Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 69-69)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن الإيمان وثمرته ونهايته يأتي بالفَلاَح كنتيجة لذلك الإيمان ، فهو سبحانه القائل : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] . وهو سبحانه القائل : { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ المؤمنون : 1 ] . ويقول أيضاً : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 157 ] . وكلها من مادة " الفلاح " وهي مأخوذة من الأمر الحسي المتصل بحياة الكائن الحي ، فمقومات وجود الكائن الحي : نَفَس ، وماء ، وطعام ، والتنفس يأتي من الهواء الذي يحيط بالأرض ، والماء ينزل من السماء أو يُستنبط مما تسرب في باطن الأرض . والطعام يأتي من الأرض ، وكل ما أصله من الأرض يُستخرج بالفلاحة . لذلك نقول : إن الفِلاَحة هي السبب الاستبقائي للحياة ، فكما يُفْلِح الإنسان الأرض ، ويشقها ويبذر فيها البذور ، ثم يرويها ، ثم تنضج وتخرج الثمرة ، ويقال : أفلح ، أي : أنتجت زراعته نتاجاً طيباً . وشاء الحق سبحانه أن يسمِّي الحصيلة الإيمانية الطيبة بالفلاح . وبيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا مزرعة الآخرة ، فإن كنت تريد ثمرة فابذل الجهد . وإياك والظن أن الدين حينما يأخذ منك شيئاً في الدنيا أنه يُنْقِص ما عندك ، لا ، بل هو يُنمِّي لك ما عندك . والمثل الذي أضربه دائماً - ولله المثل الأعلى - نجد الفَلاَّح حين يزرع فداناً بالقمح ، فهو يأخذ من مخزنه إردباً ليستخدمه كبذور في الأرض ، ولو كانت امرأته حمقاء لا تعرف أصول الزراعة ستقول له : " أنت أخذت من القمح ، وكيف تترك عيالك وأنت تنقصهم من قوتهم ؟ " هذه المرأة لا تعلم أنه أخذ إردبَّ القمح المُخَزَّن ليعود به بعد الحصاد عشرة أو خمسة عشر إردّباً من القمح . كذلك مطلوب الله سبحانه في الدنيا قد يبدو وكأنه ينقصك أشياء ، لكنه يعطيك ثمار الآخرة ويزيدها . إذن : فالفلاح مادة مأخوذة من فلح الأرض وشقها وزرعها لتأخذ الثمرة . وكما أنك تأخذ حظك من الثمار على قدر حظك من التعب ومن العمل ، فذلك أمر الآخرة وأمر الدنيا . ومثال ذلك : الفلاح الذي يحرث الأرض ، ويحمل للأرض السماد على المطية ، ثم يستيقظ مبكراً في مواعد الري ، تجد هذا الفلاح في حالة من الانشراح والفرح في يوم الحصاد ، وأمره يختلف عمن يهمل الأرض ويقضي الوقت على المقهى ، ويسهر الليل أمام التلفزيون ، ويأتي يوم الحصاد ليحزن على محصوله الذي لم يحسن زراعته . وقول الحق سبحانه : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } [ يونس : 69 ] . أي : هؤلاء الذين يقولون عن الله تعالى أو في الله تعالى بغير علم من الله ، هم الذين لا يفلحون . وأوضحت من قبل أن كل ما يتعلق بالله تعالى لا يُعْلَم عنه إلا عن طريق الله . لكن ما الذي يحملهم على الافتراء ؟ نعم ، إن كل حركة في الحياة لا بد أن يكون الدافع إليها نفعاً ، وتختلف النظرة إلى النفع وما يترتب عليه ، فالطالب الكسول المتسكع في الشوارع ، الرافض للتعلم ، نجده راسباً غير موفق في مستقبله ، أما التلميذ الحريص على علومه ، فهو من يحصل على المكانة اللائقة به في المجتمع ، والتلميذ الأول كان محدود الأفق ولم ير امتداد النفع وضخامته ، بل قصر النفع على لذة عاجلة مُضحِّياً بخيرٍ آجِلٍ . والذي جعل هؤلاء يفترون على الله الكذب هو انهيار الذات ، فكل ذات لها وجود ولها مكانة ، فإذا انهارت المكانة ، أحس الإنسان أنه بلا قيمة في مجتمعه . والمثل الذي ضربته من قبل بحَلاَّق الصحة في القرية ، وكان يعالج الجميع ، ثم تَخرَّجَ أحد شباب القرية في كلية الطب وافتتح بها عيادة ، فإن كان حلاق الصحة عاقلاً ، فهو يذهب إلى الطبيب ليعمل في عيادته ممرضاً ، أو تمرجياً ، أما إن أخذته العزة بالإثم ، فهو يعاند ويكابر ، ولكنه لن يقدر على دفع عِلْم الطبيب . وكذلك عصابة الكفر ورؤساء الضلال حينما يُفاجَأون بمَقْدِم رسول من الله ، فهم يظنون أنه سوف يأخذ السيادة لنفسه ، رغم أن أي رسول من رسل الله تعالى - عليه السلام - إنما يعطي السيادة لصاحبها ، ألا وهو الحق الأعلى سبحانه . وحين يأخذ منهم السيادة التي كانت تضمن لهم المكانة والوجاهة والشأن والعظمة ، فهم يصابون بالانهيار العصبي ، ويحاولون مقاومة الرسول دفاعاً عن السلطة الزمنية . ومثال ذلك : هو مَقْدِمُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكان البعض يعمل على تنصيب عبد الله بن أبيّ ليكون مَلكاً ولذلك قاوم الرجل الإسلام ، وحين لم يستطع آمن نفاقاً ، وظل على عدائه للإسلام ، رغم أنه لو أحسن الإسلام واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنال أضعاف ما كان سيأخذه لو صار ملكاً . وهكذا قادة الضلال وأئمة الكفر ، هم مشفقون على أنفسهم وخائفون على السلطة الزمنية لأن الرسول حينما يجيء إنما يُسوِّي بين الناس لذلك يقفون ضد الدعوة حفاظاً على السلطة الزمنية . ولذلك يقول الحق سبحانه عن سبب افترائهم الكذب : { مَتَاعٌ فِي ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ … } .