Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 74-74)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكلمة " بعث " هنا تستحق التأمل ، فالبعث إنما يكون لشيء كان موجوداً ثم انتهى ، فيبعثه الله تعالى . وكلمة { بَعَثْنَا } هذه تلفتنا إلى الحق سبحانه أول ما خلق الخلق أعطى المنهج لآدم عليه السلام ، وأبلغه آدم لأبنائه ، وكل طمس أو تغيير من البشر للمنهج هو إماتة للمنهج . وحين يرسل الحق سبحانه رسولاً ، فهو لا ينشىء منهجاً ، بل يبعث ما كان موجوداً ، ليذكِّر الفطرة السليمة . وهذا هو الفرق بين أثر كلمة " البعث " عن كلمة " الإرسال " ، فكلمة البعث تشعرك بوجود شيء ، ثم انتهاء الشيء ، ثم بعث ذلك الشيء من جديد ، ومثله مثل البعث في يوم القيامة ، فالبشر كانوا يعيشون وسيظلون في تناسل وحياة وموت إلى يوم البعث ، ثم يموت كل الخلق ليبعثوا للحساب . ولم يكن من المعقول أن يخلق الله سبحانه البشر ، ويجعل لهم الخلافة في الأرض ، ثم يتركهم دون منهج وما دامت الغفلة قد طرأت عليهم من بعد آدم - عليه السلام - جاء البعث للمنهج على ألسنة الرسل المبلِّغين عن الله تعالى . وبعد نوح - عليه السلام - بعث الحق سبحانه رسلاً ، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ … } [ يونس : 74 ] . أي : من بعد نوح ، فمسألة نوح - عليه السلام - هنا تعني مقدمة الرَّكْب الرسالي لأن نوحاً عليه السلام قد قالوا عنه إنه رسول عامٌّ للناس جميعاً أيضاً ، مثله مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو لم يُبعث رسولاً عامّاً للناس جميعاً ، بل كان صعوده إلى السفينة هو الذي جعله رسولاً لكل الناس لأن سكان الأرض أيامها كانوا قِلّة . والحق سبحانه قد أخذ الكافرين بذنبهم وأنجى المؤمنين من الطوفان ، وكان الناس قسمين : مؤمنين ، وكافرين ، وقد صعد المؤمنون إلى السفينة ، وأغرق الحق سبحانه الكافرين . وهكذا صار نوح - عليه السلام - رسولاً عامّاً بخصوصية من بقوا وهم المرسَل إليهم بخصوصية الزمان والمكان . وهنا يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ … } [ يونس : 74 ] . فهل قَصَّ الله تعالى كل أخبار الرسل عليهم السلام ؟ لا لأنه سبحانه وتعالى هو القائل : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ … } [ غافر : 78 ] . وجاء الحق عز وجل بقصص أولي العزم منهم ، مثلما قال سبحانه : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] . فمن أرسله الله تعالى إلى من هم أقل من مائة ألف ، فقد لا يأتي ذكره ، ونحن نعلم أن الرسول إنما كان يأتي للأمة المنعزلة لأن العالم كان على طريقة الانعزال ، فنحن مثلاً منذ ألف عام لم نكن نعلم بوجود قارة أمريكا ، بل ولم نعلم كل القارات والبلاد إلا بعد المسح الجوي في العصر الحديث ، وقد توجد مناطق في العالم نعرفها كصورة ولا نعرفها كواقع . ونحن نعلم أن ذرية آدم - عليه السلام - كانت تعيش على الأرض ، ثم انساحت في الأرض لأن الأقوات التي كانت تكفي ذرية آدم على عهده ، لم تعد تكفي بعدما اتسعت الذرية ، فضاق الرزق في رقعة الأرض التي كانوا عليها ، وانساح بعضهم إلى بقية الأرض . والحق سبحانه هو القائل : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً … } [ النساء : 100 ] . وهكذا انتقل بعض من ذرية آدم - عليه السلام - إلى مواقع الغيث ، فالهجرة تكون إلى مواقع المياه لأنها أصل الحياة . ويلاحظ مؤرِّخو الحضارات أن بعض الحضارات نشأت على جوانب الأنهار والوديان ، أما البداوة فكانت تتفرق في الصحارى ، مثلهم مثل العرب ، وكانوا في الأصل يسكنون عند سد مأرب ، وبعد أن تهدم السد وأغرق الأرض ، خاف الناس من الفيضان لأن العَدُوَّين اللذين لم يقدر عليهما البشر هما النار والماء . وحين رأى الناس اندفاع الماء ذهبوا إلى الصحارى ، وحفروا الآبار التي أخذوا منها الماء على قَدْر حاجتهم لأنهم عرفوا أنهم ليسوا في قوة المواجهة مع الماء . وهكذا صارت الانعزالات بين القبائل العربية ، ومثلها كانت في بقية الأرض ولذلك اختلفت الداءات باختلاف الأمم ولذلك بعث الحق سبحانه إلى كل أمة نذيراً ، وهو سبحانه القائل : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ … } [ فاطر : 24 ] . وقصَّ علينا الله سبحانه قصص بعضهم ، ولم يقصص قصص البعض الآخر . يقول الحق سبحانه : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ … } [ غافر : 78 ] . وهنا يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ … } [ يونس : 74 ] . فهل هؤلاء هم الرسل الذين لم يذكرهم الله ؟ لا لأن الحق سبحانه أرسل بعد ذلك هوداً إلى قوم عاد ، وصالحاً إلى ثمود ، وشعيباً إلى مدين ، ولم يأت بذكر هؤلاء هنا ، بل جاء بعد نوح - عليه السلام - بخبر موسى عليه السلام ، وكأنه شاء سبحانه هنا أن يأتي لنا بخبر عيون الرسالات . وما دام الحق سبحانه قد أرسل رسلاً إلى قوم ، فكل قوم كان لهم رسول ، وكل رسول بعثه الله تعالى إلى قومه . وكلمة " قوم " في الآية جمع مضاف ، والرسل جمع ، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً ، مثلما نقول : هَيَّا اركبوا سياراتكم ، والخطاب لكم جميعاً ، ويعني : أن يركب كل واحد منكم سيارته . وجاء كل رسول إلى قومه بالبينات ، أي : بالآيات الواضحات الدالة على صدق بلاغهم عن الله تعالى . ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلوبِ ٱلْمُعْتَدِينَ } [ يونس : 74 ] . أي : أن الناس جميعهم لو آمنوا لانقطع الموكب الرسالي ، فموكب إيمان كل البشر لم يستمر ، بل جاءت الغفلة ، وطبع الله تعالى على قلوب المعتدين . والطبع - كما نعلم - هو الختم . ومعنى ذلك أن القلب المختوم لا يُخرج ما بداخله ، ولا يُدخل إليه ما هو خارجه فما دام البعض قد عشق الكفر فقد طبع الله سبحانه على هذه القلوب ألاّ يدخلها إيمان ، ولا يخرج منها الكفر ، والطبع هنا منسوب لله تعالى . وبعض الذين يتلمَّسون ثغرات في منهج الله تعالى يقولون : إن سبب كفرهم هو أن الله هو الذي طبع على قلوبهم . ونقول : التفتوا إلى أنه سبحانه بيَّن أنه قد طبع على قلوب المعتدين ، فالاعتداء قد وقع منهم أولاً ، ومعنى الاعتداء أنهم لم ينظروا في آيات الله تعالى ، وكفروا بما نزل إليهم من منهج ، فهم أصحاب السبب في الطبع على القلوب بالاعتداء والإعراض . وجاء الطبع لتصميمهم على ما عشقوه وألفوه ، والحق سبحانه وتعالى هو القائل في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك " . ولله المثل الأعلى ، فأنت تقول لمن يَسْدِر في غَيِّه : ما دمت تعشق ذلك الأمر فاشبع به . ومَثَل هؤلاء الذين طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم ، مثل الذين كذَّبوا من قبل وكانوا معتدين . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىٰ وَهَارُونَ … } .