Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 61, Ayat: 10-13)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهذه الآيات الكريمة جواب عما قاله بعض المؤمنين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملناها ، كما سبق . أن ذكرنا فى سبب قوله - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } فكأنه - سبحانه - بعد أن نهاهم عن أن يقولوا قولا ، تخالفه أفعالهم ، وضرب لهم الأمثال بجانب من قصة موسى وعيسى - عليهما السلام - وبشرهم بظهور دينهم على سائر الأديان . بعد كل ذلك أرشدهم إلى أحب الأعمال إليه - سبحانه - فقال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ } . والتجارة فى الأصل معناها التصرف فى رأس المال ، وتقليبه فى وجوه المعاملات المختلفة ، طلبا للربح . والمراد بها هنا العقيدة السليمة ، والأعمال الصالحة ، التى فسرت بها بعد ذلك فى قوله - تعالى - { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } . والاستفهام فى قوله - تعالى - { هَلْ أَدُلُّكمْ } للتشويق والتحضيض إلى الأمر المدلول عليه . والمعنى يا من آمنتم بالله - تعالى - وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ألا تريدون أن أدلكم على تجارة رابحة ، تنجيكم مزاولتها ومباشرتها ، من عذاب شديد الألم ؟ إن كنتم تريدون ذلك ، فهاكم الطريق إليها ، وهى { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } . فقوله - سبحانه - { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } استئناف مفسر وموضح لقوله { هَلْ أَدُلُّكمْ } ؟ فكأن سائلا قال وما هذه التجارة ؟ دلنا عليها ، فكان الجواب تؤمنون بالله ورسوله . أى تداومون تامة على الإِيمان بالله - تعالى - وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وتجاهدون فى سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه بأموالكم وأنفسكم . قالوا وقوله { تُؤْمِنُونَ } خبر فى معنى الأمر ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود آمنوا بالله رسوله ، وجاهدوا فى سبيله . وفائدة العدول إلى الخبر الإِشعار بأنهم قد امتثلوا لما أرشدوا إليه ، فكأنه - سبحانه - يخبر عن هذا الامتثال الموجود عندهم . وجاء التعبير بقوله { هَلْ أَدُلُّكمْ } لإِفادة أن ما يذكر بعد ذلك من الأشياء التى تحتاج إلى من يهدى إليها ، لأنها أمور مرد تحديدها إلى الله - تعالى - . وتنكير لفظ التجارة ، للتهويل والتعظيم ، أى هل أدلكم على تجارة عظيمة الشأن … ؟ وأطلقت التجارة هنا على الإِيمان والعمل الصالح ، لأنهما يتلاقيان ويتشابهان فى أن كليهما المقصود من ورائه الربح العظيم ، والسعى من أجل الحصول على المنافع . وقدم - سبحانه - هنا الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس ، لأن المقام مقام تفسير وتوضيح لمعنى التجارة الرابحة عن طريق الجهاد فى سبيل الله ، ومن المعلوم أن التجارة تقوم على تبادل الأموال ، وهذه الأموال هى عصب الجهاد ، فعن طريقها تشترى الأسلحة والمعدات التى لا غنى للمجاهدين عنها ، وفى الحديث الشريف " من جهز غازيا فقد غزا " . وقدم - سبحانه - فى قوله { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ … } قدم الأنفس على الأموال ، لأن الحديث هناك ، كان فى معرض الاستبدال والعرض والطلب ، والأخذ والعطاء … فقدم - سبحانه - الأنفس لأنها أعز ما يملكه الإِنسان ، وجعل فى مقابلها الجنة لأنها أعز ما يوهب ، وأسمى ما تتطلع إلى نيله النفوس . واسم الإِشارة فى قوله { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعود إلى ما سبق ذكره من الإِيمان والجهاد . أى ذلكم الذى أرشدناكم إلى التمسك به من الإِيمان والجهاد فى سبيل الله ، هو خير لكم من كل شىء إن كنتم من أهل العلم والفهم . فقوله { تَعْلَمُونَ } منزل منزلة الفعل اللازم ، للإِشعار بأن من يخالف ذلك لا يكون لا من أهل العلم ، ولا من أهل الإِدراك . وجعله بعضهم فعلا متعديا ، ومفعوله محذوف ، والتقدير إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فافعلوه ، ولا تتقاعسوا عن ذلك . وقوله - سبحانه - { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } مجزوم على أنه جواب لشرط مقدر ، أى إن تمتثلوا أمره - تعالى - يغفر لكم ذنوبكم . ويصح أن يكون مجزوما على أنه جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر فى قوله - تعالى - قبل ذلك { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ } . لأنهما - كما قلنا - وإن جاءا بلفظ الخبر ، إلا أنهما فى معنى الأمر ، أى آمنوا وجاهدوا . أى آمنوا بالله - تعالى - إيمانا حقا ، وجاهدوا فى سبيل إعلاء كلمته بأموالكم وأنفسكم ، يغفر لكم - سبحانه - ذنوبكم ، بأن يزيلها عنكم ، ويسترها عليكم . { وَيُدْخِلْكُمْ } فضلا عن ذلك { جَنَّاتٍ } عاليات { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أى تجرى من تحت مساكنها وبساتينها الأنهار . ويعطيكم { مَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أى قصورا مشتملة على كل ما هو طيب ونافع . وخصت المساكن الطيبة بالذكر ، لأن المجاهدين قد فارقوا مساكنهم ، ومنهم من استشهد بعيدا عنها ، وفيها أهله وماله … فوعدهم - سبحانه - بما هو خير منها . وقوله { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أى هذه المساكن الطيبة كائنة فى جنات باقية خالدة ، لا تزول ولا تنتهى ، بل أصحابها يقيمون فيها إقامة دائمة ، يقال عدن فلان بالمكان ، إذا أقام فيه إقامة مؤبدة . { ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أى ذلك الذى منحناكم إياه من مغفرة لذنوبكم ، ومن خلودكم فى الجنة … هو الفوز العظيم الذى لا يقاربه فوز ، ولا يدانيه ظفر . وقوله - سبحانه - { وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا } بيان لنعمة أخرى يعطيهم - سبحانه - إياها ، سوى ما تقدم من نعم عظمى . ولفظ " أخرى " مبتدأ خبره دل عليه ما تقدم ، وقوله { تُحِبُّونَهَا } صفة للمبتدأ . أى ولكم - فضلا عن كل ما تقدم - نعمة أخرى تحبونها وتتطلعون إليها . وهذه النعمة هى { نَصْرٌ } عظيم كائن { مِّن ٱللَّهِ } - تعالى - لكم { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أى عاجل { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أى وبشر - أيها الرسول الكريم - المؤمنين بذلك ، حتى يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، وحتى تزداد قلوبهم انشراحا وسرورا . ويدخل فى هذا النصر والفتح القريب دخولا أوليا فتح مكة ، ودخول الناس فى دين الله أفواجا . وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن الكريم ، الراجعة إلى الإِخبار بالغيب ، حيث أخبر - سبحانه - بالنصر والفتح ، فتم ذلك للنبى - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه ، فى أكمل صورة ، وأقرب زمن . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بنداء ثالث وجهه إلى المؤمنين ، دعاهم فيه إلى التشبه بالصالحين الصادقين من عباده فقال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .