Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 67-67)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وشاء الحق سبحانه بعد أن بيَّن الإيمان والمؤمنين ، وما يمكن أن يدَّعيه الكافرون في نبيِّ الرسالة ، وبعد أن بيَّن المنهج ، ها هو سبحانه يأتي بالكلام عن آياته سبحانه في الكون تأييداً للمطلوب بالموجود . فالمطلوب أن نؤمن برسول يبلِّغ منهجاً عن الله ليكون هذا المنهج نافعاً لنا ، وإنْ أراد أحد دليلاً على ذلك فلينظر إلى الآيات التي وجدت للإنسان من قبل أن يُكلِّف ، أهي في مصلحته أم غير مصلحته ؟ وما دامت الآيات الموجودة في الكون - والمسخَّرة للإنسان - تفيد الإنسان في حياته ، فلماذا لا يشكر من أعطاه كل تلك النعم ، وقد أعطى الحق - سبحانه وتعالى - الإنسان من قبل التكليف الكثير من النعم ، وفور أن يصل إلى البلوغ يصير مكلَّفاً . إذن : فالله سبحانه لم يكلِّف أحداً إلا بعد أن غمره بالنعم النافعة له باعتقاد من العبد وصدق من الواقع . فإذا ما جاء لك التكليف ، فَقِسْ ما طُلِب منك على ما وُجِد لك ، فإذا كنت تعتقد أن الآيات الكونية التي سبقت التكليف نافعة لك قبل أن يطلب منك " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " فَخُذْ منها صدقاً واقعاً يؤيد صدق ما طُلِب منك تكليفاً ، فكما نفعك في الأولى ، فالحق سبحانه سينفعك باتباعك التكليف ، واستقبلْ حركة الحياة على ضوء هذا التكليف لتسعد . ونحن نعلم أن الأصل في الإنسان أن يرتاح أولاً ليتحرك ، ثم يتعب ، ثم يرتاح ولذلك نجد التكاليف قد جاءت على نفس المنوال ، فقد أراحك الحق سبحانه إلى سن البلوغ وأخذت نعم الله تعالى وتمتعت بها إلى سن البلوغ ، ارتحت اختياراً ، وارتحت في مراداتك ، ثم تجيء " افعل " و " لا تفعل " لتلتزم بما يُصْلِح لك كل أحوالك . وإذا كان التكليف سيأخذ منك بعضاً من الجهد ، فهناك فاصل زمني للراحة ، وأنت في حياتك تجد وقتاً للراحة ، ووقتاً للحركة ، والراحة تجعلك تسعى بنشاط إلى الحركة ، والحركة تأخذ منك الجهد الذي تحب أن ترتاح بعده . إذن : فالحركة تحتاج للراحة ، والراحة تحتاج للحركة . وجاء الحق سبحانه إلى الفترة الزمنية المسماة " اليوم " ، فبيَّن لنا أنه كما قسَّم الوجود الإنساني إلى مرحلتين : الأولى : هي ما قبل البلوغ ولا تكليف فيها . والثانية : هي ما بعد البلوغ وفيها التكليف . فقد قسَّم الله سبحانه أيضاً " اليوم " إلى وقت للراحة ووقت للحركة ، فقال تعالى { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً … } [ يونس : 67 ] . فكما خلق الحق سبحانه لنا اليوم وفيه وقت للراحة ، ووقت للحركة ، كذلك شرع الحق سبحانه منهج الدين لتستقيم حركة الحياة لأن الإنسان - الخليفة في الأرض - لا بد أن يتحرك ، ولا بد أن تكون حركته على مقتضى " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " ، وما لم يَرِدْ فيه " افعل " و " لا تفعل " فهو مباح إن شاء فعله ، وإن شاء لم يفعله . وكل فعل ، وكل نهي يتطلب حركة ، وإياك أن تتصور أن النهي لا يتطلب حركة لأنك تتحرك في أمر ما ثم يأتيك قرار التوقف ، وقد تتوهم أن التوقف لا يحتاج إلى حركة لأنه سلبك ملكة القيام بما تعمل ، ولكنك تنسى أن هناك حركة داخلية ، وهي الدوافع التي كانت تلح عليك أن تقوم بما تشتهيه نفسك ولا يواكب منهج الله ، وأنت تكبت تلك الدوافع وتكبح جماحها لأن الله سبحانه قد أمرك بذلك . وما دامت هناك حركة فلا بد أن يأتي منها تعب لذلك جعل الله تعالى لك حقّاً في الراحة . وكذلك عُمْر الإنسان ، لم يكلِّف الله - تعالى - الإنسان إلا بعد البلوغ ، وترك له الفترة الأولى من عمره دون تكليف منه وحساب ، لكنه سبحانه لم يقطع عنه التكليف في تلك المرحلة بتاتاً ، وإنما منع حسابه على ما " يفعل " أو " لا يفعل " ، وترك مسئولية التدريب على التكليف للأب مثلاً ، فالأب يقول لابنه : " لا تكذبْ " فإن كذب فالأب يعاقبه ، وهكذا يكون الأمر من الوالد ، والنهي للولد والأمر والنهي يتطلب ثواباً أو عقاباً . ويبيِّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فيقول : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها لعشر سنين " . والذي يأمر هنا الابن بالصلاة هو الأب ، وهو أيضاً الذي يعاقب على ترك الصلاة ، وهو الذي يثيب ابنه إن أراد أن يجعل الصلاة محبوبة للابن ، وأن يجعل للابن أنساً بالعبادة . وحين يكلِّف الأب ابنه بالصلاة ، فالابن يطيع لأن الأب هو الذي يقضي حاجات الابن ، ويحقق له مصالحه ، والابن يعلم أن والده لن يكلفه إلا بما يحقق تلك المصالح ، وهو يفعل ذلك لأنه يحبه لذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر والنهي من النافع للابن لتوجد حيثية قبول في النفس . وما إن يأت البلوغ فيكون التكليف من الله والأمر من الله ، والثواب والعقاب منه سبحانه . إذن : فالأمر والنهي قبل البلوغ يأتيان من الأب ليتعود الإنسان استقبال الأمر والنهي من ربه ورب أبيه . وإذا كانت الحياة والسير فيها على ضوء منهج الله تعالى يقتضي حركة في " افعل " و " لا تفعل " فلا بد أن يحتاج الإنسان إلى راحة من الحركة ، لذلك يبيِّن لنا الله سبحانه أنه جعل في " اليوم " ليلاً ونهاراً ، ولكلٍّ مهمة ، فإياك أن تضع مهمة شيء مكان شيء آخر حتى لا ترتبك الأمور ، ولكن الظروف قد تضطرك إلى ذلك ، فهناك من يسهر للحراسة ، وهناك من يسهر للعمل في المخابز ، أو إعداد طعام الإفطار للناس ولذلك فهناك احتياط قدري ، فقال الحق سبحانه في آية ثانية : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ … } [ الروم : 23 ] . لأن الحق سبحانه قد علم أزلاً أن هناك مصالح لا يمكن إلا أن تكون ليلاً ، فالذي يعمل ليلاً يرتاح نهاراً ، ولو أن الآية جاءت عمومية لقلنا لمن ينام بالنهار : لا ، ليس هذا وقت السكن والراحة . ولكن شاء الحق سبحانه أن يضع الاحتياطيَّ القدريَّ ليرتاح من يتصل عمله بالليل . وهنا يقول الحق سبحانه : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ … } [ يونس : 67 ] . ونحن نعلم أن هناك فارقاً بين " الخَلْق " ، و " الجَعْل " ، و " المِلْك " ، والمثال على الخلق : أنه سبحانه خَلَق الزمن ، ثم جاء لهذا الزمن ليجعل منه ليلاً ونهاراً . إذن : فالجعل هو توجيه شيء مخلوق لمهمة . ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - وهو منُزَّه عن أي تشبيه أو مثل : تجد صانع الفخَّار وهو يمسك بالطين ليجعل منه إبريقاً ، فهو يصنع الطين أولاً بأن يخلط الماء بالتراب ويعجنهما معاً ، ثم يجعل من الطين إبريقاً أو أصُصَ زرع أو زهرية ورد ، وهو بذلك إنما يحوِّل مخلوقاً إلى شيء له مهمة . والزمن كله لله سبحانه ، جعل منه قسم الليل ، وقسم النهار ، مثلما خلق الإنسان ، ووجَّه جزءاً منه ليجعله سمعاً ، وجزءاً آخر ليجعله بصراً ، وجزءاً آخر ليصير مخاً ، وجزءاً آخر ليكون رئة ، كل ذلك مأخوذ مما خلقه الحق سبحانه . أي : أنه سبحانه جعل أشياء مما خلق أصلاً لتؤدي مهمة للمخلوق . وفي حياتنا - ولله المثل الأعلى - نجد من يغزل من القطن خيوطاً ، وهناك من ينسج من تلك الخيوط قماشاً ، وبعد ذلك نجد من يأخذ هذا القماش ليجعل منه جلباباً أو بنطلوناً أو قميصاً أو لحافاً . إذن : فالجعل هو أخذ من شيء مخلوق لمهمة . والخلق قد يترتب عليه مِلْك ، والجعل أيضاً قد يترتب عليه مِلْك فمن عمل قِدْراً من الطين هو مالكه ، ومن جعل من الطين إبريقاً إنما يملكه . وهكذا نجد الخَلْق والجَعْل قد يترتب عليهما ملكية ما ، لكن الملكية المنسحبة بعد الخلق والجعل تجعلك تنتفع بالأشياء وقد لا تملكها لذلك نجد قول الحق سحبانه : { أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وٱلأَبْصَارَ … } [ يونس : 31 ] . والحق سبحانه خلق لنا الأنعام ، وذلَّلها لنا ، وملَّكها لنا ، وإذا قال الحق سبحانه : " مِلْك " فملكيته سبحانه لا تنتهي لأحد أبداً سواء من الخلق أو الجعل ، بل يَظل مملوكاً ولذلك قلنا : إن نقل الأعضاء هو تحكُّم فيما لا يملكه المخلوق ، بل يملكه الخالق سبحانه وتعالى . يذكر الحق سبحانه الليل والنهار فيقول : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً . . } [ يونس : 67 ] . وكان مقتضى الكلام أن يقول : جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتتحركوا . وشاء سبحانه أن يأتي هنا بالأداء القرآني المعجز فقال : { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } . فهل النهار هو الذي يُبصر أم نحن ؟ هل النهار مُبصِر أم مُبصَر فيه ؟ وقديماً لم يكونوا قد وصلوا إلى الحقيقة العلمية التي وصلنا إليها الآن ، فقد كانوا يعتقدون أن الضوء يخرج من العين إلى المرئي فتراه ، إلى أن جاء " الحسن بن الهيثم " العالم العربي المسلم ، وأوضح بالتجربة أن الضوء إنما ينعكس من المرئي إلى العين ، بدليل أن المرئي إن كان في النور وأنت في الظلام ، فأنت تراه وإذا كان الأمر بالعكس فأنت لا تراه . إذن : فقد سبق القرآن كل النظريات ، وبيَّن لنا أن النهار إنما يأتي بالضوء فينعكس الضوء من الكائنات والموجودات إلى العين فتراه . إذن : فالنهار هو المبصر لأنه جاء بالضوء اللازم لانعكاس هذا الضوء من المرائي إلى العيون . ونحن نجد القرآن حين يتعرض لليل والنهار يقول : { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ … } [ فصلت : 37 ] . ويقول : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً … } [ الإسراء : 12 ] . وهي مبصرة كما أثبت الحسن بن الهيثم العالم المسلم ، وإن كانت في ظاهر الامر مُبْصَرٌ فيها . ويعطي لنا الحق سبحانه تجربة حية مع موسى عليه السلام ، وذلك في قوله سبحانه لموسى - عليه السلام : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ * قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } [ طه : 17 - 20 ] . وشاء الحق سبحانه ذلك ليتعرف موسى بالتجربة على ما سوف يحدث من عصاه أمام فرعون ، ثم أمام السحرة ، ثقة منه سبحانه أن موسى حين يراها تنقلب إلى حية أمام عينيه لأول وهلة سوف يفزع فيطمئنه الحق سبحانه بقوله : { … خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلأُولَىٰ } [ طه : 21 ] . وكانت المرة الأولى لتحوُّلِ العصا إلى حية ، هي تجربة للاستعداد حتى لا يجزع موسى - عليه السلام - أو يخاف لحظة أن يمر بالتجربة العملية ، وحتى يقبل على تقديم المعجزة وهو واثق تمام الثقة أمام فرعون . ثم قال الحق سبحانه لموسى - عليه السلام : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ … } [ النمل : 12 ] . والجيب : هو المكان الذي تنفذ منه الرقبة في الجلباب ويسمى القبة ، فلا يظن أحد أن الجيب المقصود هنا هو مكان وضع النقود لأن مكان وضع النقود قديماً كان يوجد من داخل الجلباب ، مثل جيب الصديري الذي يرتديه أهل الريف ، وقد سُمِّي الجيب الذي نضع فيه النقود جيباً لأن اليد لا تذهب إلى الجيب إلا إذا دخلت في الفتحة التي تخرج منها الرقبة . وقد قال الحق سبحانه لموسى - عليه السلام : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ … } [ النمل : 12 ] . ويخبره الحق سبحانه : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً … } [ النمل : 12 - 13 ] . هكذا كانت الآيات مبصرة وكأنها تقول للعين : أبصريني . وهنا في الآية - التي نحن بصدد خواطرنا عنها - يقول الحق سبحانه : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً … } [ يونس : 67 ] . ولم يقل : لتتحركوا فيه ، بل جاء بما يضمن سلامة الحركة ، فقال سبحانه : { مُبْصِراً } لأن الضوء الذي ينعكس على الأشياء هو الذي يحفظ للإنسان سلامة الحركة . ولكن البعض من الناس في زماننا يستخدمون نعمة الكهرباء في الإسراف في السهر ، وحين يأتي الليل يسهرون حتى الصباح أمام جهاز التلفزيون أو الفيديو أو في غير ذلك من أمور الترفيه ، ثم ينامون في النهار ، وينسون أن الليل للرقود ، والنهار للعمل . وقد ثبت أن للضوء أثراً على الأجسام ، فالضوء يؤثر في الكائن الحي ، وقد سبق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الاكتشاف بزمان طويل وقال : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " وذلك حتى لا ينشغل الجسم بإشعاعات الضوء التي تتسبب في تفاعلات كيماوية في الجسم . لذلك أقول دائماً : خذوا الحضارة بقواعد التحضير لها لأننا يجب أن نتيح للفلاح أن يذهب إلى حقله والعامل إلى مصنعه لأن السهر ضار ، وإذا ادَّعى الإنسان أنه هو الذي تحضَّر ، فليحترم قيمة العمل الذي يصنع الحضارة لأن الآلة التي يسهر لمراقبتها ومشاهدتها هي إنتاج أناس يلتزمون بقواعد الحضارة واحترام قيمة العمل في النهار ، وقيمة الترفيه في الوقت المخصص . نحن نسيء استخدام أدوات الحضارة ، فالزمن الذي وفَّرته الثلاجة للزوجة حتى لا تقف في المطبخ نصف النهار لتعد الطعام ، وصارت تطهو وجبات ثلاثة أيام وتحفظها في الثلاجة ، وتستخدم الغسالة الكهربائية فتنهي الغسيل في ساعة من الزمن ، لكن بقية الوقت يضيع أمام التلفزيون ولا تلتفت إلى تربية الأبناء . وهكذا يسيء البعض استخدام الآلات المتحضرة ، وفي هذه الإساءة نوع من التخلف ، فإذا أخذنا الحضارة بمنطقية فهذا هو التحضر . وعلى سبيل المثال : أقول لمن يركب سيارة : إياك أن تسرع بها في طريق متربة حتى لا يثور الغبار ويملأ صدور الناس بالحساسية . وإياك أن تهمل صيانة سيارتك حتى لا يفسد الموتور ويخرج العادم الضار بصحة الناس والبيئة ، فلا يسافر الإنسان في الطريق المتربة أو بسيارة غير جيدة الصيانة فيصيب صدور الناس بالمرض ، ويصيب الزروع ويفسد الهواء . ويجب ألاَّ نأخذ الحضارة بتلصص ، إنما علينا أن نرتقي إلى مدارجها بصيانة أساليبها لأن من لا يأخذ الحضارة بقواعدها هو من يتخلف رغم تقدُّم الآلة ، فتصير الآلة أكثر تحضُّراً منه . إذن : فإن أخذنا كل أمر بمهمته فحن نحقق الراحة لأنفسنا ولغيرنا . ولذلك قلنا في تفسير قول الحق سبحانه : { وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } [ الليل : 1 - 2 ] . وإن بدا للإنسان أن هناك تعارضاً بين غشيان الليل أي : تغطيته للمرئيات وتجلِّى النهار أي : كشف المرئيات فهذا ليس تعارضاً ، بل هو التكامل لأن حركة النهار تتولد من الليل ، وراحة الليل تتولد من النهار . ثم يقول الحق سبحانه : { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [ الليل : 3 ] . وهذا الخلق للذكر والأنثى هو للتكامل ، لا للتناقض ، هكذا جاء الحق سبحانه بنوعين : الأول : هو الزمن ليلاً ونهاراً . والثاني : هو الإنسان ذكراً وأنثى . ويقول الحق سبحانه : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [ الليل : 4 ] . أي : أن حركتكم هي الموصِّلة إلى غايتكم ، والحركات شتى أي : مختلفة ، سواء في الليل أو النهار أو للذكر أو للأنثى ، فإن خلطنا الحركة وعبثنا بأنظمة الحياة ، فالحياة ترتبك ، ونعاني من مرارة التجربة إلى أن تتعقد الأمور ، فنبحث لها عن حلول . وقد نادينا أن تعمل المرأة نصف الوقت لتعطي البيت بعضاً من الوقت ، أو أن تعتني بالبيت إن كان لها ما يكفيها من دخل ، أو كان لزوجها ما يكفي لحياة الأسرة ، ولكن أحداً لم يلتفت إلى ذلك إلا بعد مرارة التجارب . وهناك مثال آخر : في قول البعض أن الليل في تلك البلاد المتحضِّرة لا ينتهي وأنت تجد السهر هناك حتى الصباح ، وعندما أسمع مثل هذا القول أقول : إن هذا ليس في مصلحة سكان تلك البلاد لأن الليل يجب أن يكون سباتاً لتأتي الحركة المنتجة في النهار . إذن : فالآفة أن تنقل مهمة نوع إلى مهمة نوع آخر ، سواء أكان في الزمان أو في الإنسان ، واقرأ جيداً قول الحق سبحانه : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [ الليل : 4 ] . فكل فرد من أفراد الكون له مهمة وله سعي يختلف عن سعي الآخرين . وهنا في الآية - التي نحن بصدد خواطرنا عنها - يُنهي الحق سبحانه الآية فيقول : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [ يونس : 67 ] . ولقائل أن يقول : لم يقل " إن في ذلك لآيات لقوم يبصرون " . ونقول : لننتبه إلى أن الحق سبحانه حين يتكلم عن زمان فهو يبيِّن في هذا الزمان مهمته ، وهو القائل في صدر الآية ووسطها : { جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً … } [ يونس : 67 ] . فالعلَّة في هذه الآية هي سكون الليل ، لا حركة النهار ، والعين في الليل لا تؤدي مهمتها ، بل السمع هو الذي يؤدي مهمته . والحق سبحانه هو القائل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } [ القصص : 71 ] . أي : أن أحداً لن يستطيع الحركة في مثل هذا الليل السرمدي ولا أحد سيتبيَّن شيئاً . والحق سبحانه هو القائل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ } [ القصص : 72 ] . إذن : فقد جاء الحق سبحانه في آية الليل بالسمع ، وجاء في آية النهار بالأبصار ، وبعد أن تكلم الله سبحانه عن مجال الحركة بالنهار والراحة في الليل ، يأتي الكلام عن الينبوع الذي يجب أن تَصْدُرَ عنه الحركة أو السكون ، وهو ضرورة الامتثال لأمر إله واحد حتى لا تصطدم حركتك بأمر إله آخر يقول ما يناقض حركة الإله الأول . وكما تتحرك في النهار ، وترتاح في الليل لا بد أن تكون حركتك صادرة عن أمر واحد ، هذا الأمر الواحد صادر من الآمر الواحد ، وهو الله تعالى الذي تعبده بلا شريك ، ومن يقول بغير ذلك إنما يربك حركة الحياة . والله سبحانه يقول : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ … } [ المؤمنون : 91 ] . ولذلك يقول الله سبحانه بعد ذلك : { قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ … } .