Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 69-70)

Tafsir: at-Tafsīr al-wasīṭ li-l-Qurʾān al-Karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - تعالى - { كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً … } جاء على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزجر المنافقين ، وتحريك نفوسهم إلى الاعتبار والاتعاظ . والكاف فى قوله { كَٱلَّذِينَ } للتشبيه ، وهى فى محل رفع خبر لمبتدأ محذوف . والتقدير أنتم - أيها المنافقون - حالكم كحال الذين خلوا من قبلكم من الطغاة فى الانحراف عن الحق ، والاغترار بشهوات الدنيا وزينتها ، ولكن هؤلاء الطغاة المهلكين ، يمتازون عنكم بأنهم { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } فى أبدانهم ، وكانوا " أكثر " منكم { أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } . وقوله { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } بيان لموقف هؤلاء المهلكين من نعم الله - تعالى - والخلاق مشتق من الخلق بمعنى التقدير . وأطلق على الحظ والنصيب لأنه مقدر لصاحبه . أى كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً ، ولكنهم لم يشكروا الله على إحسانه ، بل فتنوا بما بين أيديهم من نعم ، واستمتعوا بنصيبهم المقدر لهم فى هذه الحياة الدنيا ، استمتاع الجاحدين الفاسقين . والتعبير بالفاء المفيدة للتعقيب فى قوله { فَٱسْتَمْتَعُواْ } للإِشعار بأن هؤلاء المهلكين بمجرد أن امتلأت أيديهم بالنعم ، قد استعملوها فى غير ما خلقت له ، وسخروها لإِرضاء شهواتهم الخسيسة ، وملذاتهم الدنيئة . وقوله { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } ذم للمخاطبين وللذين سبقوهم لانتهاجهم جميعاً طريق الشر والبطر . أى فأنتم - أيها المنافقون - قد استمعتم بنصيبكم المقدر لكم من ملاذ الدنيا ، وشهواتها الباطلة ، كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم فى ذلك . وقوله { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } معطوف على ما قبله . أى وخضتم - أيها المنافقون - فى حمأة الباطل وفى طريق الغرور والهوى ، كالخوض الذى خاضه السابقون من الأمم المهلكة . قال الآلوسى قوله " وخضتم " أى دخلتم فى الباطل { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } . أى كالذين فحذفت نونه تخفيفاً ، كما فى قول الشاعر @ إن الذى حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد @@ ويجوز أن يكون " الذى " صفة لمفرد اللفظ ، مجموع المعنى ، كالفوج والفريق ، فلوحظ فى الصفة اللفظ . وفى الضمير المعنى ، أو هو صفة لمصدر محذوف ، أى كالخوض الذى خاضوه ، ورجح بعدم التكلف فيه . وقال صاحب الكشاف فإن قلت أى فائدة فى قوله { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } وقوله { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } مغن عنه كما أغنى قوله { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } عن أن يقال وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا ؟ قلت فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر فى العاقبة ، وطلب الفلاح فى الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ، ويهجن أمر الرضا به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ، ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل ما فعله . وأما { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } فمعطوف على ما قبله مستند إليه ، مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة . وقوله { أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } بيان لسوء مصيرهم فى الدارين . واسما الإِشارة يعودان على المتصفين بتلك الصفات القبيحة من السابقين واللاحقين . أى أولئك المستمتعون بنصيبهم المقدر لهم فى الشهوات الخسيسة ، والخائضون فى الشرور والآثام " حبطت أعمالهم " أى فسدت وبطلت أعمالهم التى كانوا يرجون منفعتها { فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ } لأن هذه الأعمال لم يكن معها إيمان أو إخلاص ، وإنما كان معها الرياء والنفاق ، والفسوق والعصيان ، والله - تعالى - لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم . وقوله { وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أى الكاملون فى الخسران ، الجامعون لكل ما من شأنه أن يؤدى إلى البوار والهلاك . ثم ساق لهم - سبحانه - من أخبار السابقين ما فيه الكفاية للعظة والاعتبار لو كانوا يعقلون ، فقال - تعالى - { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ … } . والاستفهام للتقرير والتحذير . والمراد بنبأ الذين من قبلهم أخبارهم التى تتناول أقوالهم وأعمالهم ، كما تتناول ما حل بهم من عقوبات ، بسبب تكذيبهم لأنبيائهم . والمعنى ألم يصل إلى أسماع هؤلاء المنافقين ، خبر أولئك المهلكين من الأقوام السابقين بسبب عصيانهم لرسلهم ، ومن هؤلاء الأقوام " قوم نوح " الذين أغرقوا بالطوفان ، وقوم " عاد " الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية ، وقوم " ثمود " الذين أخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين ، " وقوم إبراهيم " الذين سلب الله نعمه عنهم ، وأذل غرور زعيمهم الذى حاج إبراهيم فى ربه ، و " أصحاب مدين " وهم قوم شعيب الذين أخذتهم الصيحة ، و " المؤتفكات " وهم أصحاب قرى قوم لوط ، التى جعل الله عاليها سافلها … والائتفاك معناه الانقلاب بجعل أعلى الشئ أسفله . يقال أفكه يأفكه إذا قلبه رأساً على عقب . وذكر - سبحانه - هنا هذه الطوائف الست ، لأن آثارهم باقية ، ومواطنهم هى الشام والعراق واليمن ، وهى مواطن قريبة من أرض العرب ، فكانوا يمرون عليها فى أسفارهم ، كما كانوا يعرفون الكثير من أخبارهم . قال - تعالى - { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِٱلْلَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } وقوله { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } كلام مستأنف لبيان أنبائهم وأخبارهم . أى أن هؤلاء الأقوام المهلكين السابقين ، قد أتتهم رسلهم بالحجج الواضحات الدالة على وحدانية الله وعلى وجوب إخلاص العبادة له … والفاء فى قوله { فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } للعطف على كلام مقدر يدل عليه المقام . أى أتتهم رسلهم بالبينات ، فكذبوا هؤلاء الرسل ، فعاقبهم الله - تعالى - على هذا التكذيب . وما كان من سنته - سبحانه - ليظلمهم ، لأنه لا يظلم الناس شيئاً { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بسبب كفرهم وجحودهم ، واستحبابهم العمى على الهدى ، وإيثارهم الغى على الرشد . هذا ، ومن هاتين الآيتين الكريمتين نرى بوضوح ، أن الغرور بالقوة ، والافتتان بالأموال والأولاد ، والانغماس فى الشهوات والملذات الخسيسة . والخوض فى طريق الباطل ، وعدم الاعتبار بما حل بالطغاة والعصاة … كل ذلك يؤدى إلى الخسران فى الدنيا والآخرة ، وإلى التعرض لسخط الله وعقابه . كما نرى منها أن من سنة الله فى خلقه ، أنه - سبحانه - لا يعاقب إلا بذنب ، ولا يأخذ العصاة والطغاة أخذ عزيز مقتدر ، إلا بعد استمرارهم فى طريق الغواية ، وإعراضهم عن نصح الناصحين ، وإرشاد المرشدين . وصدق الله إذ يقول { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وبعد أن تحدثت السورة الكريمة عن أحوال المنافقين ، وصفاتهم ، وسوء عاقبتهم … أتبعت ذلك بالحديث عن المؤمنين الصادقين ، وعما أعده الله لهم من نعيم مقيم ، فقال - سبحانه - { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ … هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } .