Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 9-14)
Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال القرطبى قوله - تعالى - { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } الاستغاثة طلب الغوث والنصر ، يقال غّوث الرجل ، أى قال واغوثاه ، والاسم الغوث والغواث ، واستغاثنى فلان فأغثته ، والاسم الغياث . وقوله { مُمِدُّكُمْ } من الإِمداد بمعنى الزيادة والإِغاثة ، وقد جرت عادة القرآن أن يستعمل الإِمداد فى الخير ، وأن يستعمل المد فى الشر والذم . قال - تعالى - { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيۤ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } وقال - تعالى - { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } قال - تعالى - { قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } وقال - تعالى - { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقوله { مُرْدِفِينَ } من الإِرداف بمعنى التتابع . قال الفخر الرازى قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم { مُرْدِفِينَ } - بفتح الدال - وقرأ الباقون بكسرها ، والمعنى على الكسر ، أى متتابعين يأتى بعضهم فى إثر البعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب . والمعنى على قراءة الفتح ، أى فعل بهم ذلك ، ومعناه أن الله - تعالى - أردف المسلمين وأمدهم بهم أى جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم . والمعنى اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن كنتم - وأنتم على أبواب بدر - { تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } أى تطلبون منه الغوث والنصر على عدوكم { فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ } دعاءكم ، وكان من مظاهر ذلك أن أخبركم على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - بأنى { مُمِدُّكُمْ } أى معينكم وناصركم بألف من الملائكة مردفين ، أى متتابعين ، بعضهم على إثر بعض ، أو أن الله - تعالى - جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم وتثبيتهم . ويروى الإِمام مسلم عن ابن عباس قال " حدثنى عمر بن الخطاب قال كان يوم بدر ، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، فاستقبل نبى الله - القبلة ، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ويقول اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد فى الأرض ، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه . فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من وراءه ، وقال يا نبى الله ! ! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل الله - عز وجل - { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ } " الآية فأمده الله بالملائكة . وروى البخارى عن ابن عباس قال قال النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ، " اللهم أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال حسبك ، فخرج - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول " سيهزم الجمع ويولون الدبر " " . وروى سعيد بن منصور عن طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال " لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وتكاثرهم ، وإلى المسلمين فاستقلهم ، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فى صلاته " اللهم لا تودع منى اللهم لا تخذلنى ، اللهم لا تترنى - أى لا تقطعنى عن أهلى وأنصارى - أولا تنقصنى شيئاً من عطائك - اللهم أنشدك ما وعدتنى - أى أستنجزك وعدك " . وروى ابن إسحاق فى سيرته أنه - صلى الله عليه وسلم - قال اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذى وعدتنى . فإن قيل إن هذه النصوص يؤخذ منها أن هذه الاستغاثة كانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلماذا أسندها القرآن إلى المؤمنين ؟ فالجواب أن المؤمنين كانوا يؤمنون على دعائه - صلى الله عليه وسلم - ويتأسون به فى الدعاء ، إلا أن الروايات ذكرت دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه هو قائد المؤمنين ، وهو الذى يحرص الرواة على نقل دعائه ، أكثر من حرصهم على نقل دعاء غيره من أصحابه . وقيل إن الضمير فى قوله { تَسْتَغِيثُونَ } للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وجئ به مجموعا على سبيل التعظيم ، ويعكر على هذا القبل أن السياق بعد ذلك لا يلتئم معه ، لأنه خطاب للمؤمنين بالنعم التى أنعم بها - سبحانه - عليهم . وعبر - سبحانه - بالمضارع { تَسْتَغِيثُونَ } مع أن استغاثتهم كانت قبل نزول الآية - استحضارا للحال الماضية ، حتى يستمروا على شكرهم لله ، ولذلك عطف عليه . فاستجاب لكم ، بصيغة الماضى مسايرة للواقع . وكان العطف بالفاء للإِشعار بأن إجابة دعائهم كانت فى أعقاب تضرعهم واستغائتهم وهذا من فضل الله عليهم ، ورحمته بهم ، حيث أجارهم من عدوهم ، ونصرهم عليه - مع قلتهم عنه - نصرا مؤزرا . والسين والتاء فى قوله { تَسْتَغِيثُونَ } للطلب ، أى تطلبون منه الغوث بالنصر . فإن قيل إن الله - تعالى - ذكر هنا أنه أمدهم بألف من الملائكة ، وذكر فى سورة آل عمران أنه أمدهم بأكثر من ذلك فكيف الجمع بينهما ؟ فالجواب أن الله - تعالى - أمد المؤمنين بألف من الملائكة فى يوم بدر ، كما بين هنا فى سورة الأنفال ، ثم زاد عددهم إلى ثلاثة آلاف كما قال - تعالى - فى سورة آل عمران { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ … } ثم زاد عددهم مرة أخرى إلى خمسة آلاف ، قال - تعالى - { بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاۤفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } وقد صبروا واتقوا وأتاهم المشركون من مكة فورا حين استنفرهم أبو سفيان لإِنقاذ العير … فكان المدد خمسة آلاف … واختار ابن جرير أنهم وعدوا بالمدد بعد الألف ، ولا دلالة فى الآيات على أنهم أمدوا بما زاد على ذلك ، ولا على أنهم لم يمدوا ، ولا يثبت شئ من ذلك إلا بنص . وهذا بناء على أن المدد الذى وعد الله به المؤمنين فى آيات سورة آل عمران كان خاصاً بغزوة بدر . أما على الرأى القائل بأن هذا المدد الذى بتلك الآيات كان خاصا بغزوة أحد فلا يكون هناك إشكال بين ما جاء فى السورتين . وقد بسط القول فى هذه المسألة الإِمام ابن كثير فقال ما ملخصه " اختلف المفسرون فى هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين أحدهما أن قوله - تعالى - { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ } متعلق بقوله { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍ } وهذا قول الحسن والشعبى والربيع بن أنس وغيرهم … فإن قيل فكيف الجمع بين هذه الآيات - التى فى سورة آل عمران وبين قوله فى سورة الأنفال - { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ } . فالجواب أن التنصيص على الألف هنا ، لا ينافى الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله - تعالى - { مُرْدِفِينَ } بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم . قال الربيع بن أنس أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف " . والقول الثانى يرى أصحابه أن هذا الوعد - وهو قوله - تعالى - { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ } متعلق بقوله - قبل ذلك - { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } وذلك يوم أحد . وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وغيرهم . لكن قالوا لم يحصل الإِمداد بالخمسة الآلاف ، لأن المسلمين يومئذ فروا . وزاد عكرمة ولا بالثلاثة الآلاف لقوله - تعالى { بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا بملك واحد . ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله عليهم ورحمته بهم فى هذا الإِمداد فقال { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فالآية الكريمة كلام مستأنف ساقه - سبحانه - لبيان بعض مظاهر فضله على المؤمنين ، ولبيان أن المؤثر الحقيقى هو الله وحده حتى يزدادوا ثقه به ، وحتى لا يقنطوا من النصر عند قلة أسبابه . أى وما جعل الله - تعالى - هذا الإِمداد بالملائكة إلا بشارة لكم - أيها المؤمنون - بالنصر على أعدائكم فى هذه الغزوة الحاسمة وقوله { بُشْرَىٰ } مفعول لأجله مستثنى من أعم العلل . وقوله { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } معطوف عليه أى ولتسكن بهذا الإِمداد قلوبكم ، ويزول عنكم الخوف ، وتهاجموا أعداءكم بنفوس لا يداخلها الإِحجام أو التردد … وقوله { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } أى ليس النصر بالملائكة أو غيرهم إلا كائن من عند الله وحده ، لأنه - سبحانه - هو الخالق لكل شئ ، والقادر على كل شئ … وإن الوسائل مهما عظمت ، والأسباب مهما كثرت ، لا تؤدى إلى النتيجة المطلوبة والغاية المرجوة ، إلا إذا أيدتها إرادة الله وقدرته ورعايته . وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أى غالب لا يقهره شئ ، ولا ينازعه منازع حكيم فى تدبيره وأفعاله . فالجملة الكريمة بتذييل قصد به التعليل لما قبله ، وفيه إشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات حكمته البالغة - سبحانه - . ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك بعض المنن الأخرى التى منحها للمؤمنين قبل أن يلتحموا مع أعدائهم فى بدر فقال { إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ } . وقوله { يُغَشِّيكُمُ } بتشديد الشين من التغشية بمعنى التغطية عن غشاه تغشية أى غطاه . والنعاس أول النوم قبل أن يثقل . وفعله - على الراجح - على وزن منع . والأمنة مصدر بمعنى الأمن . وهو طمأنينة القلب وزوال الخوف ، يقال أمنت من كذا أمنة وأمنا وأمانا بمعنى . قال الجمل فى قوله { إذ يغشاكم النعاس } ثلاث قراءات سبعية . الأولى يغشاكم كيلقاكم ، من غشية إذا أتاه وأصابه وفى المصباح غشيته أغشاه من باب تعب بمعنى أتيته - وهى قراءة أبى عمرو وابن كثير . الثانية يُغْشِيكم - بإسكان الغين وكسر الشين - من أغشاه . أى أنزله بكم وأوقعه عليكم - وهو قراءة نافع - . الثالثة يغشيكم - بتشديد الشين وفتح الغين وهى قراءة الباقين - من غشاه تغشية بمعنى غطاه . أى يغشيكم الله النعاس أى يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم . والنعاس على القراءة الأولى مرفوع على الفاعلية ، وعلى الأخيرتين منصوب على المفعولية . وقوله " أمنة " حال أو مفعول لأجله . وقال القرطبى وكان هذا النعاس فى الليلة التى كان القتال من غدها ، فكان النوم عجيبا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم ، ولكن الله ربط جأشهم . وعن على - رضى الله عنه - قال ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلى حتى أصبح . وفى امتنان الله عليهم بالنوم فى هذه الليلة وجهان - أحدهما أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد . الثانى أن أمنهم بزوال الرعب فى قلوبهم كما يقال الأمن منيم ، والخوف مسهر " . وقال ابن كثير وجاء فى الصحيح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان يوم بدر فى العريش مع الصديق ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة من النوم . ثم استيقظ متبسما ، فقال " أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل على ثناياه النقع " . ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله - تعالى - { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } " . والمعنى واذكروا - أيها المؤمنون - أيضاً ، وقت أن كنتم متعبين وقلقين على مصيركم فى هذه المعركة ، فألقى الله عليكم النعاس ، وغشاكم به قبل التحامكم بأعدائكم ، ليكون أمانا لقلوبكم ، وراحة لأبدانكم ، وبشارة خير لكم . هذا ، ومن العلماء الذين تكلموا عن نعمة النعاس التى ساقها الله للمؤمنين قبل المعركة ، الإِمامان الرازى ومحمد عبده . أما الامام الرازى فقد قال ما ملخصه واعلم أن كل نوم ونعاس لا يحصل إلا من قبل الله - تعالى - فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله لا بد فيه من مزيد فائدة ، وذكروا فى ذلك وجوها منها أن الخانف إذا خاف من عدوه فإنه لا يأخذه النوم ، وإذا نام الخائفون أمنوا . فصار حصول النوم لهم فى وقت الخوف الشديد ، يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن . ومنها أنهم ما ناموا نوما غرقا يتمكن مع العدو من معافصتهم ، بل كان ذلك نعاسا يزول معه الإِعياء والكلال ، ولو قصدهم العدو فى هذه الحالة لعرفوا وصوله ، ولقدروا على دفعه . ومنها أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم ، وحصول النعاس للجمع العظيم فى الخوف الشديد أمر خارق للعادة . فلهذا السبب قيل إن ذلك النعاس كان فى حكم المعجز . وقال الامام محمد عبده لقد مضت سنة الله فى الخلق ، بأن من يتوقع فى صبيحة ليلته هو لا كبيرا ، ومصابا عظيما ، فإنه يتجافى تجنبه عن مضجعه فيصبح خاملا ضعيفا . وقد كان المسلمون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك ، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غدا فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرض والسهاد … ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس غشيهم فناموا ، واثقين بالله ، مطمئنين لوعده ، وأصبحوا على همة ونشاط فى لقاء عدوهم وعدوه … فالنعاس لم يكن يوم بدر فى وقت الحرب بل قبلها " . وبذلك نرى أن النعاس الذى أنزله الله تعالى - على المؤمنين قبل لقائهم بأعدائهم فى بدر كان نعمة عظيمة ومنه جليلة . وقوله - تعالى - { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } معطوف على قوله { يُغَشِّيكُمُ } وهو - أى إنزال الماء من السماء نعمة عظمى تحمل فى طياتها نعما وسننا . أولها يتجلى فى هذه الجملة الكريمة ، أنه - سبحانه - أنزل على المؤمنين المطر من السماء ليطهرهم به من الحدثين الأصغر والأكبر ، فإن المؤمن - كما يقول الإِمام الرازى - " يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا ، وبغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب " . وثانيها قوله - تعالى - ويذهب عنكم رجز الشيطان . وأصل الرجز الاضطراب ويطلق على كل ما تشتد مشقته على النفوس . قال الراغب أصل الرجز الاضطراب ، ومنه قيل رجز البعير رجزا فهو أرجز ، وناقة رجزاء إذا تقارب خطوها واضطرب لضعفها … " والمراد برجز الشيطان وسوسته للمؤمنين ، وتخويفه إياهم من العطش وغيره عند فقدهم الماء وإلقاؤه الظنون السيئة فى قلوبهم . أى أنه - سبحانه - أنزل عليكم الماء - أيها المؤمنون - ليطهركم به تطهيرا حسيا وليزيل عنكم وسوسة الشيطان ، بتخويفه إياكم من العطش وبإلقائه فى نفوسكم الظنون والأوهام … وهذا هو التطهير الباطنى . وثالثها قوله - تعالى - { وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ } أى وليقويها بالثقة فى نصر الله ، وليوطنها على الصبر والطمأنينة … ولا شك أن وجود الماء فى حوزة المحاربين يزيدهم قوة على قوتهم ، وثباتاً على ثباتهم ، أما فقده فإنه يؤدى إلى فقد الثقة والاطمئنان ، بل وإلى الهزيمة المحققة . وأصل الربط الشد . ويقال لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه ، أى حبس قلبه عن أن يضطرب أو يتزعزع ، ومنه قولهم رجل رابط الجأش أى ثابت متمكن . ورابع هذه النعم التى تولدت عن نزول الماء من السماء على المؤمنين ، قبل خوضهم معركة بدر ، يتجلى فى قوله - تعالى - { وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ } . أى أنه - سبحانه - أنزل عليهم المطر قبل المعركة لتطهيرهم حسياً ومعنوياً ، ولتقويتهم وطمأنينتهم ، وليثبت أقدامهم به حتى لا تسوخ فى الرمال ، وحتى يسهل المشى عليها ، إذ من المعروف أنه من العسير المشى على الرمال ، فإذا ما نزلت عليها الأمطار جمدت وسهل السير فوقها ، وانطفأ غبارها … فالضمير فى قوله { بِهِ } يعود على الماء المنزل من السماء . قال الزمخشرى ويجوز أن يعود للربط - فى قوله { وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ } ، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة ثبتت القدم فى مواطن القتال . هذا ، وقد وردت آثار متعددة توضح ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من نعم جليلة ، ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس أنه قال نزل النبى - صلى الله عليه وسلم - يعنى حين سار إلى بدر - والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة - أى كثيرة مجتمعة - فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان فى قلوبهم الغيظ ، فوسوس بينهم ، تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين ؟ فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ، ومشى الناس عليه والدواب ، فساروا إلى القوم . . " وعن عروة بن الزبير قال بعث الله السماء وكان الوادى دهساً فأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه " . ومن هذا القول المنقول عن عروة - رضى الله عنه - نرى أن المطر كان خيراً للمسلمين ، وكان شراً على الكافرين ، لأن المسلمين كانوا فى مكان يصلحه المطر ، بينما كان المشركون فى مكان يؤذيهم فيه المطر . ثم ذكرهم بنعمة أخرى كان لها أثرها العظيم فى نصرهم على المشركين فقال - سبحانه - { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } . والبنان - كما يقول القرطبى - واحده بنانه . وهى هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء … وهو - أى البنان - مشتق من قولهم أبَّن الرجل بالمكان إذا أقام به . فالبنان يُعتَملُ به ما يكون للإِقامة والحياة . وقيل المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرجلين ، وهو عبارة عن الثبات فى الحرب وموضع الضرب ، فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء … وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التى بها يستقر الإِنسان … والمعنى واذكر - أيها الرسول الكريم - وقت أن أوحى ربك إلى الملائكة الذين أمد بهم المسلمين فى بدر { أَنِّي مَعَكُمْ } أى بعونى وتأييدى { فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أى فقووا قلوبهم ، واملأوا نفوسهم ثقة بالنصر ، وصححوا نياتهم فى القتال حتى تكون غايتهم إعلاء كلمة الله . قال الآلوسى والمراد بالتثبيت الحمل على الثبات فى موطن الحرب والجد فى مقاساة شدائد القتال . وكان ذلك هنا - فى قول - بظهورهم لهم فى صورة بشرية يعرفونها ، ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم ، فقد أخرج البيهقى فى الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل فى صورة الرجل يعرفه فيقول له أبشروا فإنهم ليسوا بشئ ، والله معكم . كروا عليهم . وقال الزجاج كان بأشياء يلقونها فى قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم . وللملك قوة إلقاء الخير فى القلب ويقال له إلهام ، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له وسوسة . وقوله - تعالى - { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } بشارة عظيمة للمؤمنين . أى سأملأ قلوب الكافرين بالخوف والفزع منكم - أيها المؤمنون - ، وسأقذف فيها الهلع والجزع حتى تتمكنوا منهم . والرعب انزعاج النفس وخوفها من توقع مكروه ، وأصله التقطيع من قولهم رعبت السنام ترعيباً إذا قطعته مستطيلا ، كأن الخوف يقطع الفؤاد . وقوله { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } الخطاب فيه للمؤمنين ، وقيل ، للملائكة . والمراد بما فوق الأعناق الرءوس كما روى عن عطاء وعكرمة . أو المراد بها الأعناق ذاتها فتكون فوق بمعنى على وهو قول أبى عبيدة . ويرى صاحب الكشاف أن المراد بما فوق الأعناق أعالى الأعناق التى هى المذابح ، لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها جزا وتطييرا للرءوس . والمراد بالبنان - كما سبق أن بينا - الأصابع أو مطلق الأطراف . والمعنى لقد أعطيتكم - أيها المؤمنون - من وسائل النصر ما أعطيتكم ، فهاجموا أعدائى واعداءكم بقوة وغلظة ، واضربوهم على أعناقهم ورءوسهم ومواضع الذبح فيهم . واضربوهم على كل أطرافهم حتى تشلوا حركتهم ، فيصبحوا عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم . ثم بين سبحانه - السبب فى تكليفه المؤمنين بمجاهدة الكافرين والإِغلاظ عليهم وقتلهم . فقال - تعالى - { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } . فاسم الإِشارة { ذٰلِكَ } يعود إلى ما سبق بيانه من تأييد المؤمنين ، وأمرهم بضرب الكافرين … وهو فى محل رفع على الابتداء . وقوله { بِأَنَّهُمْ … } خبره . والباء للسببية . وقوله { شَآقُّواْ } من المشاقة بمعنى المخالفة والمعاداة مشتقة من الشق - أى الجانب - ، فكل واحد من المتعاديين أو المتخالفين صار فى شق غير شق صاحبه . والمعنى ذلك الذى ذكره الله - تعالى - فيما سبق ، من تأييده للمؤمنين وأمره إياهم بضرب الكافرين ، سببه أن هؤلاء الكافرين { شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أى عاد وهما وخالفوا شرعهما { وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } بأن يسير فى غير الطريق الذى أمرا به ، { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } لهذا المعادى والمخالف . قال الآلوسى وقوله { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } إما نفس الجزاء ، وقد حذف منه العائد عند من يكتفى ولا يلتزم بالعائد فى الربط . أى شديد العقاب له . أو قائم مقام الجزاء المحذوف أى يعاقبه الله - تعالى - فإن الله شديد العقاب . وأياما كان فالشرطية بيان للسببية السابقة بطريق برهانى . كأنه قيل ذلك العقاب الشديد بسبب المشاقة لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان ، فله بسبب ذلك عقاب شديد ، فإن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله عقابا شديدا . ثم يوجه - سبحانه - خطابه على سبيل الالتفات لأولئك الذين شاقوا الله ورسوله ، متوعدا إياهم بسوء المصير فيقول { ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ } فاسم الإِشارة { ذٰلِكُمْ } يعود إلى ما سبق بيانه من تأييد المؤمنين ، وخذلان الكافرين وإنزال العقوبة بهم . أى ذلكم الذى نزل بكم - أيها الكافرون - من القتل والأسر فى بدر ، هو العقاب المناسب لطغيانكم وشرككم وعنادكم ، فذوقوا آلامه ، وتجرعوا غصصه ، وعيشوا فى مذلته . هذا فى الدنيا ، أما فى الآخرة فلكم عذاب النار الذى هو أشد وأبقى من عذاب الدنيا . فاتركوا الكفر ، وادخلوا فى الإِيمان لتنجوا من العذاب وتنالوا الثواب . قال الجمل ما ملخصه وقوله { ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ … } يجوز فيه وجوه من الأعراب أحدها أن يرفع بالابتداء والخبر محذوف أى ذلكم العقاب . الثانى أن يرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى العقاب ذلكم أو الأمر ذلكم وعلى هذين الوجهين يكون قوله { فَذُوقُوهُ } لا تعلق له بما قبله من جهة الاعراب فهو مستأنف ، والوقف يتم على قوله { ذٰلِكُمْ } الثالث أن يرتفع بالابتداء . والخبر قوله { فَذُوقُوهُ } وهذا على رأى الأخفش . وقوله { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ ٱلنَّارِ } معطوف على قوله { ذٰلِكُمْ } أو منصوب على أنه مفعول معه ، والمعنى ذوقوا ما عجل لكم مع ما أجل لكم فى الآخرة ، ووضع الظاهر فيه موضع المضمر - بأن قال { فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ } ولم يقل فذوقوه وأن لكم - للدلالة على أن الكفر سبب للعذاب الآجل أو للجمع بينهما . ومن هذا نرى أن تلك الآيات الكريمة قد ذكّرت المؤمنين الذين اشتركوا فى غزوة بدر بألوان من نعم الله عليهم ، وبأنواع من البشارات التى كانت تدل على أن النصر سيكون لهم . 1 - ذكّرتهم بوعد الله لهم بأن إحدى الطائفتين العير أو النفير ستكون لهم ، وقد وفى لهم - سبحانه - بوعده ، حيث جعل النصر لهم ، ومن أوفى بعهده من الله ؟ 2 - وذكرتهم بإجابة الله لدعائهم ، حيث أمدهم بألف من الملائكة مردفين . 3 - وذكرتهم بالنعاس الذى ألقاه - سبحانه - عليهم قبل المعركة ، ليكون أماناً لهم ، وراحة لأبدانهم . 4 - وذكرتهم بنزول المطر عليهم من السماء ليكون طهارة ظاهرية وباطنية لهم ، وليكون طمأنينة لقلوبهم ، وتثبيتاً لأقدامهم . 5 - وذكرتهم بأمر الله لملائكته أن يثبتوهم ، بأن يغرسوا فى قلوبهم الثقة فى نصر الله لهم ، والاستهانة بقوة أعدائهم . 6 - وذكرتهم بما ألقاه - سبحانه - فى قلوب الكافرين من رعب وفزع وجزع ، جعلهم ينهزمون أمامهم . 7 - وذكرتهم بأن ما أصاب أعداء الله وأعداءهم من قتل وأسر وخسران كان سببه كفرهم وعنادهم وإيثارهم سبيل الغى على سبيل الرشد ، وأنهم - إذا استمروا فى كفرهم - فسيلقون فى الآخرة عذاباً أشد وأبقى مما نزل بهم فى الدنيا . ولا شك أن هذا التذكير من مقاصده الأساسية حض المؤمنين على الاستجابة لله ولرسوله وعلى مداومة الشكر لخالقهم ، فهو - سبحانه - الذى منحهم هذه النعم الجزيلة التى تمكنوا معها من رقاب أعدائهم ، وهو الذى جعلهم يغنمون كل هذه الغنائم بعد أن خرجوا من ديارهم بلا مال ولا ظهر ولا عتاد . هذا ، ومن الخير قبل أن ننتقل من هذه الآيات إلى غيرها ، أن نتكلم بشئ من التفصيل عن مسألة كثر الحديث عنها . وهذه المسألة هى ماذا كانت وظيفة الملائكة فى بدر ؟ أكانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين فحسب أم أنهم بجانب هذا التثبيت قاتلوا فعلا ؟ إننا بمطالعتنا لما كتبه الكاتبون عن هذه المسألة نراهم فى كتاباتهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام أ أما القسم الأول منهم ، فيرى أن الملائكة فى غزوة بدر لم تكن وظيفتهم التثبيت فحسب ، وإنما هم قاتلوا مع المؤمنين فعلا ، ويستدلوا على ذلك بأدلة من أهمها 1 - ما جاء عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أنه قال بينما رجل من المسلمين يشتد فى إثر رجل من المشركين أمامه . إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلا يقول أقدم حيزوم ، فخر المشرك مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه . فجاء فحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة . 2 - وجاء عنه أنه قال - أيضاً - كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء ، ويوم أحد عمائم خضراء ، ولم تقاتل الملائكة فى يوم سوى بدر وكانوا فيما سواه عددا ومددا . 3 - وعن أبى داود المزنى قال تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر . فوقع رأسه بين يدى قبل أن يصل إليه سيفى . 4 - وروى عن عبد الله بن مسعود أن أبا جهل سأله يوم بدر من أين كان ذلك الصوت الذى كنا نسمعه ولا نرى شخصاً ؟ فقال من الملائكة ، فقال له أبو جهل هم إذن غلبونا لا أنتم . 5 - وقال القرطبى وتظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت . ومن ذلك قول أبى أسيد مالك بن ربيعة وكان شهد بدرا لو كنت معكم الآن ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشعب - أى الطريق فى الجبل - الذى خرجت منه الملائكة . لا أشك ولا أمارى . وعن سهل بن حنيف قال لقد رأيتنا يوم بدر إن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه . هذه أهم الروايات التى استند إليها العلماء الذين يرون أن الملائكة قد قاتلوا مع المؤمنين يوم بدر ، وعلى رأس هؤلاء العلماء القرطبى ، فهو يرى أن هذا هو الصحيح وأنه رأى الجمهور . ب أما القسم الثانى من العلماء فيرى أن الملائكة لم تقاتل يوم بدر ، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين فى المعركة ، وتقوية أرواحهم وقلوبهم ، واستدلوا على ذلك بأدلة من أهمها 1 - أنه ليس فى الآيات القرآنية التى تحدثت عن غزوة بدر آية واحدة صريحة فى أن الملائكة قد قاتلت بالفعل ، وإنما هى صريحة فى أن الله تعالى - قد أمد المؤمنين بالملائكة ، وجعل هذا الإِمداد بشارة لهم . قال الآلوسى عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ … } وفى الآية إشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالا ، وهو مذهب لبعضهم . ويشعر ظاهرها بأن النبى - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بذلك الإِمداد ، وفى الأخبار ما يؤيد ذلك . بل جاء فى غير ما خبر أن الصحابة رأوا الملائكة - عليهم السلام - . 2 - أن بعض الآيات القرآنية التى تحدثت عن غزوة بدر قد وضحت وظيفة الملائكة توضيحاً تاماً ، ومن ذلك قوله - تعالى - { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } . قال ابن جرير فى معنى { فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } قووا عزمهم ، وصححوا نياتهم فى قتال أعدائهم من المشركين … وقال فى معنى قوله - تعالى - { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ … } والصواب من القول فى ذلك أن يقال إن الله أمر المؤمنين معلما إياهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف ، أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدى والأرجل … وقال الفخر الرازى قوله { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ } فيه وجهان الأول أنه أمر للملائكة متصل بقوله - تعالى - { فَثَبِّتُواْ } . وقيل بل أمر للمؤمنين ، وهذا هو الأصح لما بينا أنه - تعالى - ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة … 3 - أن الروايات التى استند إليها من قال بأن الملائكة قاتلت مع المؤمنين فى بدر لم ترد فى كتب السنة المعتمدة ، بل لم يذكر معظمها الإِمام ابن جرير مع علمنا باهتمامه بالمرويات فى تفسيره . وفضلا عن ذلك فإن أكثر هذه الروايات لم تصرح بأن الملائكة قد قاتلت . فمثلا رواية أبى داود المازنى لم تصرح بأن المشرك الذى أراد هو أن يقتله قد قتله ملك . وكذلك الحال بالنسبة لروايتى أبى أسيد وسهيل بن حنيف وأما قول أبى جهل لابن مسعود " هم إذن غلبونا - يعنى الملائكة - لا أنتم ، فنرجح أنه من باب التبرير والمغالطة . فهو يريد أن ينفى - حقداً منه وعناداً - قوة المؤمنين الذين صرعوا أمثاله من الطغاة … " . والخلاصة أن معظم الروايات - مع ضعفها - لم تصرح بأن الملائكة قد قاتلوا مع المؤمنين يوم بدر . 4 - استبعد كثير من العلماء اشتراك الملائكة فى القتال ، ومن هؤلاء العلماء الإِمام أبو بكر الأصم فقد قال " إن الملك الواحد يكفى فى إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط . فإذا حضر هو يوم بدر - وجميع الروايات تذكر أنه كان على رأس الملائكة - فأى حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ؟ بل أى حاجة حينئذ إلى إرسال سائر الملائكة ؟ وأيضاً فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين ، وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم . وأيضاً لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أوْلا … وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ، ولم يقل أحد بذلك … وعلى الثانى كان يلزم جز الرءوس ، وتمزيق البطون ، وإسقاط الكفار من غير مشاهدة فاعل ، ومثل هذا من أعظم المعجزات ، فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين المسلم والكافر والموافق والمخالف . … وقال صاحب المنار مقتضى السياق أن وحى الله للملائكة { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ } إلخ . وقوله - تعالى - { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ … } إلخ بدء كلام خوطب به النبى - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون تتمة للبشرى . فيكون الأمر بالضرب موجهاً إلى المؤمنين قطعاً ، وعليه المحققون الذين جزموا بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر تبعاً لما قبله من الآيات . ثم قال وفى كتب السير وصف للمعركة علم منه القاتلون والآسرون لأشد المشركين بأسا ، فهل تعارضه هذه البينات النقلية بروايات لم يرها شيخ المفسرين ابن جرير حرية بأن تنقل . كفانا الله شر هذه الروايات الباطلة التى شوهت التفسير وقلبت الحقائق ، حتى إنها خالفت نص القرآن نفسه فالله - تعالى - يقول فى إمداد الملائكة { وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ … } وهذه الروايات تقول بل جعله مقاتلة . وإن هؤلاء السبعين الذين قتلوا من المشركين لم يمكن قتلهم إلا باجتماع ألف أو ألوف من الملائكة عليهم مع المسلمين الذين خصهم الله بما ذكر من أسباب النصر المتعددة . ألا إن فى هذا من تعظيم شأن المشركين ، وتكبير شجاعتهم وتصغير شأن أفضل أصحاب الرسول وأشجعهم مالا يصدر عن عاقل ، إلا وقد سلب عقله لتصحيح روايات باطلة لا يصح لها سند ، ولم يرفع منها إلا حديث مرسل عن ابن عباس ذكره الآلوسى وغيره بغير سند . وابن عباس لم يحضر غزوة بدر لأنه كان صغيرا ، فرواياته عنها حتى فى الصحيح مرسله … هذه أهم الأدلة التى استند إليها القائلون بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر ، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين ، وتقوية عزائمهم . وتصحيح نياتهم . جـ أما القسم الثالث من العلماء الذين كتبوا فى هذه المسألة ، فمنهم الذى اكتفى بسرد الآراء دون أن يرجح بينها ، ومن هؤلاء صاحب الكشاف ، فقد قال فإن قلت هل قاتلت الملائكة يوم بدر ؟ قلت اختلف فيه . فقيل نزل جبريل فى يوم بدر فى خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر ، وميكائيل فى خمسمائة على الميسرة وفيها على بن أبى طالب فى صورة الرجال . فقاتلت . وقيل قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب … وقيل لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ، ويثبتون المؤمنين ، وإلا فملك واحد كاف فى إهلاك أهل الدنيا كلهم … ومنهم الذى يرى أن البحث فى تفاصيل أمثال هذه المسائل ليس من الجد الذى هو طابع هذه العقيدة ، ومن هؤلاء صاحب " فى ظلال القرآن " فقد قال ما ملخصه " تروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة فى يوم بدر عددهم وطريقة مشاركتهم فى المعركة . وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين ، وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين . ونحن - على طريقتنا فى الظلال - نكتفى فى مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد فى النصوص المتيقنة من قرآن أو سنة ، والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ … } فهذا عددهم { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } فهذا عملهم . ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية . وبحسبنا أن تعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها فى ذلك اليوم ، وهى قلة والاعداء كثرة ، وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذى يصفه الله سبحانه فى كلماته … إننا نؤمن بوجود خلق أسماهم الملائكة ، ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم ، فلا نملك من إدراك الكيفية التى اشتركوا بها فى نصرة المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآنى . وقد أوحى إليهم ربهم أنى معكم . وأمرهم أن يثبتوا الذين آمنوا ففعلوا . - لأنهم يفعلون ما يؤمرون - ولكننا لا ندرى كيف فعلوا . إن البحث التفصيلى فى كيفيات هذه الأفعال كلها ليس من الجد الذى هو طابع هذه العقيدة . وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإِسلامية ومباحث علم الكلام فى العصور المتأخرة ، عندما فرغ الناس من الاهتمامات الإِيجابية فى هذا الدين ، وتسلط الترف العقلى على النفوس والعقول . وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله - سبحانه - للملائكة فى المعركة ، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة لهى أنفع واجدى … وبعد فهذه أهم الأقوال التى قالها العلماء فى مسألة وظيفة الملائكة فى بدر ، بسطناها بشئ من التفصيل لتتضح آراؤهم فيها . والذى نراه بعد كل ذلك أن أقرب الأقوال إلى الصواب ، هو القول الذى ذهب أصحابه إلى أن الملائكة فى بدر لم تقاتل ، وإنما كانت وظيفتهم تثبيت وتقوية عزائم المؤمنين … وذلك لما سبق أن بيناه من أدلة وحجج - والله أعلم بالصواب . وبعد أن بين - سبحانه - بعض البشارات والنعم التى ساقها للمؤمنين الذين اشتركوا فى بدر . وجه - سبحانه - نداء إليهم أمرهم فيه بالثبات فى وجوه أعدائهم ، وذكرهم بجانب من مننه عليهم . فقال - تعالى - { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ … مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } .