Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 54-54)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وساعة يأتي العذاب فالإنسان يرغب في الفرار منه ، ولو بالافتداء . وانظر كيف يحاول الإنسان أن يتخلص من كل ما يملك افتداء لنفسه ، حتى ولو كان يملك كل ما في السماوات وما في الأرض . ولكن هل يتأتى لأحد - غير الله سبحانه - أن يملك السماوات والأرض ؟ طبعاً لا . إذن : فالشر لا يتأتَّى . وهَبْ أنه تأتَّى ، فلن يصلح الافتداء بملك ما في السماوات وما في الأرض لأن الإنسان الظالم في الدنيا قد أخذ حق الغير ، وهذا الغير قد كسب بطريق مشروع ما أخذه الظالم منه ، والظالم إنما يأخذ ثمرة عمل غيره ، ولو صحَّ ذلك لتحوَّل البعض إلى مغتصبِين لحقوق الغير ، ولأخذوا عرق وكدح غيرهم ، ولتعطلت حركة الحياة . ولذلك إن لم يردع الله - سبحانه وتعالى - الظالم في الدنيا قبل الآخرة لاستشرى الظلم ، وإذا استشرى الظلم في مجتمع ، فالبطالة تنتشر فيه ، ويحاول كل إنسان أن يأخذ من دم وعرق غيره ، وبهذا يختلّ ميزان العدل وتفسد حركة الحياة كلها . وهَبْ أن الظالم أخذ مُلْك الدنيا كلها ، وأراد أن يفتدى به نفسه ساعة يأتي العذاب ، ويفاجأ بأن كسبه من حرام لا يُقْبَل فداءً ، أليس هذا هو الخسران الكبير ؟ وهذه ظاهرة موجودة في دنيا الناس . وهَبْ أن واحداً ارتشى أو اختلس أو سرق ، ويفاجئه القانون ليمسكه من تلابيبه فيقول : خذوا ما عندي واتركوني . ولن يقبل القائمون على القانون ذلك . وإن كان مثل هذا التنازل يحدث في الجمارك فنرى من يتنازل عن البضائع المهربة مقابل الإفراج عنه ، هذا ما يحدث في الدنيا ، لكنه لن يحدث في الآخرة . وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } [ البقرة : 48 ] . وقال الحق سبحانه في آية أخرى : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ البقرة : 123 ] . وقال بعض المشككين أن الآيتين متشابهتان ، ولم يلتفتوا إلى أن كل آية تختلف عن الأخرى في التقديم للعدل ، والتأخير للشفاعة . والبلاغة الحقَّة تتجلَّى في الآيتين لأن القارىء لصَدْر كل آية منهما ، والفاهم للمَلَكه اللغوية العربية أن عَجُز كل آية يناسب صدرها . ومن يقرأ قول الحق سبحانه : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ … } [ البقرة : 48 ] . يرى أنه أمام نفسين : النفس الأولى هي التي تقدِّم الشفاعة ، والنفس الثانية هي المشفوع لها . والشفاعة هنا لا تُقبل من النفس الأولى الشافعة ، وكذلك لا يُقبل العدل . وفي الآية الثانية لا تُقبل الشفاعة ولا العدل من النفس المشفوع لها ، فهي تحاول أن تقدم العدل أولاً ، ثم حين لا ينفعها تأتي بالشفيع . وهكذا جاء التقديم والتأخير في الآيتين مناسباً للموقف في كل منهما . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ … } [ يونس : 54 ] . وفي هذا القول تعذُّرِ ملْك النفس الواحدة لكل ما في الأرض ، ولو افترضنا أن هذه النفس ملكته فلن تستطيع الافتداء به وتكون النتيجة هي ما يقوله الحق سبحانه : { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ … } [ يونس : 54 ] . أي : أخفوا الحسرة التي تأتي إلى النفس ، وليس لها ظاهر من انزعاج لفظي أو حركي . إن كلاّ منهم يكتم هَمَّه في قلبه لأنه ساعة يرى العذاب ينبهر ويُصعَق ويُبهَت من هول العذاب ، فتجمد دماؤه ، ولا يستطيع حتى أن يصرخ ، وهو بذلك إنما يكبت ألمه في نفسه لأن هول الموقف يجمِّد كل دم في عروقهم ، ويخرس ألسنتهم ، ولا يستطيع أن ينطق لأنه يعجز عن التعبير الحركي من الصراخ أو الألم . ونحن نعلم أن التعبير الحركي لون من التنفيس البدني ، وحين لا يستطيعه الإنسان ، فهو يتألم أكثر . هم - إذن - يُسرُّون الندامة حين يرون العذاب المفزع المفجع ، والكلام هنا عن الظالمين ، وهم على الرغم من ظلمهم ، فالحق سبحانه يقول : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ يونس : 54 ] . وهؤلاء رغم كفرهم واستحقاقهم للعذاب يلقون العدل من الله ، فَهَبْ أن كافراً بالله بمنأى عن الدين ظلم كافراً آخر ، أيقف الله سبحانه من هذه المسألة موقفاً محايداً . لا لأن حق خَلْق الله سبحانه - الكافر المظلوم - يقتضي أن يقتص الله سبحانه له من أخيه الكافر الظالم لأن الظالم الكافر ، إنما ظلم مخلوقاً لله ، حتى وإن كان هذا المظلوم كافراً . ولذلك يقضي الله بينهم بالحق ، أي : يخفِّف عن المظلوم بعضاً من العذاب بقدر ما يثقله على الظالم . هذا هو معنى { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } لأنها تتطلب قضاء ، أي : عدم تحيز ، وتتطلب الفصل بين خصومتين . ويترتب على هذا القضاء حكم لذلك يبين لنا الحق سبحانه أنهم - وإن كانوا كافرين به - إلا أنه إن وقع من أحدهم ظلم على الآخر ، فالحق رب الجميع وخالق الجميع ، كما أعطاهم بقانون الربوبية كل خير مثلما أعطى المؤمنين ، فهو سبحانه الذي أعطى الشمس ، والماء ، والهواء ، وكل وسائل الرزق والقُوت لكل الناس - مؤمنهم ، وكافرهم - فإذا ما حدث ظلم بين متدينين بدين واحد ، أو غير متدينين ، فلا بد أن يقضي فيه الحق سبحانه بالفصل والحكم بالعدل . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } .