Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 3-3)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهكذا يبيِّن الحق سبحانه أن على العبد أن يستغفر من ذنوبه السابقة التي وقع فيها ، وأن يتوب من الآن ، وأن يرجع إلى منهج الله تعالى ، لينال الفضل من الحق سبحانه . المطلوب - إذن - من العبد أن يستغفر الله تعالى ، وأن يتوب إليه . هذا هو مطلوب الله من العاصي لأن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة ، وحين يعجل العبد بالتوبة إلى الله تعالى فهو يعلم أن ذنباً قد وقع وتحقق منه ، وعليه ألا يؤجل التوبة إلى زمنٍ قادم لأنه لا يعلم إن كان سيبقى حياً أم لا . ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى … } [ هود : 3 ] . والحق سبحانه يُجمل قضية اتباع منهجه في قوله تعالى : { … فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } [ طه : 123 ] . وقال في موضع آخر : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً … } [ النحل : 97 ] . فالحياة الطيبة في الدنيا وعدم الضلال والشقاء متحققان لمن اتبع منهج الله تعالى . وظن بعض العلماء أن هذا القول يناقض في ظاهره قول النبي صلى الله عليه وسلم بأن " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " و " إن أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل " . وقال بعض العلماء : فكيف نقول : { يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً … } [ هود : 3 ] . هنا نقول : ما معنى المتاع ؟ المتاع : هو ما تستمتع به وتستقبله بسرور وانبساط . ويعلم المؤمن أن كل مصيبة في الدنيا إنما يجزيه الله عليها حسن الجزاء ، ويستقبل هذا المؤمن قضاء الله تعالى بنفس راضية لأن ما يصيبه قد كتبه الله عليه ، وسوف يوافيه بما هو خير منه . وهناك بعض من المؤمنين قد يطلبون زيادة الابتلاء . إذن : فالمؤمن كل أمره خير وإياك أن تنظر إلى من أصابته الحياة بأية مصيبة على أنه مصاب حقاً لأن المصاب حقاً هو من حُرِم من الثواب . ونحن نجد في القرآن قصة العبد الصالح الذي قتل غلاماً كان أبواه مؤمنين ، فخشي العبد الصالح أن يرهقهما طغياناً وكفراً ، فهذا الولد كان فتنة ، ولعله كان سيدفع أبويه إلى كل محرم ، ويأتي لهما بالشقاء . إذن : فالمؤمن الحق هو الذي يستحضر ثواب المصيبة لحظة وقوعها . ومنَّا من قرأ قصة المؤمن الصالح الذي سار في الطريق من المدينة إلى دمشق ، فأصيبت رِجْله بجرح وتلوث هذا الجرح ، وامتلأ بالصديد مما يقال عنه في الاصطلاح الحديث " غرغرينة " وقرر الأطباء أن تُقطع رجله ، وحاولوا أن يعطوه " مُرَقِّداً " أي : مادة تُخدِّره ، وتغيب به عن الوعي ليتحمل ألم بتر الساق ، فرفض العبد الصالح وقال : إني لا أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين . ومثل هذا العبد يعطيه الله سبحانه وتعالى طاقة على تحمُّل الألم ، لأنه يستحضر دائماً وجوده في معية الله ، ومفاضٌ عليه من قدرة الله وقوته سبحانه . وحينما قطع الأطباء رجله ، وأرادوا أن يكفنوها وأن يدفنوها ، فطلب أن يراها قبل أن يفعلوا ذلك ، وأمسكها ليقول : اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو ، فإني قد عوفيت في أعضاء . إذن : فصاحب المصيبة حين يستحضر الجزاء عليها ، إنما يحيا في متعة ، ولذلك لا تتعجب حين يحمد أناس خالقهم على المصائب لأن الحمد يكون على النعمة ، والمصيبة قد تأتي للإنسان بنعمة أوسع مما أفقدته . ولذلك نجد اثنين من العارفين بالله وقد أراد أن يتعالم كل منهما على الآخر فقال واحد منهما : كيف حالكم في بلادكم أيها الفقراء ؟ - والمقصود بالفقراء هم العُبَّاد الزاهدون ويعطون أغلب الوقت لعبادة الله تعالى - فقال العبد الثاني : حالنا في بلادنا إنْ أعطينا شكرنا ، وإنْ حُرمنا صبرنا . فضحك العبد الأول وقال : هذا حال الكلاب في " بلخ " أي : أن الكلب إن أعطيته يهز ذيله ، وإن منعه أحد فهو يصبر . وسأل العبد الثاني العبد الأول : وكيف حالكم أنتم ؟ فقال : نحن إن أعطينا آثرنا ، وإن حُرِمنا شكرنا . إذن : فكل مؤمن يعيش في منهج الله سبحانه وتعالى فهو يستحضر في كل أمر مؤلم وفي كل أمر متعب ، أن له جزاءً على ما ناله من التعب ثواباً عظيماً خالداً من الله سبحانه وتعالى . ولذلك يقول الحق سبحانه : { يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً … } [ هود : 3 ] . والحسن هنا له مقاييس ، يُقاس بها اعتبار الغاية فحين تضم الغاية إلى الفعل تعرف معنى الحسن . ومثال ذلك : هو التلميذ الذي لا يترك كتبه ، بل حين ياتي وقت الطعام ، فهو يأكل وعيناه لا تفارقان الكتاب . هذا التلميذ يستحضر متعة النجاح وحُسْنه ونعيم التفوق ، وهو تلميذ يشعر بالغاية وقت أداء الفعل . ويقول الحق سبحانه في نفس الآية : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ … } [ هود : 3 ] . أي : يؤتى كل ذي فضل مجزول لمن لا فضل له ، فكأن الحق سبحانه يمنِّي الفضل للعبد . ومثال ذلك : الفلاح الذي يأخذ من مخزن غلاله إردباً من القمح ليبذره في الأرض ليزيده الله سبحانه وتعالى بزراعة هذا الإردب ، ويصبح الناتج خمسة عشر إردباً . والفضل هو الأجر الزائد عن مساويه ، فمثلاً هناك فضل المال قد يكون عندك ، أي : زائد عن حاجتك ، وغيرك لا يملك مالاً يكفيه ، فإن تفضلت ببعض من الزائد عندك ، وأعطيته لمن لا مال عنده فأنت تستثمر هذا العطاء عند الله سبحانه وتعالى . والحق سبحانه وتعالى قد يعطيك قوة ، فتعطى ما يزيد منها لعبد ضعيف . وقد يكون الحق سبحانه قد أسبغ عليك فضلاً من الحلم ، فتعطي منه لمن أصابه السفه وضيق الخلق . إذن : فكل ما يوجد عند الإنسان من خصلة طيبة ليست عند غيره من الناس ، ويفيضها عليهم ، فهي تزيد عنده لأنها تربو عند الله ، وإن لم يُفِضْها على الغير فهي تنقص . ولذلك يقول الحق سبحانه : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ ٱللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ } [ الروم : 39 ] . ويقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خوطرنا عنها : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ … } [ هود : 3 ] . وبعض من أهل المعرفة يفهم هذا القول الكريم بأن الإنسان الذي يفيض على غيره مما آتاه الله ، يعطيه الحق سبحانه بالزيادة ما يعوضه عن الذي نقص ، أو أنه سبحانه وتعالى يعطي كل صاحب فضلٍ فضل ربه ، وفضل الله تعالى فوق كل فضل . ثم يقول الحق سبحانه : { … وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [ هود : 3 ] . فإن أعرضوا عنك فأبلغهم أنك تخاف عليهم من عذاب اليوم الآخر ، ويُوصف العذاب مرة بأنه كبير ، ويوصف مرة بأنه عظيم ، ويوصف مرة بأنه مهين لأنه عذاب لا ينتهي ويتنوع حسب ما يناسب المعذب ، فضلاً عن أن العذاب الذي يوجد في دنيا الأغيار هو عذاب يجري في ظل المظنة بأنه سينقضي ، أما عذاب اليوم الآخر فهو لا ينقضي بالنسبة للمشركين بالله أبداً . ويقول الحق من بعد ذلك : { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ … } .