Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 69, Ayat: 13-24)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الفاء فى قوله - تعالى - { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ … } للتفريع ، أى لتفريع ما بعدها على ما قبلها ، وهو الحديث عن أهوال يوم القيامة . والصور هو البوق الذى ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله - تعالى - . قال الآلوسى قوله { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } شروع فى بيان نفس الحاقة ، وكيفية وقوعها ، إثر بيان عظم شأنها ، بإهلاك مكذبيها . والمراد بالنفخة الواحدة النفخة الأولى ، التى عندها يكون خراب العالم . وقيل هى النفخة الثانية . والأول أولى ، لأنه هو المناسب لما بعده . وجواب الشرط قوله { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } . أو قوله { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } . أى فإذا نفخ إسرافيل فى الصور بأمرنا . وقعت الواقعة التى لا مفر من وقوعها ، لكى يحاسب الناس على أعمالهم . ووصفت النفخة بأنها واحدة ، للتأكيد على أنها نفخة واحدة وليست أكثر ، وللتبيه على أن هذه النفخة - مع أنها واحدة - تتأثر بها السموات والأرض والجبال ، وهذا دليل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته . وقوله - سبحانه - { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } بيان لما ترتب على تلك النفخة الهائلة من آثار . والمراد بحمل الأرض والجبال إزالتهما من أماكنهما ، وتفريق أجزائهما . والدك هو الدق الشديد الذى يترتب عليه التكسير والتفتيت للشئ . أى عندما ينفخ إسرافيل فى الصور بأمرنا نفخة واحدة ، وعندما تزال الأرض والجبال عن أماكنهما ، وتتفتت أجزاؤهما تفتتا شديدا . فيومئذ { وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } أى ففى هذا الوقت تقع الواقعة التى لا مرد لوقوعها ، والواقعة من أسماء يوم القيامة . كالحاقة ، والقارعة . ثم بين - سبحانه - ما تكون عليه السماء فى هذا اليوم فقال { وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } . والانشقاق الانفطار والتصدع . ومعنى { وَاهِيَةٌ } ضعيفة متراخية . يقال وهَى البناء يَهِى وَهْياً واهٍ ، إذا كان ضعيفا جدا ، ومتوقعا سقوطه . أى وفى هذا الوقت - أيضا - الذى يتم فيه النفخ فى الصور بأمرنا تتصدع السماء وتتفطر ، وتصير فى أشد درجات الضعف والاسترخاء والتفرق . وقيد - سبحانه - هذا الضعف بهذا الوقت ، للإِشارة إلى أنه ضعف طارئ ، قد حدث بسبب النفخ فى الصور ، أما قبل ذلك فكانت فى نهاية الإِحكام والقوة . وهذا كله للتهويل من شأن هذه النفخة ، ومن شأن المقدمات التى تتقدم قيام الساعة ، حتى يستعد الناس لها بالإِيمان والعمل الصالح . والمراد بالملك فى قوله - تعالى - { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } جنس الملك ، فيشمل عدد مبهم من الملائكة … أو جميع الملائكة إذا أردنا بأل معنى الاستغراق . والأرجاء الأطراف والجوانب ، جمع رَجَا بالقصر ، وألفه منقلبة عن واو ، مثل قفا وقفوان . أى والملائكة فى ذلك الوقت يكونون على أرجاء السماء وجوانبها ، ينفذون أمر الله - تعالى - { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أى والملائكة واقفون على أطراف السماء ، ونواحيها . ويحمل عرش ربك فوق هؤلاء الملائكة فى هذا اليوم ، ثمانية منهم ، أو ثمانية من صفوفهم التى لا يعلم عددها إلا الله - تعالى - . وعرش الله - تعالى - مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، فنحن نؤمن بأن الله - عز وجل - عرشا ، إلا أننا نفوض معرفة هيئته وكنهه … إلى الله - تعالى - . قال الألوسى ما ملخصه قوله { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } أى والجنس المتعارف بالملك ، وهم الملائكة … على جوانب السماء التى لا تتشقق … { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ } أى فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء المدلول عليهم بالملك ، وقيل فوق العالم كلهم . { يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أى من الملائكة ، أو ثمانية صفوف لا يعلم عدتهم إلا الله - تعالى - . هذا ، وقد وردت فى صفة هؤلاء الملائكة الثمانية ، أحاديث ضعيفة لذا ضربنا صفحا عن ذكرها . ثم بين - سبحانه - ما يجرى على الناس فى هذا اليوم فقال { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } . والعرض أصله إظهار الشئ لمن يريد التأمل فيه ، أو الحصول عليه ، ومنه عرض البائع سلعته على المشترى . وهو هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة . أى فى هذا اليوم تعرضون للحساب والجزاء ، لا تخفى منكم خافية ، أى تعرضون للحساب ، دون أن يخفى منكم أحد على الله - تعالى - أو دون أن تخفى منكم نفس واحدة على خالقها - عز وجل - . قال الجمل وقوله { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } أى تسألون وتحاسبون ، وعبر عنه بذلك تشبيها له بعرض السلطان العسكر والجند ، لينظر فى أمرهم فيختار منهم المصلح للتقريب والإِكرام ، والمفسد للإِبعاد والتعذيب . والفاء فى قوله - تعالى - { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ … } لتفصيل ما يترتب على العرض والحساب من جزاء . والمراد بكتابه ما سجلته الملائكة عليه من أعمال فى الدنيا ، والمراد بيمينه يده اليمنى ، لأن من يعطى كتابه بيده اليمنى ، يكون هذا الإِعطاء دليلا على فوزه ونجاته من العذاب . والعرب يذكرون التناول باليمين ، على أنه كناية عن الاهتمام بالشئ المأخوذ ، وعن الاعتزاز به ، ومنه قول الشاعر @ إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين @@ وجملة { فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } جواب " أما " - ولفظ " هاؤم " هنا اسم فعل أمر . بمعنى خذوا ، والهاء فى قوله " كتابيه وحسابيهْ " وما ماثلهما للسكت ، والأصل كتابى وحسابى فأدخلت عليهما هاء السكت لكى تظهر فتحة الياء . والمعنى فى هذا اليوم يعرض كل إنسان للحساب والجزاء ، ويؤتى كل فرد كتاب أعماله ، فأما من أعطى كتاب أعماله بيمينه ، على سبيل التبشير والتكريم ، { فَيَقُولُ } على سبيل البهجة والسرور لكل من يهمه أن يقول له { هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } أى هذا هو كتابى فخذوه واقرءوه فإنكم ستجدونه مشتملا على الإِكرام لى ، وتبشيرى بالفوز الذى هو نهاية آمالى ، ومحط رجائى . { إِنِّي ظَنَنتُ } أى تيقنت وعلمت { أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } أى إنى علمت أن يوم القيامة حق ، وتيقنت أن الحساب والجزاء صدق ، فأعددت للأمر عدته عن طريق الإِيمان الكامل ، والعمل الصالح . قال الضحاك كل ظن فى القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك . وهذه الجملة الكريمة بمنزلة التعليل للبهجة والمسرة التى دل عليها قوله - تعالى - { هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } . { فَهُوَ } أى هذا المؤمن الفائز برضا الله - تعالى - { فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أى فى حياة ذات رضا ، أى ثابت ودائم لها الرضا . فهى صيغة نسب ، كلابن وتامر لصاحب اللبن والتمر . أو فهو فى عيشة مرضية يرضى بها صاحبها ولا يبغضها ، فهى فاعل بمعنى مفعول ، على حد قولهم ماء دافق بمعنى مدفوق . وفى هذا التعبير ما فيه من الدلالة على أن هذه الحياة التى يحياها المؤمن فى الجنة ، فى أسمى درجات الحبور والسرور ، حتى لكأنه لو كان للمعيشة عقل ، لرضيت لنفسها بحالتها ، ولفرحت بها فرحا عظيما . { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أى هذا الذى أوتى كتابه بيمينه ، يكون - أيضا - فى جنة مرتفعة على غيرها ، وهذا لون من مزاياها . { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } أى ثمارها قريبة التناول لهذا المؤمن ، يقطفها كلما أرادها بدون تعب . فالقطوف جمع قِطْف بمعنى مقطوف ، وهو ما يجتنيه الجانى من الثمار ، و { دَانِيَةٌ } اسم فاعل ، من الدنو بمعنى القرب . وجملة { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } مقول لقول محذوف . أى يقال لهؤلاء المؤمنين الصادقين ، الذين أعطوا كتابهم بأيمانهم كلوا أكلا طيبا ، واشربوا هنيئا مريئا بسبب ما قدمتموه فى دنياكم من إيمان بالله - تعالى - ومن عمل صالح خالص لوجهه - تعالى - . قال الإِمام ابن كثير أى يقال لهم ذلك ، تفضلا عليهم ، وامتنانا وإنعاما وإحسانا ، وإلا فقد ثبت فى الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " اعملوا وسددوا وقاربوا ، واعلموا أن أحدا منكم لن يدخله عمله الجنة . قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا ، إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل " . وكعادة القرآن الكريم ، فى بيان سوء عاقبة الأشرار ، بعد بيان حسن عاقبة الأخيار ، أو العكس ، جاء الحديث عمن أوتى كتابه بشماله ، بعد الحديث عمن أوتى كتابه بيمينه ، فقال - تعالى - { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ … } .