Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 83, Ayat: 18-28)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { كلا } هنا ، تكرير للردع والزجر السابق فى قوله - تعالى - قبل ذلك { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } لبيان ما يقابل ذلك من أن كتاب الأبرار فى عليين . ولفظ " عليين " جمع عِلِّى - بكسر العين وتشديد اللام المكسورة - من العلو . ويرى بعضهم أن هذا اللفظ مفرد ، وأنه اسم للديوان الذى تكتب فيه أعمال الأبرار . قال صاحب الكشاف وكتاب الأبرار ما كتب من أعمالهم ، وعليون علم لديوان الخير ، الذى دون فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين . منقول من جمع " عِلِّى " بزنة فِعِّيل - بكسر الفاء والعين المشددة - من العلو ، كسِجِّين من السجن . سمى بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالى الدرجات فى الجنة ، وإما لأنه مرفوع فى السماء السابعة … تكريما له وتعظيما … أى حقا إن ما كتبته الملائكة من أعمال صالحة للأتقياء الأبرار ، لمثبت فى ديوان الخير ، الكائن فى أعلى مكان وأشرفه . وقوله - سبحانه - { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } تفخيم لشأن هذا الديوان ، وتنويه عظيم بشرفه . وقوله { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } تفسير لما كتب لهؤلاء الأبرار من خير وبركة ، أى كتاب الأبرار كتاب واضح بين ، يقرؤه أصحابه بسهولة ويسر ، فتنشرح صدورهم ، وتقر عيونهم . وقوله - تعالى - { يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } صفة أخرى جىء بها على سبيل المدح لهذا المكتوب من الأعمال الصالحة لهؤلاء الأخيار . أى كتاب الأبرار ، وصحائف أعمالهم ، فى أسمى مكان وأعلاه ، وهو كتاب واضح بين ، يقرءونه فيظهر البشر والسرور على وجوههم ، وهو فرق ذلك { يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } أى يطلع عليه الملائكة المقربون من الله - تعالى - ، ليكون هذا الاطلاع شهادة لهؤلاء الأبرار ، بأنهم محل رضا الله - تعالى - وتكريمه وثوابه . ثم بين - سبحانه - حالهم فى الجنة ، بعد بيان ما اشتمل عليه كتابهم من خير وبر فقال - تعالى - { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } أى لفى نعيم دائم ، لا يحول ولا يزول . { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } والأرائك جمع أريكة - بزنة سفينة - وهى اسم للسرير الذى يكون مفروشا فرشا أنيقا جميلا . أى هم فى نعيم دائم لا يقادر قدره ، وهم - أيضاً - يجلسون على السرر المهيأة لجلوسهم تهيئة حسنة ، ينظرون إلى كل ما يدخل البهجة والسرور على نفوسهم . وحذف مفعول " ينظرون " لقصد التعميم . أى ينظرون إلى كل ما يبهج نفوسهم . { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } أى تعرف فى وجوههم - أيها الناظر إليهم - البهجة والحسن ، وصلاح البال ، وهناءة العيش . وإضافة النضرة - وهى الجمال الواضح - إلى النعيم - الذى هو بمعنى التنعم والترفه - من إضافة المسبب إلى السبب . وهذه الجملة الكريمة صفة ثالثة من صفات هؤلاء الأبرار ، ثم تأتى الصفة الرابعة المتمثلة فى قوله - تعالى - { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ } . والرحيق اسم للخمر الطيبة الصافية الخالية من كل ما يكدر أو يذهب العقل . والمختوم أى المسدود الذى لم تمسه يد قبل أيدى هؤلاء الأبرار . وقوله { خِتَامُهُ مِسْكٌ } صفة ثانية للرحيق . أى أن هؤلاء الأبرار من صفاتهم - أيضا - أنهم يسقيهم ربهم - بفضله وكرمه - من خمر طيبة بيضاء لذيذة ، خالصة من كل كدر … هذه الخمر مختوم على إنائها بخاتم ، بحيث لم تمسها يد قبل أيديهم . وهذه الخمر - أيضا - من صفاتها أن شاربها يجد فى نهاية شربها ما يشبه المسك فى جودة الرائحة . وقال الشوكانى وقوله { خِتَامُهُ مِسْكٌ } أى آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه ، وجد ريحه كريح المسك . وقيل مختوم أوانيه بمسك مكان الطين ، وكأنه تمثيل لكمال نفساته ، وطيب رائحته . والحاصل أن المختوم والختام إما أن يكون من ختام الشىء وهو آخر أو من ختم الشىء وهو جعل الخاتم عليه ، كما تختم الأشياء بالطين ونحوه . وقراءة الجمهور { خِتَامُهُ } وقرأ الكسائى { خاتمه } والخاتم والختام يتقاربان فى المعنى إلا أن الخاتم الاسم ، والختام المصدر … واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } يعود للرحيق المختوم ، الدال على صلاح بالهم ، وحسن أحوالهم . وأصل التنافس التغالب فى الشئ النفيس ، وهو الذى تحرص عليه النفوس ، بحيث يبتغيه ويطلبه كل إنسان لنفسه خاصة . يقال نفس فلان على فلان بهذا الشئ - كفرح - إذا بخل به عليه . أى ومن أجل الحصول على ذلك الرحيق المختوم ، والنعيم المقيم … فليرغب الراغبون ، وليتسابق المتسابقون ، وليتنافس المتنافسون فى وجوه الخير . عن طريق المسارعة فى تقديم الأعمال التى ترضى الله - تعالى - . فالمقصود من الآية الكريمة تحريض الناس وحضهم على تقديم العمل الصالح ، الذى يوصلهم يوم القيامة إلى أعلى الدرجات . وقوله - سبحانه - { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ . عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ } صفة ثالثة من صفات هذا الرحيق . والمزاج ما يمزج به الشئ ، ويطلق على الممزوج بالشئ - كما هنا - فهو من إطلاق المصدر على المفعول . والتسنيم علم لعين فى الجنة مسماة بهذا الاسم ، وهذا اللفظ مصدر سنمه إذا رفعه . يقال سنم فلان الطعام . إذا جعله كهيئة السنام فى ارتفاعه . قالوا وسميت هذه العين بهذا الاسم ، لأنها تنبع من مكان مرتفع ، أو لعلو مكانتها . وقوله { عينا } منصوب على المدح . أى ومزاج هذا الرحيق وخليطه كائن من ماء لعين فى الجنة ، مرتفعة المكان والمكانة ، هذه العين يشرب منها المقربون إلى الله - تعالى - شرابهم . قال الآلوسى والباء فى قوله { بها } إما زائدة . أى يشربها . أو بمعنى من . أى يشرب منها ، أو على تضمين يشرب معنى يروى . أى يشرب راوين بها . أى يروى بها المقربون … وإلى هنا نجد أن هذه الآيات الكريمة قد بشرت الأبرار ببشارات متعددة ، بشرتهم بأن صحائف أعمالهم فى أعلى عليين ، وبأنهم فى تعيم مقيم ، وبأنهم ينظرون إلى كل ما يشرح صدورهم ، وبأن الناظر إليهم يرى آثار النعمة والرفاهية على وجوههم ، وبأن شرابهم من خمر طيبة لذيذة الطعم والرائحة . ثم حكى - سبحانه - جانبا من الرذائل التى كان يفعلها المشركون مع المؤمنين ، وبشر المؤمنين بأن العاقبة الطيبة ستكون لهم … فقال - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ … } .