Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 149-170)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - تعالى - { فَٱسْتَفْتِهِمْ … } معطوف على قوله - تعالى - فى أوائل السورة { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ … } عطف جملة على جملة . والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والاستفتاء الاستخبار والاستفهام وطلب الفتيا من المفتى . أى أسأل - أيها الرسول - هؤلاء المشركين سؤال تقريع وتأنيب { أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ } أى أسألهم بأى وجه من وجوه القسمة جعلوا لربك البنات وجعلوا لأنفسهم البنين ؟ إن قسمتهم هذه لهى قسمة جائرة وفاسدة عند كل عاقل ، لأنه لا يليق فى أى عقل أن يجعلوا لله - تعالى - الجنس الأدنى وهو جنس الإِناث ، بينما يجعلون لأنفسهم الجنس الأعلى . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ . تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } قال صاحب الكشاف { فَٱسْتَفْتِهِمْ } معطوف على مثله فى أول السورة ، وإن تباعدت بينهما المسافة ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث أولا . ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التى قسموها ، حيث جعلوا لله الإِناث ولأنفسهم الذكور ، فى قولهم الملائكة بنات الله ، مع كراهتهم الشديدة لهن . ولقد ارتكبوا فى ذلك ثلاثة أنواع من الكفر أحدها التجسيم ، لأن الولادة مختصة بالأجسام . والثانى تفضيل أنفسهم على ربهم ، حيث جعلوا أوضع الجنسين له ، وأرفعهما لهم . والثالث أنهم استهانوا بأكرم خلق الله ، وأقربهم إليه ، حيث أنثوهم . ولو قيل لأقلهم وأدناهم فيك أنوثة ، أو شكلك شكل النساء ، للبس لقائله جلد النمور ، ولا نقلبت حماليقه - أى أجفان عينيه . وقوله - سبحانه - { أَمْ خَلَقْنَا ٱلْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } تقريع آخر لهم على جهالاتهم وسفههم ، حيث أضرب - سبحانه - عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه فى التبكيت والتأنيب . أى إنهم زعموا أنه لربك البنات ولهم البنون ، فهل كانوا حاضرين وقت أن خلقنا الملائكة حتى يعرفوا أنهم إناث ؟ كلا إنهم لم يكونوا حاضرين وإنما هم يهرفون بما لا يعرفون . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } قال صاحب الكشاف فإن قلت لم قال { وَهُمْ شَاهِدُونَ } فخص علم المشاهدة ؟ قلت ما هو إلا الاستهزاء بهم وتجهيل … وذلك لأنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة ، لم يعلموه بخلق علمه فى قلوبهم ، ولا بإخبار صادق ، ولا بطريق استدلال ونظر . ثم أخبر - سبحانه - عن كذبهم فقال { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ . وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } والإِفك أشنع الكذب وأقبحه . يقال أفِك فلان كضرب وعلم - إِفْكا وأَفْكاً ، إذا كذب كذبا فاحشا . أى ألا إن هؤلاء الكافرين . من شدة كذبهم ، وشناعة جهلهم ليقولون زوراً وبهتانا { وَلَدَ ٱللَّهُ } أى اتخذ الله ولدا { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فى ذلك كذبا { تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً } وافتتحت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح " ألا " لتأكيد قولهم ، وأنهم كانوا مصرين على هذا القول الذى لا نهاية لبطلانه . ثم كرر - سبحانه - توبيخهم وتقريعهم فقال { أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ } والاصطفاء الاختيار والانتقاء . والاستفهام للإِنكار والنفى ، أى هل اختار الله البنات على البنين فى زعمهم ؟ كلا إن الله - تعالى - لم يفعل شيئا من ذلك لأنه - سبحانه - غنى عن العالمين . { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أى أى شئ حدث لكم ، وكيف أصدرتم هذه الأحكام الظاهرة البطلان عند كل من كان عنده أثر من عقل . وقوله { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } . معطوف على كلام محذوف والتقدير أتجهلون هذه الأمور الواضحة ، فلا تعقلون ولا تتذكرون ولا تعتبرون . وقوله - تعالى - { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ . فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } إضراب وانتقال من توبيخهم على جهالاتهم ، إلى تحديهم وإثبات كذبهم . أى بل ألكم حجة واضحة على صحة هذا القول الذى قلتموه من أن الملائكة بنات الله ؟ إن كانت عندكم هذه الحجة فأتوا بها إن كنتم صادقين فيما زعمتم . فالمقصود بالآيتين الكريمتين تعجيزهم وإثبات المزيد من جهالاتهم وأكاذيبهم . ثم حكى - سبحانه - زعما آخر من زعمهم فى شأن الملائكة فقال { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } والمراد بالجنة هنا الملائكة . سمو بذلك لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين . أى أن المشركين لم يكتفوا بما قالوا فى الآيات السابقة ، بل أضافوا إلى ذلك جريمة أخرى ، وهى أنهم جعلوا بين الله - تعالى - وبين الملائكة نسبا ، ولقد علمت الجنة ، - أى الملائكة - ، " إنهم " أى القائلون لهذه المقالة الباطلة " لمحضرون " أى إلى العذاب يوم القيامة . ليذوقوا سوء عاقبة كذبهم . قال القرطبى أكثر أهل التفسير أن الجنة ها هنا الملائكة . عن مجاهد قال قالوا - يعنى كفار قريش - الملائكة بنات الله ، فقال لهم أبو بكر فمن أمهاتهن ؟ قالوا مخدرات الجن … ومعنى " نسبا " مصاهرة . وقال قتادة قالت اليهود إن الله صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهن . وقال الحسن أشركوا الشيطان فى عبادة الله ، فهو النسب الذى جعلوه . ثم نزه - سبحانه - ذاته عما افتروه فقال { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أى تنزه الله - تعالى - وتقدس عما يقوله هؤلاء الجاهلون . وقوله { إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } استثناء منقطع من قوله { لَمُحْضَرُون } وما بينهما جملة معترضة لتنزيه الله - تعالى - وتقديسه . أى والله لقد علمت الملائكة أن المشركين القائلين بهذا القول الفاسد لمحضرون إلى النار ، ويُدَعُّون إليها دعا ، لكن عباد الله الذين أخلصوا له العبادة والطاعة ليسوا كذلك ، بل هم ناجون من عذاب جهنم ، لتنزيههم الخالق - عز وجل - عما لا يليق به . ثم حقر - سبحانه - من شأن المشركين ، ومن شأن آلهتهم المزعومة فقال { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ . مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ . إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ } . وهذا الكلام يجوز أن يكون حكاية لما رد به الملائكة على المشركين الذين قالوا الإِفك والزور قبل ذلك ، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا من الله - تعالى - على سبيل الاستخفاف والتهكم بالمشركين وبآلهتهم . والفاء فى قوله { فَإِنَّكُمْ } واقعة فى جواب شرط مقدر . و " الواو " فى قوله { وَمَا تَعْبُدُونَ } للعطف على اسم إن ، أو بمعنى مع . و " ما " موصولة أو مصدرية . و " ما " فى قوله { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } نافية والضمير فى " عليه " يعود على الله - عز وجل - والجار والمجرور متعلق " بفاتنين " والمراد بالفتن هنا الإِفساد ، من قولهم فلان فتن على فلان خادمة . إذا أفسده . وجملة { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } خبر إن . و { صال } - بكسر اللام - اسم فاعل منقوص - كقاض - مضاف إلى ما بعده . وحذفت ياؤه لالتقاء الساكنين . والمعنى إذا أدركتم - أيها المشركون - ما قلناه لكم . فثقوا أنكم أنك أنتم وآلهتكم لن تستطيعوا أن تضلوا أحدا هداه الله - تعالى - لكنكم تستطيعون أن تضلوا من كان من أهل الجحيم مثلكم . فالمقصود بهذه الآيات الكريمة ، الاستخفاف بالمشركين وبآلهتهم ، وبيان أن من هداه الله ، تعالى - لا سلطان لهم عليه فى إغوائه أو إضلاله . قال صاحب الكشاف والضمير فى " عليه " لله - تعالى - ومعناه فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعا بفاتنين على الله ، إلا أصحاب النار الذين سبق فى علمه أنهم لسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها . فإن قلت كيف يفتنونهم على الله ؟ قلت يفسدونهم عليه بإغوائهم واستهوائهم . من قولك فتن فلان على فلان امرأته ، كما تقول أفسدها وخيبها عليه … ثم بين - سبحانه - أن الملائكة معترفون اعترافا تاما بطاعتهم لله - تعالى - وبمداومتهم على عبادته وتسبيحه فقال { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ . وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ . وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ } أى لقد اعترف الملائكة بطاعتهم الكاملة لله - تعالى - وقالوا وما منا أحد إلا له مقام معلوم فى عبادة الله - تعالى - وطاعته ، وإنا لنحن الصافون أنفسنا فى مواقف العبودية والطاعة لله - عز وجل - وإنا لنحن المسبحون والمنزهون له - تعالى - عن كل مالا يليق به . وقد ذكر الإِمام ابن كثير هنا جملة من الأحاديث منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه " أطَّتْ السماء وحق لها أن تَئِط - أى سمع لها صوت شديد - ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد " ، ثم قرأ { وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلصَّآفُّونَ . وَإِنَّا لَنَحْنُ ٱلْمُسَبِّحُونَ } ثم أخبر - سبحانه - عن حال المشركين قبل أن يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ . لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ . لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ . فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } . و " إن " فى قوله { وَإِن كَانُواْ … } هى المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير محذوف . والقائلون هم كفار مكة ، والفاء فى قوله { فَكَفَرُواْ بِهِ } وهى الفصيحة الدالة على محذوف مقدر . والمعنى إن حال هؤلاء الكافرين وشأنهم ، أنهم كانوا يقولون قبل مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } أى لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل لكنا عباد الله المخلصين أى لكنا بسبب وجود هذا الكتاب من عباد الله الذين يخلصون له العبادة والطاعة . فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب المبين كما تمنوا وطلبوا ، فكانت النتيجة أن كفروا به ، فسوف يعلمون سوء عاقبة هذا الكفر ، { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببشارة المؤمنين بنصره ، وبتسلية النبى صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا … } .