Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 30-39)
Tafsir: al-Kašf wa-l-bayān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } يعني : وقد قال ، وقيل معناه : واذكر إذ قال ربّك ، وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله . و ( إذ ) و ( إذا ) حرفا توقيت ، إلاّ أنّ ( إذ ) للماضي و ( إذا ) للمستقبل ، وقد يوضع أحدهما موضع الآخر . قال المبرّد : إذا جاء ( إذ ) مع المستقبل كان معناه ماضياً نحو قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } [ الأنفال : 30 ] وإذ يقول ، يريد وإذ مكر وإذ قال ، وإذا وإذ جاء مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله : { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ } [ النازعات : 34 ] { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } [ عبس : 33 ] { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ } [ النصر : 1 ] أي يجيء ، وقال الشاعر : @ ثمّ جزاه الله عنا إذ جزا جنّات عدن والعلا إلى العلا @@ أي يجزيه . { لِلْمَلاَئِكَةِ } الذين كانوا في الأرض ، والملائكة : الرسل ، واحدها ملك ، وأصله : مالك ، وجمعه : ملائكة ، وهي من الملكة والمالكة والألوك الرسالة ويقال : ألكني الى فلان ، أي كن رسولي إليه فقلبت ، فقيل : ملاك . قال الشاعر : @ فلست لأنسيّ لكن لملاك تنزّل من جوّ السماء يصوب @@ ثمّ حذف الهمزة للخفّة وكثير استعماله فقيل : ملك . قال النضر بن شميل في الملك : إن العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه ، وهو مما فات علمه . { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } أي بدلا منكم ورافعكم إليّ ، سُمّي ( خليفة ) لأنه يخلف الذاهب ويجيء بعده ، فالخليفة مَن يتولى إمضاء الأمر عن الآمر ، وقرأ [ زيد بن علي ] : ( خليفة ) بالقاف . قال المفسرون : وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن ، فأسكن الملائكة السماء ، وأسكن الجنّ الأرض ، فعبدوا دهراً طويلا في الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي ، فاقتتلوا وأفسدوا ، فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة يُقال لهم : الجن ، رأسهم عدو الله إبليس وهم خُزّان الجنان اشتق لهم اسم من الجنّة فهبطوا إلى الأرض ، وطردوا الجنّ عن وجهها فالحقوهم بشعوب الجبال ، وجزائر البحر ، وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة ، وأحبّوا البقاء في الأرض لذلك ، وأعطى الله إبليس مُلك الأرض ومُلك سماء الدنيا وخزانة الجنان ، فكان يعبد الله تارةً في الأرض ، وتارةً في السماء ، وتارة في الجنة . فلما رأى ذلك دخله الكبر والعُجُب ، وقال في نفسه : أعطاني الله هذا الملك إلاّ لأني أكرم الملائكة عليه ، وأعظمهم منزلةً لديه ؛ فلما ظهر الكبر جاء العزل ، فقال الله له ولجنده : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } فلما قال لهم ذلك كرهوا ؛ لأنّهم كانوا أهون في الملائكة عبادة ، ولأنّ العزل شديد . { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } بالمعاصي . { وَيَسْفِكُ } يصبّ { ٱلدِّمَآءَ } بغير حق . فإن قيل : كيف علموا ذلك وهو غيب ؟ والجواب عنه ما قال السّدي : لما قال الله لهم ذلك ، قالوا : وما يكون من ذلك الخليفة ؟ قال : تكون له ذرية ، يفسدون في الأرض [ ويتحاسدون ] ويقتل بعضهم بعضاً . قالوا عند ذلك : { أَتَجْعَلُ فِيهَا } ومعناه : فقالوا ، فحذف فاء التنسيق . كقول الشاعر : @ لما رأيت نبطا أنصارا شمرّتُ عن ركبتي الأزارا كنتُ لهم من النّصاري جارا @@ أي فكنتُ لهم . وقال أكثر المفسرين : أرادوا كما فعل بنو الجانّ قاسوا بالشاهد على الغائب ، وقال بعض أهل المعاني : فيه إضمار واختصار معناه : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ أم تجعل فيها من لا يفسد ولا يُسفك الدماء ؟ لقوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ ٱللَّيْلِ } [ الزمر : 9 ] يعني كمن هو غير قانت ، وهو اختيار الحسن بن الفضل . { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } . قال الحسن : يقولون : سبحان الله وبحمده ، وهو صلاة الخلق وتسبيحهم وعليها يُرزقون . يدل عليه الحديث المروي عن أبي ذر " إنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل ؟ قال : " ما أصطفاه الله تعالى لملائكته : سبحان الله وبحمده " . وقيل : معناه : ونحن نصلي لك بأمرك ، والتسبيح يكون بمعنى التنزيه ويكون بمعنى الصلاة ، ومنه قيل : للصلاة سُبحة ، وقيل : معناه : نصلي ، ونقرأ فيها فاتحة الكتاب . { وَنُقَدِّسُ لَكَ } وننزهك واللام صلة ، وقيل : هي لام الأجل ، أي ونطهّر لأجلك قلوبنا من الشرك بك [ وأبداننا ] من معصيتك . وقال بعض العلماء : في الآية تقديم وتأخير مجازها : ونحن نسبّح ونُقدّس لك بحمدك ؛ لأنّه إذا حُملت الآية على التأويل الأول تنافي قول الملائكة المتزكية بالإدلال بالعمل ، وإذا حُملت على هذا التأويل ضاهى قولهم التحدّث بنعمة الله واضافة [ … ] إلى الله فكأنّهم قالوا : وأن سبّحنا وقدّسنا وأطعنا وعبدنا فذلك كلهُ بحمدك لا بأنفسنا ، قال الله : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من استخلافي في الأرص ووجه المصلحة فيه ، فلا تعترضوا عليّ في حكمي وتدبيري ، وقيل : أراد أني أعلمُ أنّ في من استخلفه في الأرض : أنبياء وأولياء وعلماء وصلحاء ، وقيل : أني أعلم إنّهم يذنبون وأغفر لهم . قال بعض الحكماء : إنّ الله تعالى أخرج [ أدم ] من الجنّة قبل أنْ يدخله فيها . لقوله { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } ثم كان خروجه من الجنّة بذنبه يدل أنه كان بقضاء الله وقدره . ابن نجيح عن مجاهد في قوله : { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها . ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احتج آدم وموسى . فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنّة . فقال له آدم : أنت موسى اصطفاك الله لرسالته وكلامه ، ثم تلومني على أمر قُدّر قبل أن أُخلق . فحج آدم موسى " . فصل في معنى الخليفة قيل : سأل أمير المؤمنين الخطاب ، طلحة والزبير وكعباً وسلمان : ما الخليفة من الملك ؟ فقال طلحة والزبير : ما ندري . فقال سلمان : الخليفة الذي يعدل في الرّعية ويقسم بينهم بالسّويّة ويشفق عليهم شفقة الرّجل على أهله ويقضي بكتاب الله ، فقال كعب : ما كنتُ أحسب أن في المجلس أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري ، ولكنّ الله عزّ وجلّ ملأ سلمان حكماً وعلماً وعدلا . وروى زاذان عن سلمان : إنّ عمر قال له : أملك أنا أم خليفة ؟ فقال سلمان : إنْ أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقّه فأنت ملك . قال : فاستعبر عمر رضي الله عنه . وعن يونس : إنّ معاوية كان يقول إذا جلس على المنبر : أيّها الناس إنّ الخلافة ليست لجمع المال ولا تفريقه ، ولكنّ الخلافة بالحقّ والحكم بالعدل وأخذ الناس بأمر الله عزّ وجل . { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ } وذلك إنّ الله تعالى لمّا قال للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } قالوا فيما بينهم : ليخلق ربّنا ما شاء فلن يخلق خلقاً أفضل ولا أكرم عليه منّا ، وإن كان خيراً منّا فنحن أعلم منه لأنّا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره ، فلما أُعجبوا بعلمهم وعبادتهم ، فضّل الله تعالى عليهم آدم عليه السلام بالعلم فعلّمه الأسماء كلّها وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة . واختلف العلماء في هذه الأسماء ، فقال الربيع وابن أنس : أسماء الملائكة ، وقال عبد الرحمن بن زيد : أسماء الذّرّية . وقال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة والضّحّاك : علّمه الله اسم كلّ شيء حتى القصعة والقُصَيعة . قال مقاتل : خلق الله كلّ شيء الحيوان والجماد وغيرها ثمّ علّم آدم أسماءها كلها . فقال له : يا آدم هذا فرس ، وهذا بغل ، وهذا حمار حتى أتى على آخرها ثم عرض تلك الأشياء كما عرض الموجودات على الملائكة . فكذلك قال : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } ولم يقل : عرضها ، وردّه الى الشخوص والمسمّيات لأنّ الأعراض لا تُعرض . وقيل : علّم الله آدم عليه السلام صنعة كل شيء . جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال : علّم الله آدم أسماء الخلق والقرى والمدن والجبال والسباع وأسماء الطير والشجر وأسماء ما كان وما يكون وكل نسمة اللهُ عزّ وجلّ بارئها إلى يوم القيامة ، وعرض تلك الأسماء على الملائكة . { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إنّ الخليفة الذي أجعله في الأرض يُفسد فيها ويسفك الدماء . أراد الله تعالى بذلك : كيف تدّعون علم ما لم يكن بعدُ ، وأنتم لا تعلمون ما ترون وتعاينون . وقال الحسن وقتادة : { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إني لا أخلق خلقاً إلاّ كنتم أعلم وأفضل منه ، قالت الملائكة : إقراراً بالعجز واعتذاراً . { قَالُواْ سُبْحَانَكَ } : تنزيهاً لك عن الاعتراض لعلمك في حكمك وتدبيرك ، وهو نصب على المصدر ، أي نسبح سبحاناً في قول الخليل . وقال الكسائي : خارج عن الوصف ، وقيل : على النداء المضاف أي : يا سبحانك . { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ } بخلقك { ٱلْحَكِيمُ } في أمرك . وللحكيم معنيان : أحدهما : المحكم للفعل ، كقوله : { عذاب أليم } ، وحز وجيع . قال الشاعر : @ أمن ريحانة الداعي السّميع يؤرّقني وأصحابي هموع @@ أي المؤلم والموجع ، والمسمع فعيل بمعنى : مُفعل وعلى هذا التأويل هو صفة فعل . والآخر : بمعنى ( الحاكم العالم ) وحينئذ يكون صفة ذات ، وأصل الحكمة في كلام العرب : المنع . يُقال : أحكمت اليتيم عن الفساد وحكمته ، أي منعته . قال جرير : @ أبني حنيفة احْكِموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا @@ ويقال للحديدة المعترضة في فم الدابة : حكمة ؛ لأنها تمنع الدآبة من الأعوجاج ، والحكمة تمنع من الباطل ، ومالا يجمل فلا يحلّ في المحكم من الأمر بمنعه من الخلل ، وفي هذه الآية دليل على جواز تكليف ما لا يُطاق حيث أمر الله تعالى الملائكة بإنباء مالم يعلموا ، وهو عالم بعجزهم عنه . فلما ظهر عجزهم ، قال الله تعالى : { يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } فسمّى كل شيء باسمه ، وألحق كل شيء بجنسه . { فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ } أخبرهم . { بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ } يا ملائكتي . { إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ما كان فيها وما يكون . { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } من الخضوع والطاعة لآدم . { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } تخفون في أنفسكم من العداوة له . وقيل : ما تبدون من الإقرار بالعجز والاعتذار ، وما كنتم تكتمون من الكراهية في استخلاف آدم . قال ابن عباس : هو أنّ إبليس مرّ على جسد آدم وهو ملقىً بين مكة والطائف لا روح فيه ، فقال : لأمر ما خلق هذا ، ثمَّ دخل من فيه وخرج من دبره ، وقال : إنّه لا يتماسك إلاّ بالجوف ، ثمَّ قال للملائكة الذين معه : أرأيتم أن فضّل هذا عليكم ، وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون ؟ قالوا : نطيع أمر ربّنا . فقال ابليس في نفسه : والله لئن سُلطت عليه لأهلكته ، ولئن سُلّط عليّ لأعصينّه . فقال الله تعالى : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } يعني الملائكة من الطاعة { وما تكتمون } يعني إبليس من المعصية . قال الحسن وقتادة : { مَا تُبْدُونَ } يعني قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها { وما تكتمون } يعني قولهم لن يخلق خلقاً أفضل ولا أعلم ولا أكرم عليه منّا . القول في حدّ الاسم وأقسامه فقال أصحابنا : الاسم : كل لفظة دلت على معنى ما وشيء ما ، وهو مشتق من السِّمة ، وهي العلامة التي يُعرف بها الشيء ، وأقسامه ثمانية منها : اسم علم مثل زيد ، وعمرو ، وفاطمة ، وعائشة ، ودار ، وفرس . ومنها : اسم لازم كقولك : رجل ، وامرأة ، وشمس ، وقمر ، وحجر ، ومدر ونحوها ؛ سُمّي لازماً لأنّه لا ينقلب ولا يُفارق ، فلا يُقال للشمس قمر ولا للقمر حجر . ومنها : اسم مفارق مثل : صغير ، وكبير ، وطفل ، وكهل ، وقليل ، وكثير ، وقيل له مفارق لأنّه كان ولم يكن له هذا الاسم ويزول عنه المعنى المسمّى به . ومنها : اسم مشتق : ككاتب ، وخياط ، وصائغ ، وصبّاغ ؛ فالاسم مشتق من فعله . ومنها : اسم مضاف مثل : غلام جعفر ، وركوب عمرو ، ودار زيد . ومنها : اسم مشبهة كقولك : فلان أسد وحمار وشعلة نار . ومنها : اسم منسوب يثبتُ بنفسه ويُثبت غيره ، كقولك : أب ، وأمّ ، وأخ ، وأخت ، وابن ، وبنت ، وزوج ، وزوجة ، فإذا قلت أب فقد أثبته وأثبت له الولد ، وإذا قلت : أخ أثبته وأثبت له الأخت . ومنها : اسم الجنس : وهو إسم واحد ويدل على أشياء كثيرة ، كقولك : حيوان ، وناس ونحوهما . { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } سجدة تعظيم وتحية لا سجود صلاة وعبادة ، نظيره قوله في قصة يوسف : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } [ يوسف : 100 ] وكان ذلك تحيّة الناس ، ويُعظم بعضهم بعضاً ، ولم يكن وضع الوجه على الأرض [ وإنما ] كان الإنحناء والتكبير والتقبيل . فلما جاء الإسلام بطّل ذلك بالسّلام . وفي الحديث " إنّ معاذ بن جبل رجع من اليمن فسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيّر وجه رسول الله فقال : ما هذا ؟ قال : رأيت اليهود يسجدون لأحبارهم والنصارى يسجدون لقسّيسيهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مه يا معاذ كذب اليهود والنصارى إنّما السجود لله تعالى " . وقال بعضهم : كان سجوداً على الحقيقة جُعل آدم قبلة لهم والسجود لله ، كما جُعلت الكعبة قبلة لصلاة المؤمنين والصلاة لله تعالى . قال ابن مسعود : أمرهم الله تعالى أنْ يأتوا بآدم فسجدت الملائكة وآدم لله ربّ العالمين . وقال أُبيّ بن كعب : معناه : أقروا لآدم إنّه خير وأكرم عليّ منكم فأقروا بذلك ، والسجود على قول عبدالله وأُبيّ بمعنى الخضوع والطاعة والتذلل ، كقول الشاعر : @ ترى الأكم فيه سجّداً للحوافر @@ وآدم على وزن افعل . فلذلك لم يصرقه . السّدي عمّن حدّثه عن ابن عباس قال : إنّما سمّي آدم لأنّه خلق من أديم الأرض ، ومنهم من قال : سُمّي بذلك لأنه خلق من التراب ، والتراب بلسان العبرانية آدم ، وبعضهم من قال : سُمّي بذلك لأدمته لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد وأبو البشر . سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : ليس في الجنة أحد يُكنّى إلاّ آدم فإنّه يُكنى أبا محمد . وقرأ العامة : { لِلْمَلاَئِكَةِ } بخفض التاء ، وقرأ أبو جعفر بضم التاء تشبهاً لتاء التأنيث بألف الوصل في قوله : { ٱسْجُدُواْ } لأنّ ألف الوصل يذهب في الوصل ولأنّها زائدة غير أصلية ، وكذلك تاء التأنيث زائدة غير أصلية ، ولا ثابت جواب ألف اسجدوا . وقيل : كره ضمّة الجيم بعد كسرة التاء ؛ لأنّ العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها ، وهي قراءة ضعيفة جداً وأجمع النحاة على تغليطه فيها . { فَسَجَدُواْ } يعني الملائكة . { إِلاَّ إِبْلِيسَ } وكان اسمه عزازيل ، فلمّا عصى غيّرت صورته وغيّر اسمه فقيل إبليس ؛ لأنّه أُبلس من رحمة الله ، كما يقال : يا خبيث ويا فاسق ، وهو منصوب على الاستثناء ، ولا يصرف لاجتماع العجمة والمعرفة . { أَبَىٰ } أي امتنع ولم يسجد . { وَٱسْتَكْبَرَ } أي تكبّر وتعظّم عن السجود { وَكَانَ } أي فصار { مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } [ هود : 43 ] . وقال أكثر المفسّرين : معناه فكان في علمه السابق من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة . الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان عنه يبكي فيقول : يا ويلتي أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنّة ، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النّار " . زياد بن الحصين عن أبي العالية قال : لمّا ركب نوح السفينة إذا هو بابليس على كوثلها فقال له : ويحك قد شقّ أناس من أجلك ، قال : فما تأمرني ؟ قال : تب ، قال : سل ربّك هل لي من توبة ؟ قال : فقيل له أنّ توبته أن يسجد لقبر آدم ، قال : تركته حيّاً واسجد له ميّتاً . { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } وذلك أن آدم عليه السلام كان في الجنّة وحِشاً ولم يكن له من يُجالسه ويؤانسه ، فنام نومة فخلق الله تعالى زوجته من قصيراه من شقّه الأيسر من غير أن يحسّ آدم بذلك ولا وجد له ألماً ولو ألم من ذلك لما عطف رجلٌ على امرأة ، فلمّا هبّ آدم من نومه إذا هو بحواء جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله تعالى ، فقال لها : من أنت ؟ قالت أنا زوجتك خلقني الله لك لتسكن إليّ وأسكن إليك . فقالت الملائكة عند ذلك امتحاناً لعلم آدم : يا آدم ما هذه ؟ قال : امرأة ، قالوا : ما اسمها ؟ قال : حوّاء ، قالوا : لمَ سمّيت حوّاء ؟ قال : لأنها خلقت من حيّ ، قالوا : تحبّها يا آدم ؟ قال : نعم ، فقالوا لحوّاء : أتحبّينه ؟ قالت : لا ، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حُبّه ، قالوا : فلو صدقت امرأة في حبّها لزوجها لصدقت حوّاء . مسألة : قالت القدرّية : إنّ الجنّة التي أسكنها الله آدم وحوّاء لم تكن جنّة الخلد وإنما كان بستاناً من بساتين الدنيا ، واحتجّوا بأن الجنة لا يكون فيها إبتلاء وتكليف . والجواب : إنّا قد أجمعنا على أنّ أهل الجنّة مأمورون فيها بالمعرفة ومكلّفون بذلك . وجواب آخر : إنّ الله تعالى قادر على الجمع بين الأضداد ، فأرى آدم المحنة في الجنّة وأرى إبراهيم النعمة في النار لئلاّ يأمن العبد ربّه ولا يقنط من رحمته وليعلم أنّ له أن يفعل ما يشاء . واحتجّوا أيضاً بأنَّ من دخل الجنة يستحيل الخروج منها ، قال الله تعالى : { وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [ الحجر : 48 ] . والجواب عنه : إنّ من دخلها للثواب لا يخرج منها أبداً ، وآدم لم يدخلها للثواب ، ألا ترى أنّ رضوان خازن الجنة يدخلها ثم يخرج منها ، وإبليس أيضاً كان داخل الجنّة وأُخرج منها . { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } واسعاً كثيراً . { حَيْثُ شِئْتُمَا } : كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما . { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } قال بعض العلماء : وقع النهي على جنس من الشجر . وقال آخرون : بل وقع على شجرة مخصوصة واختلفوا فيها ، فقال علي بن أبي طالب ( كرم الله وجهه ) : هي شجرة الكافور . وقال قتادة : شجرة العلم وفيها من كلّ شيء . ومحمد بن كعب ومقاتل : هي السنبلة . وقيل : هي الحَبْلَة وهي الأصلة من أصول الكرم . أبو روق عن الضحّاك : أنها شجرة التين . { فَتَكُونَا } فتصيرا { مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } لأنفسكما بالمعصية ، وأصل الظلم : وضع الشيء في غير موضعه . { فَأَزَلَّهُمَا } يعني [ استمال ] آدم وحوّاء فأخرجهما ونحّاهما . وقرأ حمزة : ( فأزالهما الشيطان ) وهو إبليس ، وهو فيعال من شطن أي بعد . وقيل : إنه من شاط والنون فيه غير أصلية [ ونودي ] شيطان سمّي بذلك لتمرّده وبعده عن الخير وعن رحمة الله تعالى . { عَنْهَا } عن الجنة وقيل عن الطاعة . { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } من النعيم ، وذلك إن إبليس أراد أن يدخل الجنّة ويوسوس لآدم ولحواء فمنعته الخزنة ، فأتى الحيّة وكانت من أحسن الدّواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكان من خزّان الجنّة وكان لأبليس صديقاً ، فسألها أن تدخله في فمها فأدخلته في فمها ومرّت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة ، وكان آدم لما دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم والكرامة قال : لو أن خلداً ، فأغتنم الشيطان ذلك منه وأتاه من قبل الخلد ، ولما دخل الجنة وقف بين يدي آدم وحوّاء لا يعلمان إنه إبليس ، فناح عليهما نياحةً أحزنهما وبكى وهو أوّل من ناح فقالا لِمَ تبكي قال : أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعيم والكرامة ، فوقع ذلك في أنفسهما وإغتمّا ، ومضى ثم أتاهما بعد ذلك وقال : { وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ } [ طه : 120 ] ، فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين ، فأغترّا وما كانا يظنّان أنّ أحداً يحلف بالله كاذباً ، فبادرت حوّاء الى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها . وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن قسط قال : سمعت سعيد بن المسيّب يحلف بالله ما يستثني : ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حوّاء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته اليها فأكل ، فلمّا أكلا تهافتت عنهما ثيابهما وبدت سوءاتهما وأخرجا من الجنة ، وذلك قوله تعالى : { وَقُلْنَا } يعني لآدم وحوّاء وابليس والحية { ٱهْبِطُواْ } أي أنزلوا الى الأرض { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نودة ، وقيل : واشم ، وحوّاء بجدّة ، وإبليس بالأبلّة وقيل بميسان ، والحيّة بأصفهان . { وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ } بلغة ومستمتع . { إِلَىٰ حِينٍ } الى حين اقتضاء أجالكم ومنتهى أعماركم . وعن إبراهيم بن الأشعث قال : سمعت إبراهيم بن أدهم : أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلا . { فَتَلَقَّىٰ } فلُقّن . { ءَادَمُ } حفّظ حين لقّن ، وأُفهم حين ألْهِمَ . وقرأ العامّة : آدمُ برفع الميم ، كلمات بخفض التّاء . وقرأ ابن كثير : بنصب الميم ، بمعنى جاءت الكلمات لآدم عليه السلام . { مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } كانت سبب قبول توبته ، واختلفوا في تلك الكلمات : قال ابن عباس : هي أنّ آدم قال : يا ربّ ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تنفخ فيّ من روحك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تسبق رحمتك بي غضبك ؟ قال : بلى ، قال : ألم تسكنّي جنتك ؟ قال : بلى ، قال : فلِمَ أخرجتني منها ؟ قال : بشؤم معصيتك ، قال : أي ربّ أرأيت لو تبت [ وأصلحت ] أراجعي أنت الى الجنة ؟ قال : بلى . قال : فهو الكلمات . قال عبيد بن عمير : هو أنّ آدم قال : يا ربّ أرأيت ما أتيت ، أشيء ابتدعته على نفسي أم شيء قدّرته عليَّ قبل أن تخلقني ؟ قال : بل شيٌ قدّرته عليك قبل أن أخلقك ، قال : يا ربّ كما قدّرته عليَّ فأغفر لي . همام بن منبّه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تحاجّ آدم وموسى ، فقال له موسى : أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنّة الى الأرض ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي أعطاك الله علم كلّ شيء واصطفاك على الناس برسالته ؟ قال : نعم . قال : أتلومني على أمر كان قد كتب عليّ أن أفعله من قبل أن أخلق . قال : فحجّ آدم موسى " . وقال محمد بن كعب القرظي : هي قوله : لا اله الاّ أنت سبحانك وبحمدك قد عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنّك أنت التواب الرحيم ، لا اله الاّ أنت سبحانك وبحمدك قد عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنّك أنت الغفور الرحيم ، لا اله الاّ أنت سبحانك وبحمدك ربّ عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني انّك أنت أرحم الراحمين . عكرمة عن سعيد بن جبير في قوله : { فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } قالا : قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، وكذلك قاله الحسن ومجاهد . وقال بعضهم : نظر آدم عليه السلام الى العرش فرأى على ساقه مكتوباً لا اله الاّ الله محمد رسول الله أبو بكر الصدّيق عمر الفاروق فقال : يا ربّ أسألك بحقّ محمد أنْ تغفر لي فغفر له . وقيل : هذا التأويل ما روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرّج بيّ الى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً لا إله إلاّ الله محمد رسول الله أبو بكر الصدّيق عمر الفاروق " . وقيل : هي ثلاثة أشياء : الخوف ، الرجاء ، البكاء . أبو بكر الهذلي عن شهر بن حوشب قال : بلغني أنّ آدم لما أهبط الى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياءاً من الله تعالى . وقال ابن عباس : بكاء آدم وحوّاء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً ، ولم يقرب آدم [ حواء ] مائة سنة . { فَتَابَ عَلَيْهِ } فتجاوز عنه { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ } يقبل توبة عباده { ٱلرَّحِيمُ } بخلقه . { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا } يعني آدم وحواء ، وقيل : آدم وحوّاء وابليس والحيّة { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } يا ذرّية آدم { مِّنِّي هُدًى } كتاب ورسول . { فَمَن تَبِعَ } هداي . { هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } : فيما يستقبلهم { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } : على ما خلّفوا . { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ } جحدوا . { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } يعني القرآن . { أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } لا يخرجون منها ولا يموتون فيها .