شعر ، فقال - تعالى - { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا … } .