Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 35-35)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهذا أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسألهم سؤالاً جديداً ، لا إجابة له إلا ما يفرضه الواقع ، والواقع يؤكد أن الهداية لا تكون إلا للحق لأن كل كائن مخلوق لغاية ، فلا شيء يُخلق عبثاً . ونحن بقُدرتنا المحدودة نصنع الميكرفون والتليفزيون أو الثلاجة أو السرير وغيرها ، كلّ منها له غاية ، وكل له قوانين صيانته الخاصة به ، والذي يحدِّد الغاية من هذا المصنوع أو ذاك هو صانعه ، ويضع لها قوانين صيانتها لتؤدّي غايتها ، فالغاية من أي شيء توجد قبل الشيء نفسه ليوجد الشيء على مقتضى الغاية منه . وآفة العالم الآن أنهم يعلمون أن الله سبحانه خلق الإنسان ، ولكنهم يصنعون من عندهم قوانين لصيانة الإنسان وحركة الإنسان ، وهذا غباء وغفلة من الذين يفعلون ذلك ، كان عليهم أن يتركوا أمر صيانة الإنسان للقوانين التي وضعها خالق الإنسان سبحانه . فالحق سبحانه وتعالى قد حدد الغاية من خَلْق الإنسان وحدّد قوانين صيانته ، والشر الموجود حالياً بسبب الجهل بغاية الإنسان ، والعدول عن المنهج الذي يجب أن يسير عليه الإنسان ، فقال الحق سبحانه : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ … } [ يونس : 35 ] . أي : هل من هؤلاء الشركاء مَنْ يهدي الإنسان إلى غايته ؟ هل قالت الشمس - مثلاً - غايتها ؟ هل قالت الملائكة غايتها ؟ هل قالت الأشجار أو الأحجار أو الرسل الذين عبدتموهم شيئاً غير مراد الله تعالى ؟ إنهم آلهة لا يعرفون الغاية من العابد لهم ، ولا يعرفون الطريق الموصل إلى تلك الغاية . ولذلك يأتي القول الفصل : { قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ … } [ يونس : 35 ] . فالله هداك أيها الإنسان إلى الحق في كل حركة تتحركها بالمنهج الذي أنزله الله سبحانه مكتملاً على رسوله صلى الله عليه وسلم من بدء " لا إله إلا الله " إلى إماطة الأذى عن الطريق ، وهو منهج مستوعب مستوفٍ لكل حركات الإنسان . وجاءت الإجابة من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لأنهم انبهروا بالسؤال وتلجلجوا ولم يوجد عند أي منهم قدرة على المعارضة ، فالغاية من خلق الإنسان وغيره يوجزها قول الحق سبحانه : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . والعبادة ليست أركان الإسلام فقط ، بل هي عمارة الكون كبنيان حيّ للإسلام ، والذي حدد الغاية هو الخالق سبحانه ، وهو سبحانه الذي يحدد طريق الوصول إليها . ونحن حين نرغب في الوصول إلى مكان في الصحراء مثلاً ، إنما نحدد أولاً المكان ، ونختار طريق الوصول ، فإن كان الطريق المستقيم مليئاً بالعقبات والجبال ، فإنك ستضطر للانحراف عن هذا الطريق وصولاً إلى غايتك ، فهذا الطريق المعوج هو الطريق المستقيم لأنه الطريق الذي يجنبنا العقبات . ومثال ذلك : السيول التي تنزل على هضباب الحبشة ، فاختارت لنفسها المجرى السهل فكان نهر النيل ، فلا أحد قد حفر النيل مثلما حفرنا الرياحات أو قناة السويس ، بل نزل السيل واختار لنفسه الطريق السهل فسار فيه بين التعاريج والرمال والصخور . ولذلك أنت تجد كل ما لا دخل للبشر به قد يتعرج لينفذ ، أما ما صنعه البشر فلا يستطيع ذلك . وكل خلق لا بد له من غاية لذلك نجد سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام يقول : { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] . فمن خلق هو الذي يحدد الغاية لأن هذه الغاية توجد عنده أولاً ليخلق ، وتتجلى الدقة في قول القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام ، فلم يقل : الذي خلقني يهديني ، بل قال : { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } مما يدل على أن هذه القضية ستخالَف ، وبعد أن يخلق الإنسان سيقوم بعض الناس - حماية لمصالحهم - بوضع طريق أخرى تخالف الغاية فتوصل إلى الضلال . أما الحق سبحانه فقد أنزل القرآن فيه الهداية الحقة ، فالذي خلق هو الذي يقنن ، ولذلك يذكر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام : { وَٱلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } [ الشعراء : 79 ] . وبهذا القول وصل سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى أن الذي رزق الآباء قدرة استنباط الرزق مطعماً ومشرباً هو الله سبحانه . وذكر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام : { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ الشعراء : 81 ] . فالإماتة والإحياء هما من الحق سبحانه ، فلا أحد يسأل عمن يملك الإماتة والإحياء ، أما عن شفاء المرض فقال : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] . فأنت قد تذهب إلى الطبيب وتظن أنه هو الذي يشفيك بل هو يعالج ، ولكن الله هو الذي يشفي . وهكذا نعلم أن قول سيدنا إبراهيم عليه السلام : { ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] . هو كلام منطقي لأن خالق الشيء هو الذي يهدي إلى الغاية من الشيء فالغاية أولاً ، ثم الخلق ، ثم توضيح الطريق الموصل إلى تلك الغاية ، فإذا خولف في شيء من ذلك فلا صلاح لكون أبداً . وتجد في القرآن على لسان سيدنا موسى عليه السلام : { قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] . فما دام الحق سبحانه قد خلق فهو يهدي إلى السبيل الموصل إلى الغاية ، ويقول القرآن أيضاً : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ * ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [ الأعلى : 1ـ3 ] . وهكذا يتأكد لنا أنه ما دامت هناك غاية ، فلا بد من وجود طريق يهدينا إليه من خَلَقَنَا . وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه : { قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ … } [ يونس : 35 ] لأنه سبحانه هو الذي خلق ولذلك فمن المنطقي أن يأتي بعد ذلك التساؤل : { أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ … } [ يونس : 35 ] ؟ وسبب وجود اللام في قوله : { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } هو النظرة إلى الغاية ، وسبب وجود : { إِلَى ٱلْحَقِّ } هو لفت الانتباه إلى أن الوصول إلى الغاية يقتضي طريقاً ، فأراد الحق سبحانه في آية واحدة أن يجمع التعبيرين معاً . ونحن نعلم أن هذه الآية قد نزلت في الذين اتخذوا لله شركاء ، فهم يعترفون بالله تعالى ولكنهم يشركون به غيره ، فالله سبحانه وتعالى تفرَّد بالألوهية بربوبيته للخلق لأنه خلق من عَدَمٍ ، ورزق من عُدْمٍ ، وخَلَق لنا وسائل العلم ودبَّر لنا الأمر ، وأخرج الحي من الميت ، وأخرج الميت من الحي ، وهدى للحق . فأين - إذن - هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم مع الله تعالى ؟ وهل صنع واحد منهم أو كُلُّهم مجتمعين شيئاً واحداً من تلك الأشياء ؟ لذلك قال سبحانه : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ … } [ يونس : 35 ] . إذن : فالذي يهدي هو الذي خَلَق ، وهؤلاء الذين أشركوا اعترفوا بالله خالقاً بشهاداتهم حين قال الحق سبحانه : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ … } [ الزخرف : 87 ] . إذن : فالذين أشركوا قد ارتكبوا الإثم العظيم ، وهؤلاء الشركاء إما أن يكونوا من الملائكة ، أو من الأنبياء والرسل الذين فُتن بهم بعض الناس ، وهناك من اتخذ وسائط أخرى مثل : الشمس والقَمر والنجوم وهذه أشياء عُلوية ، وبعض الناس اتخذوا وسائط سفلية كالأشجار والأحجار ، فهل أي شيء من كل ذلك يهدي إلى الحق ؟ وما منهج أي منهم إذن ؟ وكيف بلَّغوكم به ؟ إن كل هؤلاء يعلمون أن أيّاً منهم لا يستطيع أن يَهدي ، بل هو يُهْدَى من الله سبحانه وتعالى ، فمن أين قلتم إن الملائكة ستهديكم ؟ أو من أين جاء الذين فُتنوا برسولهم واتخذوه إلهاً ؟ ومن أين جاء هذا الرسول بمنهجه ؟ إن كل كائن لا يَهدي إلا بعد أن يُهدى من الله أولاً ، وإن كانت الأشياء - المتخذة شركاء - لا هداية لها ، ولا منهج ، ولا عقل ، ولا تفكير ، كالشمس والقمر والنجوم في العلويات ، والأشجار والأحجار في السفليات ، فماذا قالت هذه الأشياء ؟ إنها لم تقل شيئاً . وهكذا لا يستقيم أمر اتخاذهم شركاء مع الله ، حتى الملائكة ، فالله هو الذي يختار منهم المَلَكَ الذي يُبلِّغ عن الله سبحانه ، وكذلك الرسل عليهم السلام : { أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ … } [ يونس : 35 ] . { لاَّ يَهِدِّيۤ } تقرأ هكذا ، وللغة فيها عملية تخفيف جَرْس لسلامة نطقها واستقامة اللغة العربية ، فنحن نعرف أن { يَهِدِّيۤ } يعنى : يهتدي … أصلها يهتدي … ويهتدي فيها هاء ساكنة وتاء ودال وياء … وفيها تقارب لمخارج الحروف ، وهذا التقارب يجعل المعنى غائماً ، والنطق ثقيلاً ، فتقوم اللغة بعملية إبدال وإدغام ، وتخلّص من التقاء الساكنين فتصل إلى مسامعنا كما أنزلها الله تعالى لسلامة النطق وجمال المعنى لأن القرآن أدَّب اللغة بكلام السماء لتكون خالدة اللفظ والمعنى . فإذا كنتم على طريق هداية ، فالأصل في الهداية هو الله تعالى . ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله : { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ … } [ يونس : 35 ] . أي : ماذا أصاب عقولكم لتحكموا هذا الحكم فتشركوا بالله ما لا منهج له ، أو له منهج ولكنه موصول بالله تعالى جاء ليبلغه لهم ؟ وساعة تسمع { كَيْفَ } فهي للاستفسار عن عملية عجيبة ما كان - في عُرْف العاقل - أن تحدث . كأن تقول : " كيف ضربت أباك ؟ " أو " كيف سببت أمك ؟ " ، وهذا كله من الأمور التي تأباها الفطرة ويأباه الطبع والدين . وقوله سبحانه : { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } كأنه أمر عجيب ما كان يصح أن يحدث لأن الحق سبحانه وحده هو الإله ، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغيَّر غاية وطريقاً . والله سبحانه وحده هو الذي حدد لنا الغاية والطريق الموصل إليها ، وهو سبحانه القائل : { وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ … } [ يونس : 25 ] . والمنهج هو الطريق الذي يوصل إلى دار السلام من آفة الأغيار لأن الدنيا كلها أغيار ، فأنت قد تكون قوياً ثم تضعف أو صحيحاً فيصيبك المرض ، أو غنياً فتفتقر ، أو مبصراً فيضيع منك بصرك ، أو تكون صحيح الأذن سمعياً فتصير أصم بعد ذلك . إذن : فهي دنيا أغيار ، وهَبْ أن إنساناً أخذ من دنياه كل نصيبه عافية وأمناً وسلامةً وغنًى وكل شيء سنجده في قلق من جهتين : الجهة الأولى أنه يخاف أن يفارقه كل هذا النعيم ، أو يخاف أن يترك هو هذا النعيم ، هذا ما نراه في حياتنا . إذن : فالدنيا بما فيها من أغيار لا أمان لها لنفهم أن كل عطاءات المخلوق إنما هي هبة من الخالق سبحانه وتعالى لأنها لو كانت من ذاتك لاستطعت الحفاظ عليها ، ولكنها هِبَاتٌ من الحق الأعلى سبحانه . والأمر الموهوب قد يصبح مسلوباً . ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً … } .