Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 67, Ayat: 12-18)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله { يَخْشَوْنَ } من الخشية ، وهى أشد الخوف وأعظمه ، والغيب مصدر غاب يغيب ، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل . أى إن الذين يخشون ربهم فيخافون عذابه ، ويعبدونه كأنهم يرونه ، مع أنهم لا يرونه بأعينهم … هؤلاء الذين تلك صفاتهم ، لهم من خالقهم - عز وجل - مغفرة عظيمة ، وأجر بالغ الغاية فى الكبر والضخامة . وقوله { بِٱلْغَيْبِ } حال من الفاعل ، أى غائبا عنهم ، أو من المفعول . أى غائبين عنه . أى . يخشون عذابه دون أن يروه - سبحانه - . ويجوز أن يكون المعنى يخشون عذابه حال كونهم غائبين عن أعين الناس ، فهم يراقبونه - سبحانه - فى السر ، كما يراقبونه فى العلانية كما قال الشاعر @ يتجنب الهفوات فى خلواته عف السريرة ، غَيبُه كالمشهد @@ والحق أن هذه الصفة ، وهى خوف الله - تعالى - بالغيب ، على رأس الصفات التى تدل على قوة الإِيمان ، وعلى طهارة القلب ، وصفاء النفس … ثم بين - سبحانه - بأبلغ أسلوب ، أن السر يتساوى مع العلانية بالنسبة لعلمه - تعالى - فقال { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ … } . وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية ، أن المشركين كانوا ينالون من النبى صلى الله عليه وسلم فلما أطلعه الله - تعالى - على أمرهم ، فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كى لا يسمعه رب محمد … وصيغة الأمر فى قوله { وَأَسِرُّواْ } و { ٱجْهَرُواْ } مستعملة فى التسوية بين الأمرين ، كما فى قوله - تعالى - { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ … } أى إن إسراركم - أيها الكافرون - بالإِساءة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - أو جهركم بهذه الإِساءة ، يستويان فى علمنا ، لأننا لا يخفى علينا شئ من أحوالكم ، فسواء عندنا من أسر منكم القول ومن جهر به . وجملة { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } تعليق للتسوية المستفادة من صيغة الأمر أى سواء فى علمه - تعالى - إسراركم وجهركم ، لأنه - سبحانه - عليم علما تاما بما يختلج فى صدوركم ، وما يدور فى نياتكم التى هى بداخل قلوبكم . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } ثم أكد - سبحانه - شمول علمه لكل شئ بقوله { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } . واللطيف من اللطف ، وهو العالم بخبايا الأمور ، والمدبر لها برفق وحكمة ويسر … والخبير من الخُبْر ، وهو العلم بجزئيات الأشياء الخفية ، التى من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها ، لأنها كانت خافية عليهم . ولفظ { من } فى قوله { مَنْ خَلَقَ } يصح أن يكون مفعولا لقوله { يَعْلَمُ } ، والعائد محذوف أى ألا يعلم الله - تعالى - شأن الذين خلقهم ، والحال أنه - سبحانه - هو الذى لطف علمه ودق ، إذ هو المدبر لأمور خلقه برفق وحكمة ، العليم علما تاما بأسرار النفوس وخبايا ما توسوس به . . ويجوز أن يكون { من } فاعلا لقوله { يعلم } على أن المقصود به ذاته - تعالى - ويكون مفعول يعلم محذوفا للعلم به ، والمعنى ألا يعلم السر ومضمرات القلوب الله الذى خلق كل شئ وأوجده - وهو - سبحانه - الموصوف بأنه لطيف خبير . والاستفهام على الوجهين لإِنكار ما زعمه المشركون من انتفاء علمه - تعالى - بما يسرونه فيما بينهم ، حيث قال بعضهم لبعض أسروا قولكم كى لا يسمعه رب محمد . ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } . والذلول السهلة المذللة المسخرة لما يراد منها من مَشْى عليها ، أو غَرْس فيها ، أو بناء فوقها … من الذِّل وهو سهولة الانقياد للغير ، ومنه قوله - تعالى - { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ … } أى غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض … والأمر فى قوله { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا } للإِباحة ، والمناكب جمع منكب وهو ملتقى الكتف مع العضد والمراد به هنا جوانبها أو طرقها وفجاجها أو أطرافها … وهو مثل لفرط التذليل ، وشدة التسخير … أى هو - سبحانه - الذى جعل لكم - بفضله ورحمته - الأرض المتسعة الأرجاء ، مذللة مسخرة لكم ، لتتمكنوا من الانتفاع بها عن طريق المشى عليها ، أو البناء فوقها . أو غرس النبات فيها … وما دام الأمر كذلك فامشوا فى جوانبها وأطرافها وفجاجها … ملتمسين رزق ربكم فيها وداوموا على ذلك ، ففى الحديث الشريف " التمسوا الرزق فى خبايا الأرض " . والمراد بقوله { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } الانتفاع بما فيها من وجوه النعم ، وعبر عنه بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع . فالآية الكريمة دعوة حارة للمسلمين لكى ينتفعوا بما فى الأرض من كنوز ، حتى يستغنوا عن غيرهم فى مطعمهم ومشربهم وملبسهم وسائر أمور معاشهم … فإنه بقدر تقصيرهم فى استخراج كنوزها ، تكون حاجتهم لغيرهم . قال بعض العلماء قال الإِمام النووى فى مقدمة المجموع إن على الأمة الإِسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجاتها حتى الإِبرة ، لتستغنى عن غيرها ، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت فى الإِنتاج … وقد أعطى الله - تعالى - العالم الإِسلامى الأولوية فى هذا كله . فعليهم أن يحتلوا مكانهم ، ويحافظوا على مكانتهم ، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا … وقد أفاض بعض العلماء فى بيان معنى قوله - تعالى - { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً … } فقال ما ملخصه والناس لطول إلفهم لحياتهم على هذه الأرض وسهولة استقرارهم عليها . . ينسون نعمة الله فى تذليلها لهم وتسخيرها ، والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة ، ويبصرهم بها ، فى هذا التعبير الذى يدرك منه كل أحد ، وكل جيل ، ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول … والله - تعالى - جعل الأرض ذلولا للبشر من حيث جاذبيتها … ومن حيث سطحها … ومن حيث تكوينها ، ومن حيث إحاطة الهواء بها … ومن حيث حجمها … وقوله { وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } معطوف على ما قبله ، لبيان أن مصيرهم إليه - تعالى - بعد قضائهم فى الأرض المذللة لهم ، مدة حياتهم … أى وإليه وحده مرجعكم ، وبعثكم من قبوركم ، بعد أن قضيتم على هذه الأرض ، الأجل الذى قدره - سبحانه - لكم . ثم حذر - سبحانه - من بطشه وعقابه فقال { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } … والخسف انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض فصير باطنا ، والباطن ظاهرا … والمَوْر شدة الاضطراب والتحرك . يقال مار الشئ مَوْرا ، إذا ارتج واضطرب ، والمراد بمن فى السماء الله - عز وجل - بدون تحيز أو تشبيه أو حلول فى مكان . قال الإمام الآلوسى قوله { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ } وهو الله - عز وجل - كما ذهب إليه غير واحد ، فقيل على تأويل من فى السماء أمره وقضاؤه ، يعنى أنه من التجوز فى الإِسناد ، أو أن فيه مضافا مقدرا ، وأصله من فى السماء أمره ، فلما حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر ، وقيل على تقدير خالق من فى السماء … وقيل فى بمعنى على ، ويراد العلو بالقهر والقدرة … وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره - والآية عندهم من المتشابه وقد قال صلى الله عليه وسلم آمنوا بمتشابهه ولم يقل أولوه . فهم مؤمنون بأنه - عز وجل - فى السماء على المعنى الذى أراده - سبحانه - مع كمال التنزيه . وحديث الجارية - التى قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم أين الله ؟ فأشارت إلى السماء - من أقوى الأدلة فى هذا الباب . وتأويله بما أول به الخلف ، خروج عن دائرة الإِنصاف عند ذوى الألباب … والمعنى أأمنتم - أيها الناس - من فى السماء وهو الله - عز وجل - أن يذهب الأرض بكم ، فيجعل أعلاها أسفلها … فإذا هى تمور بكم وتضطرب ، وترتج ارتجاجا شديدا تزول معه حياتكم . فالمقصود بالآية الكريمة تهديد الذين يخالفون أمره ، بهذا العذاب الشديد ، وتحذيرهم من نسيان بطشه وعقابه . والباء فى قوله { بِكُم } للمصاحبة . أى يخسفها وأنتم مصاحبون لها بذواتكم ، بعد أن كانت مذللة ومسخرة لمنفعتكم … ثم انتقل - سبحانه - من تهديدهم بالخسف إلى تهديدهم بعذاب آخر فقال { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } . أى بل أأمنتم - أيها الناس - من السماء ، وهو الله - عز وجل - بسلطانه وقدرته . . أن يرسل عليكم { حَاصِباً } أى ريحا شديدة مصحوبة بالحصى والحجارة التى تهلك ، فحينئذ ستعلمون عند معاينتكم للعذاب ، كيف كان إنذارى لكم متحققا وواقعا وحقا … فالاستفهام فى الآيتين المقصود به التعجيب من أمنهم عذاب الله - تعالى - عند مخالفتهم لأمره ، وخروجهم عن طاعته . وقدم - سبحانه - التهديد بالخسف على التهديد بإرسال الحصب ، لأن الخسف من أحوال الأرض ، التى سبق أن بين لهم أنه خلقها مذللة لهم ، وفيها ما فيها من منافعهم ، فهذه المنافع ليس عسيرا على الله - تعالى - أن يحولها إلى عذاب لهم … ثم ذكرهم - سبحانه - بما جرى للكافرين السابقين فقال { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } … أى ووالله لقد كذب الذين من قبل كفار مكة من الأمم السابقة ، كقوم نوح وعاد وثمود … فكان إنكارى عليهم ، وعقابى لهم ، شديدا ومبيرا ومدمرا لهم تدميرا تاما . فالنكير بمعنى الإِنكار ، والاستفهام فى قوله { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } للتهويل . أى إن إنكارى عليهم كفرهم كان إنكارا عظيما ، لأنه ترتب عليه ، أن أخذتهم أخذ عزيز مقتدر . كما قال - تعالى - { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ثم تنتقل السورة بعد هذا التهديد والإِنذار ، إلى دعوتهم إلى التأمل والتفكر ، فى مشهد الطير صافات فى الجو … وفى أحوال أنفسهم عند اليأس والفقر ، وعند الهزيمة والإِعراض عن الحق … فيقول - سبحانه - { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ … } .