Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 41, Ayat: 40-46)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله - تعالى - { يُلْحِدُونَ } من الإِلحاد وهو الميل عن الاستقامة ، والعدول عن الحق . يقال ألحد فلان فى كلامه إذا مال عن الصواب ، ومنه اللحد فى القبر ، لأنه أميل إلى ناحية منه دون الأخرى . والمعنى إن الذين يميلون عن الحق فى شأن آياتنا بأن يؤولوها تأويلا فاسدا ، أو يقابلوها باللغو فيها وعدم التدبر لما اشتملت عليه من توجيهات حكيمة … هؤلاء الذين يفعلون ذلك { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } أى ليسوا بغائبين عن علمنا ، بل هم تحت بصرنا وقدرتنا ، وسنجازيهم بما يستحقون من عقاب مهما ألحدوا ومالوا عن الحق والصواب . فالجملة تهديد لهم على تحريفهم الباطل لآيات الله - تعالى - . ثم بين - سبحانه - البون الشاسع بين عاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين ، فقال { أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } ؟ والغرض من هذا الاستفهام بيان أن الذين يلحدون فى آيات الله سيكون مصيرهم الإِلقاء فى النار ، وأن الذين استجابوا للحق وساروا على طريقه وهم المؤمنون ، سيأتون آمنين من الفزع يوم القيامة . قال الآلوسى " وكان الظاهر أن يقابل الإِلقاء فى النار بدخول الجنة ، لكنه عدل عنه إلى ما فى النظم الجليل ، اعتناء بشأن المؤمنين ، لأن الأمن من العذاب أعم وأهم ، ولذا عبر عن الأول بالإِلقاء الدال على القهر والقسر ، وعبر عن الثانى بالإِتيان الدال على أنه بالاختيار والرضا ، مع الأمن ودخول الجنة … " وقوله - تعالى - { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تهديد آخر لهم على إلحادهم . أى اعملوا أيها الملحدون ما شئتم من أعمال قبيحة ، فإنها لا تخفى على خالقكم - عز وجل - ، لأنه بصير بكم ، ومطلع على أفعالكم ، وسيجازيكم عليها الجزاء العادل الذى تستحقونه . فالمقصود من الأمر فى قوله - تعالى - { ٱعْمَلُواْ } التهديد والوعيد . ثم أضاف - سبحانه - إلى ما سبق تهديدا ثالثا فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ } . وخبر " إن " هنا محذوف للعلم به مما سبق ، أى إن الذين كفروا بالقرآن الكريم حين جاءهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خاسرون أو هالكون أو معذبون عذابا شديدا . { وإنه } أى هذا القرآن الكريم هو الحق الذى جاءهم به صلى الله عليه وسلم ، لعل هذا التدبر يوصلهم إلى الهداية والرشاد { لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } أى لكتاب منيع معصوم بعصمة الله - تعالى - له من كل تحريف أو تبديل . ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى فقال { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } أى لا يستطيع الباطل أن يتطرق إليه من أى جهة من الجهات ، لا من جهة لفظه ولا من جهة معناه لأن الله - تعالى - تكفل بحفظه وصيانته ، كما قال - تعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } قال صاحب الكشاف فإن قلت أما طعن فيه الطاعنون وتأوله المبطلون ؟ قلت بلى ، ولكن الله قد تكفل بحمايته عن تعلق الباطل به ، بأن قيض قوما عارضوهم بإبطال تأويلهم ، وإفساد أقاويلهم . فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقا ، ولا قول مبطل إلا مضمحلا . وقوله { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } أى هذا الكتاب منزل من لدن الله الحكيم فى أقواله وأفعاله ، المحمود على ما أسدى لعباده من نعم لا تحصى . ثم سلى - سبحانه - نبيه صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه فقال { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } . أى لا تحزن - أيها الرسول الكريم - من الأقوال الباطلة التى قالها المشركون فى حقك ، فإن ما قالوه فى شأنك قد قاله السابقون عليهم فى حق رسلهم . فالآية الكريمة من أبلغ الآيات فى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها كانها تقول له ، إن ما أصابك من أذى قد أصاب إخوانك ، فاصبر كما صبروا . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ . أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } ثم علل - سبحانه - هذه التسلية وهذا التوجيه بقوله { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } . أى ما يقال لك إلا مثل ما قيل لإخوانك من قبلك ، وما دام الأمر كذلك . فاصبر كما صبروا ، إن ربك الذى تولاك بتربيته ورعايته ، لذو مغفرة عظيمة لعباده المؤمنين وذو عقاب أليم للكفار المكذبين . ثم رد - سبحانه - على بعض الشبهات التى أثاروها حول القرآن الكريم ردا يخرس ألسنتهم فقال { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَأعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ … } . والأعجمى يطلق على الكلام الذى لا يفهمه العربى ، كما يطلق على من لا يحسن النطق بالعربية . وقوله { ءَأعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } خبر لمبتدأ محذوف . أى ولو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم كما قالوا هلا أنزل هذا القرآن بلغة العجم . لو فعلنا ذلك - كما أرادوا - لقالوا مرة أخرى على سبيل التعجب فلا فصلت ووضحت آيات هذا الكتاب بلغة نفهمها ؟ ثم لأضافوا إلى التعجب والإِنكار ، تعجبا آخر فقالوا أقرآن أعجمى ورسول عربى ؟ ومقصدهم من هذه الشبهة الداحضة ، إنما هو إنكار الإِيمان به سواء أنزل بلغة العرب أم بلغة العجم . فهم عند نزوله عربيا قالوا من بين ما قالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه ، ولو نزل بلسان أعجمى ، لاعترضوا وقالوا هلا نزل بلسان عربى نفهمه . ولو جعلنا بعضه أعجميا وبعضه عربيا لقالوا أقرآن أعجمى ورسول عربى . وهكذا المعاندون الجاحدون لا يقصدون من وراء جدالهم إلا التعنت والسفاهة . ثم أمر الله - تعالى - رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بالرد الذى يكبتهم فقال { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ … } أى قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الجاحدين هذا القرآن هو للذين آمنوا إيمانا حقا هداية إلى الصراط المستقيم ، وشفاء لما فى الصدور من أسقام . كما قال - سبحانه - فى آية أخرى { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ … } ثم بين - سبحانه - موقف الكافرين من هذا الكتاب فقال { وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } أى بهذا الكتاب ، وبمن نزل عليه الكتاب . { فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أى فى آذانهم صمم عن سماع ما ينفعهم . { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أى وهذا القرآن عميت قلوبهم عن تدبره وعن الاهتداء به . وقوله - تعالى - { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ذم شنيع لهم على إعراضهم عن هذا القرآن الذى ما أنزله الله - تعالى - إلا لإِخراجهم من الظلمات إلى النور . أى أولئك الكافرون الذين لم ينتفعوا بالقرآن مثلهم فى صممهم وانطماس بصائرهم ، كمثل من يناديه مناد من مكان بعيد ، فهو لا يسمع منه شيئا ، ولا يعقل عنه شيئا ، لوجود المسافة الشاسعة بين المنادى ، وبين من وقع عليه النداء . قال القرطبى قوله - تعالى - { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يقال ذلك لمن لا يفهم من التمثيل . وحكى أهل اللغة أنه يقال للذى يفهم أنت تسمع من قريب ، ويقال للذى لا يفهم أنت تنادى من بعيد أى كأنه ينادى من موضع بعيد منه ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه . وقال الضحاك { يُنَادَوْنَ } يوم القيامة بأقبح أسمائهم { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } فيكون ذلك لتوبيخهم وفضيحتهم . ومن يتدبر هذه الآية الكريمة يرى مصداقها فى كل زمان ومكان ، فهناك من ينتفع بهذا القرآن قراءة وسماعا وتطبيقا … وهناك من يستمعون إلى هذا القرآن ، فلا يزيدهم إلا صمما ، ورجسا إلى رجسهم وعمى على عماهم . ثم بين - سبحانه - زيادة فى التسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أن اختلاف الأمم فى شأن ما جاء به الرسل شئ قديم فقال - تعالى - { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ … } . أى ولقد آتينا نبينا موسى - عليه السلام - كتابه التوراة ليكون هداية ونورا لقومه ، فاختلفوا فى شأن هذا الكتاب ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من صد عنه . { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } - أيها الرسول الكريم - وهى ألا يعذب المكذبين من أمتك فى الدنيا عذابا يستأصلهم ويهلكهم . لولا ذلك { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أى لأهلكهم كما أهلك السابقين من قبلهم . { وَإِنَّهُمْ } أى كفار قومك { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أى لفى شك من هذا القرآن وريبة من أمره ، جعلهم يعيشون فى قلق واضطراب . ثم بين - سبحانه - سنة من سننه التى لا تتخلف فقال { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا … } أى من عمل عملا صالحا بأن آمن بالله ، وصدق بما جاء به رسله ، فثمرة عمله الصالح لنفسه . { وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } أى ومن عمل عملا سيئا ، فضرر هذا العمل واقع عليها وحدها { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أى وليس ربك - أيها الرسول الكريم - بذى ظلم لعباده الذين خلقهم بقدرته ، ورباهم بنعمته . فقوله { ظلام } صيغة نسب - كثمار وخباز - وليس صيغة مبالغة . قال بعض العلماء ما ملخصه " وفى هذه الآية وأمثالها سؤال معروف ، وهو أن لفظة " ظلام " فيها صيغة مبالغة . ومعلوم أن نفى المبالغة لا يستلزم نفى أصل الفعل . فقولك - مثلا - زيد ليس بقتال للرجال لا ينفى إلا مبالغته فى قتلهم ، فلا ينافى أنه ربما قتل بعض الرجال . ومعلوم أن المراد بنفى المبالغة - وهى لفظ ظلام - فى هذه الآية وأمثالها المراد به نفى الظلم من أصله . وقد أجابوا عن هذا الإِشكال بإجابات منها أن نفى صيغة المبالغة هنا ، قد جاء فى آيات كثيرة ما دل على أن المراد به نفى الظلم من أصله ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } وقوله - تعالى - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً … } ومنها أن المراد بالنفى فى الآية ، نفى نسبة الظلم إليه . لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة ، فتغنى عن ياء النسب … كقولهم " لبان " أى ذو لبن ، ونبال أى صاحب نبل … ثم بين - سبحانه - فى أواخر هذه السورة الكريمة ، أن علم قيام الساعة إليه - تعالى - وحده ، وأن الإِنسان لا يسأم من طلب المزيد من الخير فإذا مسه الشر يئس وقنط . وأن حكمته - تعالى - قد اقتضت أن يقيم للناس الأدلة على قدرته ووحدانيته من أنفسهم وعن طريق هذا الكون الذى يعيشون فيه فقال - تعالى - { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ … } .