Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 67, Ayat: 19-22)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال بعض العلماء قوله { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ … } عطف على جملة { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً … } استرسالا فى الدلائل على انفراد الله - تعالى - بالتصرف فى الموجودات ، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم ، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات ، وهى أحوال الطير فى نظام حركاتها فى حال طيرانها ، إذ لا تمشى على الأرض كما هو فى حركات غيرها على الأرض ، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفرد به … والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَوَلَمْ يَرَوْا … } للتعجيب من حال المشركين ، لعدم تفكرهم فيما يدعو إلى التفكر والاعتبار … والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والطير جمع طائر كصحب وصاحب … والمعنى أغفل هؤلاء المشركون ، وانطمست أعينهم عن رؤية الطير فوقهم ، وهن { صَافَّاتٍ } أى باسطات أجنحتهن فى الهواء عند الطيران فى الجو ، { وَيَقْبِضْنَ } أى ويضممن أجنحتهن تارة على سبيل الاستظهار بها على شدة التحرك فى الهواء … { مَا يُمْسِكُهُنَّ } فى حالتى البسط والقبض { إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } الذى وسعت رحمته وقدرته كل شئ ، والذى أحسن كل شئ خلقه … { إِنَّهُ } - سبحانه - { بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } أى إنه - سبحانه - مطلع على أحوال كل شئ ، ومدبر لأمره على أحسن الوجوه وأحكمها … قال صاحب الكشاف { صَافَّاتٍ } باسطات أجنحتهن فى الجو عند طيرانها ، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا { وَيَقْبِضْنَ } أى ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن . فإن قلت لم قيل { وَيَقْبِضْنَ } ولم يقل وقابضات ؟ قلت لأن الأصل فى الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران فى الهواء كالسباحة فى الماء ، والأصل فى السباحة مد الأطراف وبسطها . وأما القبض فطارئ على البسط . للاستظهار به على التحرك ، فجئ بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل ، على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح … والمراد بإمساكهن عدم سقوطهن إلى الأرض بقدرته وحكمته - تعالى - حيث أودع فيها من الخصائص ما جعلها تطير فى الجو ، كالسابح فى الماء . وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ … } ثم لفت أنظارهم للمرة الثانية إلى قوة بأسه ، ونفاذ إرادته ، وعدم وجود من يأخذ بيدهم إذا ما أنزل بهم عقابه فقال { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } . والاستفهام للتحدى والتعجيز ، و { أم } منقطعة بمعنى بل ، فهى للإِِضراب الانتقالى من غرض إلى آخر ، ومن حجة إلى أخرى . و { من } اسم استفهام مبتدأ ، وخبره اسم الإِشارة ، وما بعده صفته . والمراد بالجند الجنود الذين يهرعون لنصرة من يحتاج إلى نصرتهم . ولفظ { دُونِ } أصله ظرف للمكان الأسفل … ويطلق على الشئ المغاير ، فيكون بمعنى غير كما هنا ، والمقصود بالآية تحقير شأن هؤلاء الجند ، والتهوين من شأنهم . والمعنى بل أخبرونى - أيها المشركون - بعد أن ثبتت غفلتكم وعدم تفكيركم تفكيرا ينفعكم ، مَن هذا الحقير الذى تستعينون به فى نصركم ودفع الضر عنكم ، متجاوزين فى ذلك إرادة الرحمن ومشيئته ونصره . أو من هذا الذى ينصركم نصرا كائنا غير نصر الرحمن ، أو من ينصركم من عذاب كائن من عنده - تعالى - . والجواب الذى لا تستطيعون جوابا سواه هو أنه لا ناصر لكم يستطيع أن ينصركم من دون الله - تعالى - ، كما قال - سبحانه - { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ … } وكما قال - عز وجل - { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } وقوله - سبحانه - { إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } كلام معترض بين ما قبله وما بعده ، لبيان حالهم القبيح وواقعهم المنكر . والغرور صفة فى النفس تجعلها تعرض عن الحق جحودا وعنادا وجهلا . أى ليس الكافرون إلا فى غرور عظيم ، وفى جهل تام ، عن تدبر الحق ، لأنهم زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ، فرأوها حسنة . ثم انتقل - سبحانه - إلى إلزامهم بنوع آخر من الحجج فقال { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } … أى بل أخبرونى من هذا الذى يزعم أنه يستطيع أن يوصل إليكم الرزق والخير ، إذا أمسك الله - تعالى - عنكم ذلك ، أو منع عنكم الأسباب التى تؤدى إلى نفعكم وإلى قوام حياتكم ، كمنع نزول المطر إليكم ، وكإهلاك الزروع والثمار التى تنبتها الأرض … إنه لا أحد يستطيع أن يرزقكم سوى الله - تعالى - . وقوله { بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } جملة مستأنفة جواب لسؤال تقديره فهل انتفع المشركون بتلك المواعظ فكان الجواب كلا إنهم لم ينتفعوا ، بل { لجوا } أى تمادوا فى اللجاج والجدال بالباطل و { فِي عُتُوٍّ } أى وفى استكبار وطغيان ، وفى { وَنُفُورٍ } أى شرود وتباعد عن الطريق المستقيم . أى أنهم ساروا فى طريق أهوائهم حتى النهاية ، دون أن يستمعوا إلى صوت نذير أو واعظ أو مرشد . ثم ضرب - سبحانه - مثلا لأهل الإِيمان وأهل الكفر ، وأهل الحق وأهل الباطل ، فقال - سبحانه - { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . والمُكِب هو الإِنسان الساقط على وجهه ، يقال كبَّ فلان فلانا وأكبه ، إذا صرعه وقلبه بأن جعل وجهه على الأرض … فهو اسم فاعل من أكب . وقوله { أَهْدَىٰ } مشتق من الهدى ، وهو معرفة طريق الحق والسير فيها ، والمفاضلة هنا ليست مقصودة ، لأن الذى يمشى مكبا على وجهه ، لا شئ عنده من الهداية أو الرشد إطلاقا حتى يفاضل مع غيره ، وفيه لون من التهكم بهذا المكب على وجهه . و " السوى " هو الإِنسان الشديد الاستواء والاستقامة ، فهو فعيل بمعنى فاعل . ومنه قوله - تعالى - حكاية عما قاله إبراهيم - عليه السلام - لأبيه - { يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } أى مستويا . قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ … } هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه ، كمثل من يمشى مكبا على وجهه ، أى يمشى منحنيا لا مستويا على وجهه ، أى لا يدرى أين يسلك ، ولا كيف يذهب ، بل هو تائه حائر ضال ، أهذا أهدى { أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً } أى منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أى على طريق واضح بين ، وهو فى نفسه وهو فى نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة . هذا مثلهم فى الدنيا ، وكذلك يكونون فى الآخرة ، فالمؤمن يحشر يمشى سويا على صراط مستقيم … وأما الكافر فإنه يحشر يمشى على وجهه إلى النار … وروى الإِمام أحمد عن أنس قال " قيل يا رسول الله ، كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ فقال " أليس الذى أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم " وقال الجمل هذا مثل للمؤمن والكافر ، حيث شبه - سبحانه - المؤمن فى تمسكه بالدين الحق ، ومشيه على منهاجه ، بمن يمشى فى الطريق المعتدل ، الذى ليس فيه ما يتعثر به … وشبه الكافر فى ركوبه ومشيه على الدين الباطل ، بمن يمشى فى الطريق الذى فيه حفر وارتفاع وانخفاض ، فيتعثر ويسقط على وجهه ، وكلما تخلص من عثرة وقع فى أخرى . فالمذكور فى الآية هو المشبه به ، والمشبه محذوف ، لدلالة السياق عليه … وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد لفتت أنظار الناس إلى التفكر والاعتبار ، ووبخت المشركين على جهالاتهم وطغيانهم ، وساقت مثالا واضحا للمؤمن والكافر ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة . ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم فى بضع آيات أن يذكر الكافرين بنعم الله - تعالى - عليهم ، وأن يرد على شبهاتهم وأكاذيبهم بما يدحضها ، وأن يكل أمره وأمرهم إليه وحده - تعالى - فقال { قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ … } .