Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 21-25)
Tafsir: Taysīr at-tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد ان استعرض الله تعالى طوائف الناس الثلاث : المؤمنين المتقين ، والكافرين ، والمنافقين وجّه دعوة عامة للناس جميعاً الى عبادته والايمان بالكتاب الذي أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ، وخاطبهم بـ { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } ، فوصفهم بهذه الإنسانية التي هي عنوان على العقل والنظر و التدبُّر . يا أيها الناس اعبُدوا ربَّكم . الذي أنشأكم وخلقكم كما خلق الأقوام الذين سبقوكم . إنه خالق هذا الكون وكل شيء فيه . اعبُدوه لعلكم تُعدون أنفسكم وتهيئونها لأن تتطهر بفضل عبادتها له فيسهُل عليها ان تذعن للحق . وبعد ان أرشدهم الرحمن الى دلائل التوحيد وحثهم على عبادة الخالق العظيم أشار لهم الى دلائل وحدانيته من آيات قدرته المحيطة بهم في أرضه وسمائه ، وبصّرهم بما أنعم عليهم فيها من وسائل الحياة ، وموارد الرزق فقال : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } مهّده بقدرته وبسَط رقعته بحكمته كما يسهُل عليكم العيش فيها والانتفاع بها . والبسط والتمهيد هنا لا يعني كروية في الشكل ولا عدمها ، وانما يعني تذليل الأرض لنفع الانسان . لكنّ الله بسط لنا في الأرض السهول ، وجعل لنا فيها الجبال الشاهقة والبحار العميقة ، والأنهار الجارية والأودية السحيقة : كل ذلك جعله لنا ، نتمتع بكافة خيراتها العديدة الأصناف . اما فوقنا فقد جعل السماء وأجرامها وكواكبها المتراصة في نظرنا كالبنيان المشيد . ومن هذه السماء أمدّنا جلّ وعلا بسب الحياة والنعمة . ألا وهو الماء ، انزله علينا يغيثنا به فجعله سبباً لأخراج النبات والشجر المثمر . لذا فإن من عمى البصيرة والبصر أيها الناس ان تجعلوا لله أندادا . فلا تفعلوه . إذ من الغيّ وحده أن تتصوروا ان لله نظراء ، ثم تأخذون تعبدونهم كعبادته . انه خالقكم ، ليس له مثيل ولا شريك ، وأنتم بفطرتكم الأصيلة تعلمون انه لا مثيل له ولا شريك ، فلا تحرّفوا هذه الطبيعة . نعم ان كثيراً من مشركي العرب كانوا يعتقدون بالإلَه لكنهم يتذرعون بقولهم : انما نعبد هذه الأصنام لتُقِّربنا الى الله … فهل الله في حاجة الى وثن يتخذه واسطة بينه وبين عباده ! ! وفي هذه الآية جزء من دلائل الإعجاز في القرآن الكريم ، وهو قوله تعالى { ٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } ، ففي ذلك معنى ما كان يمكن أن يعرفه النبي الأميّ الا بوحي من الله . فالسماء في المعنى العلمي هي كل ما يحيط بالارض في أي اتجاه ، و الى أي مدى ، وعلى أية صورة ، ويشمل ذلك الجوّ المحيط بالارض الى ارتفاعات تنتهي حيث يبدأ الفراغ الكوني الشاسع بما فيه من الأجرام السماوية المنتشرة في اعماقه السحيقة على اختلاف أشكالها وأحجامها . وهي تتحرك في نظام بديع عجيب ، على أساسه يتوالى ظهورها واختفاؤها لسكان الأرض . وهي جميعاً في دورانها وترابطها بقوى الجاذبية ، كالبنيان في تماسكه واتزانه ، وتدّرجه طبقة بعد طبقة . وكل هذا لم يكن معروفاً للعلم في عصر محمد . صلى الله عليه وسلم . وفي الجزء الأدنى من السماء ، وهو الحد المحيط بالأرض القريبُ منها مباشرة توجد الطبقات الجوية المختلفة الواقية من الإشعاعات الضارة عن أرجاء الكون ، والتي لا تسمح الا للأشعة المنيرة منها بالنفاذ ، فهي كالمظلات الواقية . وفي هذه الطبقة يكون السحاب ومنه المطر . وبعد أن بيَّن الله للناس انه هو الخالق الواحد المعبود بحق ، وانه المنعم بكل ما في الوجود خاطبهم برفق قائلا : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } وذلك لان المشركين كانوا ينكرون الرسالة وأن القرآن وحي من عند الله . لذا طلب اليهم ، لتبرير شكّهم وإنكارهم ، عند أنفسهم ، أن يأتوا بسورة واحدة تضارع أياً من سور القرآن في بلاغتها وإحكامها وعلومها وسائر هدايتها . وحجّهم قائلاً : نادوا الذين يشهدون لكم أنكم أتيتم بسورة مماثلة . استعينوا بهم في اثبات دعواكم . غير انكم لن تجدوهم … وهؤلاء الشهود هم غير الله حُكماً ، لأن الله يؤيد عبده بكتابه ، ويشهد له بأفعاله . ثم ينتقل الى التحدّي والتحذير فيقول : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } . فإن لم تستطيعوا ان تأتوا بسورةٍ من مِثلِ سوَر القرآن ولن تستطيعوا ذلك بحال من الأحوال ، لأن القرآن كلام الله الخالق ، فهو فوق طاقة المخلوقين فالواجب عليكم ان تجتنبوا ما يؤدي بكم الى عذاب الآخرة ، وإلى النار التي سيكون وقودها الكافرين من الناس والحجارة من أصنامكم ، والتي أعدّها الله لتعذيب الجاحدين أمثالكم . ولقد سجل القرآن على المشركين المكابرين واقع العجز الدائم عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، بل جزءٍ منه أو سورة واحدة . وذلك من إعجاز القرآن . لأن التحدي ظل قائماً في حياة الرسول الكريم رغم وجود الفصحاء والبلغاء من خطباء العرب وشعرائهم وكبار متحدثيهم . ولا يزال قائماً الى يومنا هذا والى يوم الدين . وحيث عجز بلغاء ذلك العصر وفصحاؤه . فإن سواهم أعجز . وفي هذا أكبر دليل على ان القرآن ليس من كلام البشر ، بل هو من الخالق العظيم ، انزله تصديقاً لرسوله محمد بن عبد الله ، الرسول الأميّ الذي لم يجلس الى معلم ، ولم يدخل أية مدرسة . وبعد أن حذّر المكذّبين المعاندين وأنذرهم بعقاب الفجّار في نار لاهبة أخذ يبشّر المؤمنين المتقين بالجنة . لقد أذعنوا للحق دون شك أو ارتياب ، وعملوا الأعمال الصالحة الطيبة ، فبشّرْهم يا محمد بما يسرهم ويشرح صدورهم : لقد أعدّ الله لهم عنده جنات تتخللها الأنهار الجارية تنساب تحت أشجارها وبين قصورها ، وكلّما نالوا رزقاً من بعض ثمارها قالوا : هذا شبيه ما رزقنا الله في الدنيا من قبل . ومع أن الثمرات التي ينالونها اذ ذاك تتشابه في الصورة والشكل والجنس مع مثيلاتها في الدنيا فهي تتمايز عنها في الطعم واللذة . ولهم في الجنة زوجات رضيّات ، مطهرات من الخبث والدنس ، هن أرفعُ من المكر والكيد ومساوئ الاخلاق . هناك سيبقون في الحياة الخالدة ، ويعيشون في النعيم المقيم .