Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 15-19)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - سبحانه - { زَحْفاً } مصدر زحف وأصله للصبى ، وهو أن يزحف على إسته قبل أن يمشى . ثم أطلق على الجيش الكثيف المتوجه لعدوه لأنه لكثرته وتكاتفه يرى كأنه جسم واحد يزحف ببطء وإن كان سريع السير . قال الجمل وفى المصباح زحف القوم زحفا وزحوفا . ويطلق على الجيش الكثير زحف تسمية بالمصدر والجمع زحوف مثل فلس وفلوس . ونصب قوله { زَحْفاً } على أنه حال من المفعول وهو { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين نحوكم . والأدبار جمع دبر - بضمتين - وهو الخلف ، ومقابله القبل وهو الأمام ، ويطلق لفظ الدبر على الظهر وهو المراد هنا . والمعنى يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا { إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } زاحفين نحوكم لقتالكم { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } أى . فلا تفروا منهم ، ولا تولوهم ظهوركم منهزمين ، بل قابلوهم بقوة وغلظة وشجاعة ، فإن من شأن المؤمن أن يكون شجاعا لا جبانا ، ومقبلا غير مدبر . فالمراد من تولية الأدبار الانهزام ، لأن المنهزم يولى ظهره وقفاه لمن انهزم منه . وعدل من لفظ الظهور إلى الأدبار ، تقبيحا للانهزام ، وتنفيرا منه ، لأن القبل والدبر يكنى بهما عن السوءتين . ثم بين - سبحانه - أن تولية الأدبار محرمة إلا فى حالتين فقال - تعالى - { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } . وقوله { مُتَحَرِّفاً } من التحرف بمعنى الميل والانحراف من جهة إلى جهة بقصد المخادعة فى القتال وهو منصوب على الحالية . وقوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } من التحيز بمعنى الانضمام . تقول حزت الشئ أحوزه إذا ضممته إليك . وتحوزت الحية أى انطوت على نفسها . والفئة الجماعة من الناس . سميت بذلك لرجوع بعضهم إلى بعض فى التعاضد والتناصر . من الفئ بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة . والمعنى أن تولية الأدبار محرمة إلا فى حالتين الحالة الأولى أن يكون المؤمن عند توليته الأدبار مائلا عن مكانه إلى مكان آخر أصلح للقتال فيه ، أو أن يكون منعطفا إلى قتال طائفة من الأدبار أهم من الطائفة التى أمامه ، أو أن يوهم عدوه بأنه منهزم أمامه استدراجا له ، ثم يكر عليه فيقتله . الحالة الثانية أن يكون فى توليه منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش ومنضما إليها للتعاون معها على القتال ، حيث إنها فى حاجة إليه . وهذا كله من أبواب خدع الحرب ومكايدها . وقد توعد - سبحانه - الذى ينهزم أمام الأعداء فى غير هاتين الحالتين بقوله { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } . أى ومن يول الكافرين يوم لفائهم دبره غير متحرف ولا متحيز فقد رجع متلبسا بغضب شديد كائن من الله - تعالى - ومأواه الذى يأوى إليه فى الآخرة جهنم وبئس المصير هى . وقوله { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ … } جواب الشرط لقوله ، ومن يولهم . هذا ، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى 1 - وجوب مصابرة العدو ، والثبات فى وجهه عند القتال ، وتحريم الفرار منه . قال الآلوسى فى الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز . أُخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " اجتنبوا السبع الموبقات - أى المهلكات - قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولى يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " . ثم قال وجاء وعد - التولى الزحف - من الكبائر فى غير ما حديث . 2 - أن الخطاب فى الآيتين لجميع المؤمنين وليس خاصاً بأهل بدر . قال الفخر الرازى ما ملخصه اختلف المفسرون فى أن هذا الحكم - وهو تحريم التولى أمام الزحف - هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإِطلاق ؟ فنقل عن أبى سعيد الخدرى والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر . قالوا والسبب فى اختصاص بدر بهذا الحكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حاضراً يوم بدر … وأنه - سبحانه - شدد الأمر على أهل بدر ، لأنه كان أول الجهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم . والقول الثانى أن الحكم المذكور فى هذه الآية كان عاماً فى جميع الحروب بدليل أن قوله - تعالى - { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } عام فيتناول جميع الصور . أقصى ما فى الباب أنه نزل فى واقعة بدر ، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " . وهذا القول الثانى هو الذى نرجحه ، لأن ظاهر الآية يفيد العموم لكل المؤمنين فى كل زمان ومكان ، ولأن سورة الأنفال كلها قد نزلت بعد الفراغ من غزوة بدر لا قبل الدخول فيها . 3 - أن الآيتين محكمتان وليستا منسوختين . أى أن تحريم التولى يوم الزحف على غير المتحرف أو المتحيز ثابت لم ينسخ . وقد رجح ذلك الإِمام ابن جرير فقال ما ملخصه " سئل عطاء بن أبى رباح عن قوله { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } فقال هذه الآية منسوخة بالآية التى فى الأنفال بعد ذلك وهى قوله - تعالى - { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ … } وليس لقوم أن يفروا من مثليهم . وقال آخرون بل هذه الآية حكمها عام فى كل من ولى الدبر عن العدو منهزما . وأولى التأويلين بالصواب فى هذه الآية عندى قول من قال حكمها محكم ، وأنها نزلت فى أهل بدر . وحكمها ثابت فى جميع المؤمنين . وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف القتال ، أو التحيز إلى فئة من المؤمنين ، حيث كانت من أرض الإِسلام ، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما - بغير نية إحدى الخلتيين اللتين أباح الله التولية بهما - فقد استوجب من الله وعيده ، إلا أن يتفضل عليه بعفوه . وإنما قلنا هى محكمة غير منسوخة ، لما قد بينا فى غير موضع ، أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله فى غير النسخ وجه ، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر يقطع العذر ، أو حجة عقل ، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قوله - تعالى - { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } . ثم بين لهم - سبحانه - بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادوا شكراً له ، وطاعة لأمره فقال - تعالى - { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . قال القرطبى قوله - تعالى - { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } ، أى يوم بدر . روى أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر . ذكر كل واحد منهم ما فعل فقال قتلت كذا ، وأسرت كذا ، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك . فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المميت والمقدر لجميع الأشياء ، وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده … " وقال ابن كثير قال على بن طلحة عن ابن عباس " رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ، يديه - يعنى يوم بدر - فقال " يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا ، فقال جبريل " خذ قبضة من التراب فارم بها فى وجوههم " فأخذ قبضة من التراب فرمى بها فى وجوههم " ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين . وقال السدى " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلى يوم بدر " أعطنى حصا من الأرض " فناوله حصا عليه تراب ، فرمى به فى وجوه القوم " ، فلم يبق مشرك إلا دخل فى عينيه من ذلك التراب شئ ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ … } . وقال أبو معشر المدنى " عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظى قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضه من تراب فرمى بها فى وجوه القوم وقال " شاهت الوجوه " ، فدخلت فى أعينهم كلهم . وأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله . { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } . وهناك روايات أخرى ذكرت أن قوله - تعالى - { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } المقصود به رميه - صلى الله عليه وسلم - لأبى بن خلف يوم أحد ، أو رميه لكنانة بن أبى الحقيق فى غزوة خيبر ، أو رميه المشركين فى غزوة حنين . قال ابن كثير وقد روى فى هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت فى رمية النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر … وسياق الآية فى سورة الأنفال فى قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم . والمعنى إنكم - أيها المؤمنون - لم تقتلوا المشركين فى بدر بقوتكم وشجاعتكم ، ولكن الله - تعالى - هو الذى أظفركم بحوله وقوته ، بأن خذلهم ، وقذف فى قلوبهم الرعب ، وقوى قلوبكم ، وأمدكم بالملائكة ، ومنحكم من معونته ورعايته ما بلغكم هذا النصر . والفاء فى قوله { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ … } يرى صاحب الكشاف أنها جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } لأنه هو الذى أنزل الملائكة ، وألقى الرعب فى قلوبهم ، وشاء النصر والظفر وأذهب عن قلوبكم الفزع والجزع . وقوله { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } خطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين . أى { وَمَا رَمَيْتَ } بالرعب فى قلوب الأعداء { إِذْ رَمَيْتَ } فى وجوههم بالحصباء يوم بدر { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - هو الذى { رَمَىٰ } بالرعب فى قلوبهم فهزمهم ونصركم عليهم . أو المعنى ما أوصلت الحصبا إلى أعينهم إذ رميتهم بها ، ولكن الله هو الذى أوصلها إليها . ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة يعنى أن الرمية التى رميتها - يا محمد - لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر ، ولكنها كانت رمية الله ، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم … فأثبت الرمية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ، لأن أثرها الذى لا تطيقه البشر فعل الله - عز وجل - ، فكان الله - تعالى - هو فاعل الرمية على الحقيقة ، وكأنها لم توجد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصلا . وقال الآلوسى واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه - تعالى - وإنما لهم كسبها ومباشرتها وقال الإِمام أثبت - سبحانه - كونه - صلى الله عليه وسلم - راميا ، ونفى كونه راميا ، فوجب حمله على أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى كسبا ، والله - تعالى - رمى خلقا . فإن قيل لماذا ذكر مفعول القتل منفياً ومثبتاً ولم يذكر للرمى مفعول قط ؟ فالجواب - كما يقول أبو السعود - " أن المقصود الأصلى بيان حال الرمى نفيا وإثباتا ، إذ هو الذى ظهر منه ما ظهر ، وهو المنشأ لتغير المرمى به فى نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عينى كل واحد من أولئك الأمة الجمة شئ من ذلك . وقوله - سبحانه - { وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً } بيان لبعض وجوه حكمته - سبحانه - فى خذلان الكافرين ، ونصر المؤمنين . وقوله { لِيُبْلِيَ } من البلاء بمعنى الاختبار . وهو يكون بالنعمة لإِظهار الشكر ، كما يكون بالمحنة لإِظهار الصبر . والمراد به هنا الإِحسان والنعمة والعطاء ، ليزداد المؤمنون شكراً لربهم الذى وهبهم ما وهب من نعم . واللام للتعليل متعلقة بمحذوف مؤخر . والمعنى ، ولكى يحسن - سبحانه - إلى عباده المؤمنين ، وينعم عليهم بالنصر والغنائم ، ليزدادوا شكراً له ، فعل ما فعل من خذلان الكافرين وإذلالهم . وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تذييل قصد به الحض على طاعة الله ، والتحذير من معصيته ، أى إن الله سميع لأقوالكم ودعائكم ، عليم بضمائركم وقلوبكم ، فاستبقوا الخيرات لتنالوا المزيد من رعايته ونصره . ثم يقرر - سبحانه سنة من سننه التى لا تتخلف ، وهى تقوية الحق وتوهين الباطل . وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، وثباتا على ثباتهم فيقول { ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ } . قال الإِمام الرازى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { موهن } - بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين . من التوهين . تقول وهنت الشئ أى ضعفته - ، { كيد } بالنصب على المفعولية . وقرأ حفص عن عاصم { موهن كيد } بالإضافة . وقرأ الباقون { موهن } بالتخفيف ، - من أوهننه فأنا موهنه بمعنى أضعفته - { وكيد } بالنصب وتوهين الله كيدهم ومكرهم يكون بأشياء منها إطلاع المؤمنين على عوراتهم ، وإلقاء الرعب فى قلوبهم ، وتفريق كلمتهم . واسم الإِشارة { ذٰلِكُمْ } يعود إلى ما سبق من نعمة الإِبلاء والقتل والرمى وغير ذلك من النعم . وهو مبتدأ وخبره محذوف . وقوله { وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ … } معطوف عليه . المعنى ذلكم الذى منحته إياكم من العطاء الحسن ، والقتل للمشركين ، والإِمداد بالملائكة ، وإنزال الماء عليكم . ذلكم كله نعم منى إليكم ، ويضاف إلى ذلك كله أنه - سبحانه - مضعف لكيد الكافرين ومفسد لمكرهم بكم . قال ابن كثير وهذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر ، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ، مصغر أمرهم ، وأنهم فى تبار ودمار " وبعد أن ذكر - سبحانه - عباده المؤمنين بما حباهم به من منن فى غزوة بدر ، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله . . أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ فى الكفر على أن يدعو الله أن يجعل الدائرة فى بدر على أضل الفريقين فقال - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . روى الإِمام أحمد والنسائى والحاكم وصححه ، عن ثعلبة ، أن أبا جهل قال حين التقى القوم - فى بدر - اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرفه ، فأحنه - أى فأهلكه - الغداة . فكان المستفتح . وعن السدى أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا اللهم انصر أهدى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين . فقال - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ … } الآية . قال الراغب وقوله { إِن تَسْتَفْتِحُواْ … } أى إن طلبتم الظفر ، أو طلبتم الفتاح أى الحكم … والفتح إزالة الإِغلاق والإِشكال … ويقال فتح القضية فتاحا . أى فصل الأمر فيها وأزال الإِغلاق عنها . قال - تعالى - { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ } والاستفتاح الاستنصار - أى طلب النصر - قال - تعالى - { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ … } والمعنى إن تطلبوا الفتح أى القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين { فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ } أى فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين ، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق ، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل . فالخطاب مسوق للكفارين على سبيل التهكم بهم ، والتوبيخ لهم ، حيث طلبوا من الله - تعالى - القضاء بينهم وبين المؤمنين ، والنصر عليهم ، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم ، وإعلاء كلمة المؤمنين ، لأنهم على الطريق القويم . وقوله { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أى وأن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق ، يكن هذا الانتهاء خيراً لكم من الكفر ومحاربة الحق . وقوله { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ … } تحذير لهم من التمادى فى الباطل بعد ترغيبهم فى الانقياد للحق . أى { وَإِن تَعُودُواْ } إلى محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وعداوتهم { نَعُدْ } عليكم بالهزيمة والذلة . وعلى المؤمنين بالنصر والعزة ، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم - ولو كثرت - أن تدفع عنكم شيئاً من تلك الهزيمة وهذه الذلة ، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده . وقوله { وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } تذييل قصد به تثبيت المؤمنين ، وإلقاء الطمأنينة فى نفوسهم . أى وأن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده ، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته . قال الجمل " قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح " أن " والباقون بكسرها فالفتح من أوجه أحدها أنه على لام العلة والمعلل تقديره ، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت . والثانى أن التقدير ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم . والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف . أى والأمر أن الله مع المؤمنين . والوجه الأخير يقرب فى المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف . هذا وما جرينا عليه من أن الخطاب فى قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ … } للمشركين هو رأى جمهور المفسرين . ومنهم من يرى أن الخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين ، وعليه يكون المعنى { إِن تَسْتَفْتِحُواْ … } أى تطلبوا - أيها المؤمنون - النصر على أعدائكم { فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ } أى فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم . { وَإِن تَنتَهُواْ } أى عن المنازعة فى أمر الانفال ، وعن التكاسل فى طاعة الله ورسوله ، { فَهُوَ } أى هذا الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ } . { وَإِن تَعُودُواْ } إلى المنازعات والتكاسل { نَعُدْ } عليكم بالإِنكار وتهييج الأعداء . { وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أى ولن تفيدكم كثرتكم شيئاً مهما كثرت إن لم يكن الله معكم بنصره . وأن الله - تعالى - مع المؤمنين الصادقين فى إيمانهم وطاعتهم له . والذى يبدو لنا أن كون الخطاب للكافرين أرجح ، لأن أسباب النزول تؤيده ، فقد سبق أن بينا أن الكافرين عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم انصر اهدى الجندين … وأن أبا جهل قال حين التقى القوم اللهم أينا أقطع للرحم … فأحنه الغداة . قال ابن جرير فكان ذلك استفتاحه ، فأنزل الله فى ذلك { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ … } . ولعل مما يرجح أن الخطاب فى قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ … } للكافرين ، أن بعض المفسرين - كابن جرير وابن كثير - ساروا فى تفسيرهم للآية على ذلك ، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا . أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة " وقيل " وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ … } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم . وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أقرانا للضيف ، وأوصلنا للرحم ، وأفكنا للعانى … " وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التى افتتحت بنداء المؤمنين ، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء … وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم ، ورعايته لهم … ورغبت المشركين فى الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق ، وحذرتهم من التمادى فى باطلهم وطغيانهم … وأخبرتهم فى ختامها بأن الله - تعالى - مع المؤمنين بتأييده ونصره . ثم وجهت السورة الكريمة نداء ثانياً إلى المؤمنين ، أمرتهم بطاعة الله ورسوله ، ونهتهم عن التشبه بالكافرين وأمثالهم من المنافقين . فقال - تعالى - { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ … وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } .