Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 57-57)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والخطاب هنا للناس جميعاً لأن الحق سبحانه حين يخاطب المؤمنين بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } [ البقرة : 104 ] . فهذا خطاب لمن آمن بالمنهج . والحق سبحانه وتعالى يخاطب الناس كافّةً بأصول العقائد ، مثل قول الحق سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ … } [ النساء : 1 ] . أما المؤمنون فسبحانه يكلّفهم بخطابه إليهم ، من مثل قول الحق سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ … } [ البقرة : 183 ] . ومثل قول الحق : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى … } [ البقرة : 178 ] . أي : أن خطابه سبحانه للمؤمنين يكون دائماً في الأحكام التي يخطاب بها المؤمنين ، أما في أصول العقائد والإيمان الأعلى بالواجد الموجِد ، فهذا يكون خطاباً للناس كافة . والحق سبحانه يقول هنا : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ … } [ يونس : 57 ] . والأية هنا تصوِّر الموعظة وكأنها قد تجسَّدت وصار لها مجيء ، رغم أن الموعظة هي كلمات ، وأراد الله تعالى بذلك أن يعطي للموعظة صورة الحركة التي تؤثِّر وتحضُّ على الإيمان . والموعظة هي الوصية بالخير والبعد عن الشر بلَفْظ ٍمؤثِّر ، ويقال : فلان واعظ متميز ، أي : أن كلامه مستميل وأسلوبه مؤثر وجميل ، والموعوظ دائماً أضعف من الواعظ ، وتكون نفس الموعوظ ثقيلة ، فلا تتقبل الموعظة بيسر إلا ممن يجيد التأثير بجمال الكلمة وصدق الأداء لأن الموعوظ قد يقول في نفسه : لقد رأيتني في محل دونك وتريد أن ترفعني ، وأنت أعلى مني . فإذا قدَّر الواعظ هذا الظرف في الموعوظ فهو يستميل نفسه . ولنتذكر الحكمة التي تقول : " النصح ثقيل ، فلا تجعلوه جَدَلاً ، ولا ترسلوه جَبَلاً ، واستعيروا له خِفَّة البيان " وذلك لتستميل أذن السامع إليك فتأتي له بالأسلوب الجميلَ المقنع الممتع الذي يعجبه ، وتلمس في نفسه صميم ما ترغب أن يصل إليه . والموعظة تختلف عن الوصية لأن الوصية عادة لا تتأتى إلا في خلاصة حكمة الأشياء ، وهَبْ أن إنساناً مريضاً وله أولاد ، وحضرته الوفاة ، فيقولم بكتابة وَصِيَّته ، ويوصيهم بعيون المسائل . والحق سبحانه يقول هنا : { قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ … } [ يونس : 57 ] . والموعظة إما أن تسمعها أو ترفضها ، ولأنها موعظة قادمة { مِّن رَّبِّكُمْ } فلا بد من الالتفات والانتباه ، وملاحظة أن الحق سبحانه قد اختص الموعظة بأنها من الرب ، لا من الإله لأن الإله يريدك عابداً ، لكن الرب هو المربِّي والكفيل ، وإن كفرت به . وهذه الموعظة قادمة من الرب ، أي : أنها من كمالات التربية ، ونحن نعلم أن متعلقات الربوبية تتوزع ما بين قسمين : القسم الأول هو مقوِّمات الحياة التي يعطيها الحق سبحانه من قُوت ورزق - وهذه المقومات للمؤمن ، وللكافر - والقسم الآخر هو مقومات القيم التي ترسم منهج حركة الحياة ، وهذه للمؤمن فقط . إذن : فالموعظة هي نوع من التربية جاءت من ربكم المأمون عليكم لأنه هو الذي خَلَق من عَدَم وأمَدّ من عُدْم ، ولم يختص بنعمة الربوبية المؤمنين فقط ، بل شملت نعمته كل الخلق . إذن : فالموعظة تجيء ممن يُعطي ولا ينتظر منك شيئاً ، فهو سبحانه مُنزَّه عن الغرض لأنه لن ينال شَيئاً منك فأنت لا تقدر على شيء مع قدرته سبحانه . والموعظة القادمة بالمنهج تخصُّ العقلاء الراشدين لأن حركة العاقل الراشد تمر على عقله أولاً ، ويختار بين البدائل ، أما حركة المجنون فهي غير مرتَّبة ولا منسَّقة ، ولا تمر على عقله لأن عقله مختل الإدراك وفاقد للقدرة على الاختيار بين البدائل . ولكن لماذا يُفسِد العاقل الاختيار بين البدائل ؟ إن الذي يفسد حركة اختيار العاقل هو الهوى ، والهوى إنما ينشأ مما في النفس والقلب ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها : { قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ … } [ يونس : 57 ] . أي : أنه سبحانه قد أنزل عليكم ما يشفي صدوركم من غِلّ يؤثر في أحكامكم ، وحقد ، وحسد ، ومكر ، ويُنقِّي باطن الإنسان لأن أي حركة من حركات الإنسان لها نبع وجداني ، ولا بد أن يُشفى النبع الوجداني ليصحَّ حتى تخرج الحركات من الجوارح وهي نابعة من وجدان طاهر مُصفّى وسليم وبذلك تكون الحركات الصادرة من الإنسان سليمة . ولذلك قال الحق سبحانه : { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] . وجاءت كلمة " الشفاء " أولاً ، لتبيِّن أن الهداية الحقَّة إلى الطريق المستقيم تقتضي أن تُخْرِج ما في قلبه من أهواء ، ثم تدلَّه إلى المنهج المستقيم . وإن سأل سائل عن الفارق بين الشفاء والرحمة ؟ نجيب : إن الشفاء هو إخراج لما يُمْرِض الصدور ، أما الرحمة فهي اتْباع الهداية بما لا يأتي بالمرض مرة أخرى ، واقرأ إن شئت قول الحق سبحانه : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] . وهكذا يتبيَّن لنا أثر الموعظة : شفاء ، وهدى ، ورحمة ، إنها تعالج ليس ظواهر المرض فقط ، ولكن تعالج جذور المرض . إذن : فشفاء الصدور يجب أن يتم أولاً لذلك نجد الطبيب الماهر هو من لا ينظر إلى ظواهر المرض فقط ليعالجها ، ولكنه يبحث عما خلف تلك الظواهر ، على عكس الطبيب غير المدرَّب العَجُول الذي يعالج الظواهر دون علاج جذور المرض . ومثال ذلك : طبيب الأمراض الجلدية غير الماهر حين يرى بثوراً فهو يعالجها بما يطمسها ويزيلها مؤقَّتاً ، لكنها تعود بعد قليل ، أما الطبيب المدرَّب الفاهم فهو يعالج الأسباب التي تُنتج البثور ، ويزيلها بالعلاج الفعَّال فيقضي على أسباب ظهورها . وفي القرآن الكريم نجد قصة ابتلاء سيدنا أيوب عليه السلام ، فقد قال له الحق سبحانه : { ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ ص : 42 ] . أي : اضربْ برجلك ذلك المكان يخرجْ لك منه ماء بارد ، تغتسل منه فيزيل الأعراض الظاهرة ، وتشرب منه ليعالج أصل الداء . إذن : فالموعظة وكأنها تجسَّدت ، فجاءت من ربكم - المأمون عليكم - شفاءً حتى تعالج المواجيد التي تصدر عنها الأفعال ، وتصبح مواجيد سليمة مستقيمة ، لا تحلُّل فيها ، وهدى إلى الطريق الموصِّل إلى الغاية الحقَّة ، ورحمة إن اتبعها الإنسان لا يُصَابُ بأيِّ داءٍ ، وهذه الموعظة تؤدي إلى العمل المقبول عند الله سبحانه . ولكن إنْ صحَّتْ لك الأربعة النابعة من الموعظة : الشفاء ، والهدى ، والرحمة والعمل الصالح ، فإيّاك أن تفرح بذلك ففوق كل ذلك فضل الله عليك ولذلك يقول الحق سبحانه : { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ … } .