Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 77, Ayat: 16-40)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الاستفهام فى قوله { أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ } وفى الآيات المماثلة له بعد ذلك ، للتقرير ، والمقصود به استخراج الاعتراف والإِقرار من مشركى قريش على صحة البعث ، لأن من قدر على الإِهلاك ، قارد على الإِعادة . أى لقد أهلكنا الأقوام الأولين الذين كذبوا رسلهم ، كقوم نوح وعاد وثمود . { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ } أى أهلكنا الأولين ، ثم نتبعهم بإهلاك المتأخرين عنهم ، والذين يشبهون سابقيهم فى الكفر والجحود . و " ثم " هنا للتراخى الرتبى ، لأن إهلاك الآخرين الذين لم يعتبروا بمن سبقهم سيكون أشد من إهلاك غيرهم ، وفى ذلك تهديد شديد ووعيد واضح لمشركى مكة . وقوله { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ } أى مثل ذلك الفعل الشنيع ، والعقاب الأليم ، نفعل بالمجرمين الذين أصروا على كفرهم وعنادهم حتى أدركهم الموت . فالكاف بمعنى مثل ، والإِشارة فى قوله { كَذَلِكَ } تعود إلى الفعل المأخوذ من قوله { نفعل } أى مثل ذلك الفعل نفعل بالمجرمين . ثم كرر - سبحانه - التهديد والوعيد لهم ، لعلهم يرتدعون أو يتعظون فقال { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } . ثم قال - سبحانه - ممتنا على خلقه بإيجادهم فى هذه الحياة ، ومحتجا على إمكان الإِعادة بخلقهم ولم يكونوا شيئا مذكورا ، فقال { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } . أى لقد خلقناكم - أيها الناس - من نطفة حقيرة ضعيفة ، من مَهُن الشئ - بفتح الميم وضم الهاء - إذا ضعف ، وميمه أصلية ، وليس هو من مادة هان ، و " من " ابتدائية . وقوله { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } تفصيل لكيفية الخلق على سبيل الإِدماج ، والقرار اسم للمكان الذى يستقر فيه الماء ، والمراد به رحم المرأة . والمكين صفة له . أى خلقناكم من ماء ضعيف ، ومن مظاهر قدرتنا وحكمتنا ولطفنا بكم أننا جعلنا هذا الماء الذى خلقتم منه ، فى مكان حصين ، قد بلغ النهاية فى تمكنه وثباته . فقوله { مَّكِينٍ } بمعنى متمكن ، من مَكنُ الشئ مكانة ، إذا ثبت ورسخ . وقوله { إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } بيان لبديع حكمته ، والقدر بمعنى المقدار المحدد المنضبط الذى لا يتخلف . أى جعلنا هذا الماء فى قرار مكين ، إلى وقت معين محدد فى علم الله - تعالى - يأذن عنده بخروج هذا المخلوق من رحم أمه ، إلى الحياة ، وهذا الوقت هو مدة الحمل . وقوله - تعالى - { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } ثناء منه - تعالى - على ذاته بما هو أهله . أى فقدَّرنا ذلك الخلق تقديرا حكيما منضبطا ، وتمكنا من إيجاده فى أطوار متعددة ، فنعم المقدرون نحن ، ونعم الموجدون نحن لما نوجده من مخلوقات . وما دام الأمر كذلك فويل وهلاك يوم القيامة ، للمكذبين بوحدانيتنا وقدرتنا . ثم انتقل - سبحانه - إلى الاستدلال على إمكانية البعث بطريق ثالث فقال { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً . أَحْيَآءً وَأَمْواتاً . وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } . والكِفات اسم للمكان الذى يكفت فيه الشئ . أى يجمع ويضم ويوضع فيه . يقال كفت فلان الشئ يكفِتُه كَفْتاً ، من باب ضرب - إذا جمعه ووضعه بداخل شئ معين ، ومنه سمى الوعاء كفاتا ، لأن الشئ يوضع بداخله ، وهو منصوب على أنه مفعول ثان لقوله { نجعل } ، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير . وقوله { أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } منصوبان على أنهما مفعولان به ، لقوله { كِفَاتاً } . أو مفعولان لفعل محذوف . أى لقد جعلنا الأرض وعاء ومكانا تجتمع فيه الخلائق الأحياء منهم يعيشون فوقها ، والأموات منهم يدفنون فى باطنها ، { وَجَعَلْنَا فِيهَا } - أيضا - جبالا { رَوَاسِيَ } أى ثوابت { شَامِخَاتٍ } أى مرتفعات ارتفاعا كبيرا ، جمع شامخ وهو الشديد الارتفاع . قال صاحب الكشاف الكفات من كفت الشئ إذا ضمه وجمعه … وبه انتصب { أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } كأنه قيل كافتة أحياء وأمواتا ، أو انتصبا بفعل مضمر يدل عليه ، وهو تكفت . والمعنى تكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتا فى بطنها . فإن قلت لم قيل أحياء وأمواتا على التنكير ، وهى كفات الأحياء والأموات جميعا ؟ قلت هو من تنكير التفخيم ، كأنه قيل تكفت أحياء لا يعدون ، وأمواتاً لا يحصرون … وقوله - سبحانه - { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } بيان لنعمة أخرى من أجل نعمه على خلقه ، أى وأسقيناكم - بفضلنا ورحمتنا - ماء { فُرَاتاً } أى عذبا سائغا للشاربين . وقوله - تعالى - { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } تكرير للتوبيخ والتقريع على جحودهم لنعم الله ، التى يرونها بأعينهم ، ويحسونها بحواسهم ويستعملونها لمنفعتهم . ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان المصير الأليم الذى ينتظر هؤلاء المكذبين ، فقال - تعالى - { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ . ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ . لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ . إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ . كَأَنَّهُ جِمَٰلَتٌ صُفْرٌ } وقوله - سبحانه - { ٱنطَلِقُوۤاْ } مفعول لقول محذوف . أى يقال للكافرين يوم القيامة - على سبيل الإِهانة والإِذلال - انطلقوا إلى ما كنتم تكذبون به فى الدنيا من العذاب . وقوله { ٱنطَلِقُوۤاْ إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ … } بدل مما قبله ، وأعيد فعل { ٱنطَلِقُوۤاْ … } على سبيل التوكيد ، لقصد الزيادة فى تقريعهم وتوبيخهم . والمراد بالظل دخان جهنم ، وسمى بذلك لشدة كثافته ، أى انطلقوا - أيها المشركون - إلى ظل من دخان جهنم الذى يتصاعد من وقودها ، ثم يتفرق بعد ذلك إلى ثلاث شعب ، شأن الدخان العظيم عندما يرتفع . وسمى هذا الدخان العظيم الخانق بالظل ، على سبيل التهكم بهم ، إذ هم فى هذه الحالة يكونون فى حاجة شديدة إلى ظل يأوون إلى برده . ثم وصف - سبحانه - هذا الظل بصفة ثانية فقال { لاَّ ظَلِيلٍ } أى ليس هو بظل على سبيل الحقيقة ، وإنما هو دخان خانق لا برد فيه . ثم وصفه بصفة ثالثة فقال { وَلاَ يُغْنِي مِنَ ٱللَّهَبِ } أى أن هذا الظل الى تنطلقون إليه لا يغنى شيئا من الإِغناء ، من حر لهب جهنم التى هى مأواكم ونهايتكم . وبهذه الصفات يكون لفظ الظل ، قد فقد خصائصه المعروفة من البرودة والشعور عنده بالراحة … وصار المقصود به ظلا آخر ، لا برد فيه ، ولا يدفع عنهم شيئا من حر اللهب . وهذه الصفات إنما جئ بها لدفع ما يوهمه لفظ " ظل " . وعدى الفعل " يغنى " بحرف من ، لتضمنه معنى يُبْعِد . والضمير فى قوله - سبحانه - { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ … } لجهنم ، لأن السياق كله فى شأنها وفى شأن المصطلين بلهيبها . والشرر واحده شررَة ، وهى القطعة التى تتطاير من النار لشدة اشتعالها . والقصر البناء العالى المرتفع . وقيل هو الغليظ من الشجر . أو هو قطع من الخشب ، يجمعها الجامعون للاستدفاء بها من البرد . وقوله { جِمَٰلَتٌ } جمع جمَلَ - كحجارة وحجر . وقال الآلوسى " جمالة " بكسر الجيم - كما قرأ به حمزة والكسائى وحفص وهو جمع جمل . والتاء لتأنيث الجمع . يقال جمل وجمال وجِمالة … والتنوين للتكثير . وقرأ الجمهور { جِمالاتٌ } - بكسرالجيم مع الألف والتاء - جمع جِمَال … فيكون جمع الجمع … والمعنى إنها - أى جهنم - ترمى المكذبين بالحق ، الذين هم وقودها ، ترميهم بشرر متطاير منها لشدة اشتعالها ، كل واحدة من هذا الشرر كأنها البناء المرتفع فى عظمها وارتفاعها . وقوله - تعالى - { كَأَنَّهُ جِمَٰلَتٌ صُفْرٌ } وصف آخر للشرر ، أى كأن هذا الشرر فى هيئته ولونه وسرعة حركته … جمال لونها أصفر . واختبر اللون الأصفر للجمال ، لأن شرر النار عندما يشتد اشتعالها يكون مائلا إلى الصفرة . وقيل المراد بالصفر هنا السواد ، لأن سواد الإِبل يضرب إلى الصفرة . فأنت ترى أن الله - تعالى - قد شبه الشرر الذى ينفصل عن النار فى عظمته وضخامته بالقصر ، وهو البناء العالى المرتفع ، وشبهه - أيضا - حين يأخذ فى الارتفاع والتفرق … بالجمال الصفر ، فى هيئتها ولونها وسرعة حركتها ، وتزاحمها . والمقصود بهذا التشبيه زيادة الترويع والتهويل ، فإن هؤلاء الكافرين لما كذبوا بالحساب والجزاء ، وصف الله - تعالى - لهم نار الآخرة بتلك الصفات المرعبة ، لعلهم يقلعون عن شركهم ، لا سيما وأنهم يرون النار فى دنياهم ، ويرون شررها حين يتطاير … وإن كان الفرق شاسعا بين نار الدنيا ونار الآخرة . وزيادة فى التخويف والإِنذار ختمت هذه الآيات - أيضا - بقوله - تعالى - { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } . ثم صور - سبحانه - حالهم عندما يردون على النار ، ويوشكون على القذف بهم فيها ، فقال - تعالى - { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ . وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ . هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَٱلأَوَّلِينَ . فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ . وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أى ويقال لهؤلاء المجرمين - أيضاً - عند الإِلقاء بهم فى النار هذا يوم لا ينطقون فيه بشئ ينفعهم ، أو لا ينطقون فيه إطلاقا لشدة دهشتهم ، وعظم حيرتهم . ويكون فى الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، فإنهم بعد أن خوطبوا خطاب إهانة وإذلال بقوله - تعالى - { ٱنطَلِقُوۤاْ } أعرض المخاطبون لهم ، على سبيل الإِهمال لهؤلاء الكافرين ، وقالوا لهم هذا يوم القيامة الذى لا يصح لكم النطق فيه . وهذا لا يتعارض مع الآيات التى تفيد نطقهم ، كما فى قوله - تعالى - { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } لأن فى يوم القيامة مواطن متعددة ، فهم قد ينطقون فى موطن ، ولا ينطقون فى موطن آخر . وقوله - تعالى - { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } معطوف على ما قبله . أى فى يوم القيامة لا ينطق هؤلاء المجرمون نطقا يفيدهم ، ولا يؤذن لهم فى الاعتذار عما ارتكبوه من سوء ، حتى يقبل اعتذارهم ، وإنما يرفض اعتذارهم رفضاً تاماً ، لأنه قد جاء فى غير وقته وأوانه . يقال اعتذرت إلى فلان ، إذا أتيت له بعذر يترتب عليه محو الإِساءة . ثم يقال لهم - أيضا - على سبيل التحدى والتقريع { هذا } هو يوم القيامة { يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } بين المحقين والمبطين { جَمَعْنَاكُمْ } فيه - أيها الكافرون - مع من تقدمكم من الكفار { وَٱلأَوَّلِينَ } . { فَإِن كَانَ لَكمُ } - أيها الكافرون - { كَيْدٌ } أى مخرج وحيلة ومنفذ من العذاب الذى حل بكم { فَكِيدُونِ } أى فافعلوه وقوموا به فأنتم الآن فى أشد حالات الاحتياج إلى من يخفف العذاب عنكم . أو المعنى { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ } أى قدرة على كيد دينى ورسلى والمؤمنين ، كما كنتم تفعلون فى الدنيا { فَكِيدُونِ } أى فاظهروه اليوم . والأمر للتعجيز ، لأنه من المعروف أنهم فى يوم القيامة لا قدرة لهم ولا حيلة . وهكذا نجد أن هذه الآيات الكريمة ، قد ساقت ألوانا من الأدلة على وحدانية الله - تعالى - ، وعلى أن يوم البعث حق ، وعلى العاقبة السيئة التى سيكون عليها الكافرون يوم القيامة . ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالموازنة بين حال المتقين ، وحال المجرمين ، فقال { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي … } .