Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 52, Ayat: 29-44)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والفاء فى قوله - سبحانه - { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } للإِفصاح . والكاهن هو الإِنسان الذى يزعم أنه يخبر عن الأشياء المغيبة ، والمجنون هو الإِنسان الذى سلب عقله ، فصار لا يعى ما يقول . أى إذا كان الأمر كما ذكرنا لك قبل ذلك - أيها الرسول الكريم - فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أوحينا إليك … فما أنت بسبب إنعام الله عليك بكاهن ولا مجنون كما يزعم أولئك الكافرون . قال الجمل والباء فى قوله { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } للسببية ، وهى متعلقة بالنفى الذى أفادته " ما " أى انتفى كونك كاهنا أو مجنونا ، بسبب إنعام الله عليك بالعقل الراجح ، وعلو الهمة ، وكرم الفعال ، وطهارة الأخلاق ، وهم معترفون بذلك لك قبل النبوة . ثم أخذت السورة الكريمة فى تقريع هؤلاء الجاهلين بأسلوب استنكارى فيه ما فيه من التعجب من جهالاتهم . وفيه ما فيه من الرد الحكيم على أكاذيبهم ، فساقت أقاويلهم بهذا السلوب الذى تكرر فيه لفظ " أم " خمس عشرة مرة ، وكلها إلزامات ليس لهم عنها جواب . وبدأت بقوله - تعالى - { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } ، و " أم " فى هذه الآيات بمعنى بل والهمزة . وقوله { نَّتَرَبَّصُ } من التربص بمعنى الانتظار والترقب . وقوله { رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } يعنون به حوادث الدهر التى تحدث له - صلى الله عليه وسلم - منها الموت . فالمنون الدهر ، وريبه حوادثه التى يصيبه بسببها الهلاك . أى بل أيقولون عنك - أيها الرسول الكريم - إنك شاعر ، وأنهم يترقبون موتك لكى يستريحوا منك . كما استراحوا من الشعراء الذين من قبلك ، كزهير والنابغة … قل لهم على سبيل التبكيت والتهديد تربصوا وترقبوا موتى فإنى معكم من المنتظرين ، وستعلمون أينا خير مقاما وأحسن عاقبة . قال الآلوسى { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } أى الدهر ، وهو فعول من المَنِّ بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمال وغيرها ، ومنه حبل مَنِين أى مقطوع ، والريب مصدر رابه إذا أقلقه ، أريد به حوادث الدهر وصروفه ، لأنها تقلق النفوس ، وعبر عنها بالمصدر مبالغة … وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس ، تفسيره المنون بالموت . روى أن قريشا اجتمعت فى دار الندوة ، وكثرت آراؤهم فيه - صلى الله عليه وسلم - حتى قال قائل منهم تربصوا به ريب المنون ، فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة . ثم وبخهم - سبحانه - على غفلتهم وعنادهم فقال { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } . والأحلام جمع حِلْم - بكسر الحاء - والمراد بها هنا العقول . وكان شيوخ قريش يدعون بذى الأحلام والنهى . ويطلق الحلم فى الأصل على ضبط النفس عن هيجان الغضب . وأطلق هنا على العقل لكونه منشأ له . أى بل أتأمرهم عقولهم التى زعموا سلامتها ، بأن يقولوا فى شأنك - أيها الرسول الكريم - إنك شاعر أم مجنون ؟ لا ، إن أى عقل سليم لم يأمرهم بذلك ، وإنما هم قوم دأبهم الطغيان والعناد وتجاوز الحدود التى لا يجوز تجاوزها . والعقول إذا استعملت فى الشرور والآثام ، ضاع رشدها ، وفقدت سلامتها . ولقد قيل لعمرو بن العاص . رضى الله عنه - ما بال قومك لم يؤمنوا وهم أصحاب الأحلام ؟ فقال تلك عقول كادها الله - تعالى - أى لم يصحبها التوفيق والرشاد . { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } والتقول تكلف القول واختلاقه . وأكثر ما يكون استعمالا فى الكذب ، يقال فلان تقول على فلان ، إذا افترى عليه الكذب . أى بل أيقولون عنك - أيها الرسول - إنك افتريت هذا القرآن ، واختلقته من عند نفسك ، لا إنك معصوم عن ذلك ، وأنت ما نطقت إلا بما أوحيناه إليك ، ولكنهم هم المفترون للكذب عليك ، وما حملهم على ذلك إلا عدم إيمانهم بالحق ، وانغماسهم فى الباطل ، وإصرارهم على الجحود . وإذا كان الأمر - كما زعموا - فها هو ذا القرآن أمامهم يسمعون آياته … فليأتوا بحديث يشابه القرآن فى بلاغته . وهدايته ، وسمو تشريعاته وآدابه . وقد تحداهم - سبحانه - فى آيات أخرى أن يأتوا بعشر سور من مثله فقال { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ثم تحداهم سبحانه - أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فقال { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ولكنهم فى جميع مراحل التحدى ، وقفوا عاجزين مبهوتين ، فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . ثم وبخهم - سبحانه - على عدم تفكرهم فى خلق أنفسهم فقال { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ } . أى بل أَخُلِقُوا على هذه الكيفية البديعة ، والهيئة القويمة ، من غير أن يكون هناك خالق لهم ؟ أم هم الذين خلقوا أنفسهم بدون احتياج لخالق ؟ أم هم الذين قاموا بخلق السموات والأرض ؟ لا ، إن شيئا من ذلك لم يحدث ، فإنهم لم يُخْلَقُوا من غير شىء ، وإنما الذى خلقهم بقدرته - تعالى - هو الله وحده ، كما خلق - سبحانه - السموات والأرض بقدرته - أيضا - وهم يعترفون بذلك ، كما فى قوله - تعالى - { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } وقوله { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } أى هم ليسوا على يقين من أمرهم ، وإنما هم يخبطون خبط عشواء ، فهم مع اعترافهم بأن الله - تعالى - هو الذى خلقهم ، إلا أن هذا الاعتراف صار كالعدم ، لأنهم لم يعملوا بموجبه ، من إخلاص العبادة له - تعالى - والإِيمان بالحق الذى جاءهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند خالقهم . ثم قال - تعالى - { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُونَ } أى بل أعند هؤلاء الغافلين { خَزَآئِنُ رَبِّكَ } أى مفاتيح أرزاقه - تعالى - لعباده ، ومقدراته لهم ، حتى يقسموها عليهم كما شاءوا ، أم هم المصيطرون على أحوال هذا الكون ، المتسلطون على مقدراته ، حتى لكأنهم أربابه المتغلبون عليه ؟ . كلا لا شىء لهم من ذلك إطلاقا ، وإنما هم وغيرهم فقراء إلى رزق الله - تعالى - لهم { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ … } والسلم هو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية . أى بل ألهم سلم يصعدون بواسطته إلى السماء ، ليستمعوا إلى وحينا وأمرنا ونهينا … إن كان أمرهم كذلك { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أى فليأت من استمع منهم إلى شىء من كلامنا أو وحينا بحجة واضحة تدل على صدقه فيما ادعاه . ومما لا شك فيه أنهم لا حجة لهم ، بل هم كاذبون إذا ما ادعوا ذلك ، لأن وحى الله - تعالى - خاص بأناس معينين ، ليسوا منهم قطعا . { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } أى بل أيقولون إن لله - تعالى - البنات ولهم الذكور ، إن قولهم هذا من أكبر الأدلة على جهلهم وسوء أدبهم . لأن الله - تعالى - هو الخالق للنوعين ، وهو - سبحانه - { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } أى بل أتسألهم أجرا على دعوتك إياهم إلى الحق ، فهم بسبب ذلك قد أثقلتهم الديون والمغارم ، فصاروا ينفرون من دعوتك ؟ كلا إنك لم تطلب منهم شيئا من ذلك . والمغرم الدين الذى يكون على الإِنسان ، فيثقل كاهله ، ويحزن نفسه . { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } أى بل أيزعمون أن عندهم علم الغيب فهم يكتبونه للناس ، ويطلعونهم عليه … ؟ . كلا إنهم لا علم لهم بشىء من الغيب ، لأن علم الغيب مرده إلى الله - تعالى - وحده ، كما قال - سبحانه - { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ … } { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } أى بل أيريدون بك - أيها الرسول الكريم - الكيد والأذى والهلاك ، إن كانوا يريدون بك ذلك فاعلم أن الذين كفروا بك وبدعوتك وأرادوا بك وبها الكيد والأذى ، هم المغلوبون الخاسرون الذين يحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله . فقوله { ٱلْمَكِيدُونَ } اسم مفعول من الكيد ، وهو المكر والخبث . . وقد عاد عليهم وبال مكرهم فعالا ، فقد خرج - صلى الله عليه وسلم - من بين جموعهم ليلة الهجرة ، دون أن يروه ، وكانوا محيطين بداره ليقتلوه ، وأحبط الله - تعالى - مكرهم . { أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . أى بل ألهم إله غير الله - تعالى - يرزقهم من فضله ، ويرعاهم بلطفه فى جميع أطوار حياتهم . كلا إنهم لا إله لهم سواه - تعالى - وتنزه - سبحانه - عن شركهم وكفرهم . { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } والكِسْف جمع كِسْفة وهى القطعة من الشىء ، والمركوم المتراكم الذى تجمع بعضه فوق بعض . أى وإذا رأى هؤلاء الجاهلون قطعة عظيمة من العذاب نازلة عليهم لتهديدهم وزجرهم . قالوا هذا النازل علينا سحاب متراكم ، قد اجتمع بعضه فوق بعض ليسقينا ، ولم يصدقوا أنه نذير عذاب شديد لهم . وهذا شأن الطغاة المعاندين ، وقد سبقهم إلى ذلك قوم عاد ، فإنهم حين رأوا العذاب مقبلا نحوهم قالوا { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } فرد الله - تعالى - عليهم بقوله { بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } هذا والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يراها قد حملت على المشركين حملة شديدة ، حيث وبختهم على جهالاتهم ، وتحدتهم بأسلوب تعجيزى أن يأتوا بمثل القرآن الكريم ، وتهكمت بهم وبعقولهم الفارغة التى انقادوا لها بدون تفكر أو تدبر ، وبينت أنهم قوم متناقضون مع أنفسهم ، لأنهم يقرون أن الله - تعالى - هو الخالق لهم ولغيرهم ، ومع ذلك فهم يعبدون غيره . وينسبون البنات إليه دون البنين … وقد ذكر بعض المفسرين أن ما أصابهم من هزيمة يوم بدر ، كان فى السنة الخامسة عشرة من بعثته - صلى الله عليه وسلم - وأن هذه الآيات قد تكرر فيها لفظ " أم " خمس عشرة مرة ، بعدد هذه السنين ، ولذا قالوا إن ذلك فيه إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة . بتوجيه الخطاب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ، على سبيل التسلية والتكريم ، حيث أمره - سبحانه - بالإِعراض عنهم ، لأنه - سبحانه - هو الذى سيتولى حسابهم وعقابهم … فقال - تعالى - { فَذَرْهُمْ … } .