Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 58-58)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وساعة تسمع { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } فأنت تعرف أن هناك آمراً وأمراً مُطاعاً ، وبمجرد صدور الأمر من الآمر سبحانه يكون التنفيذ لأنه يأمر مَنْ له قدرة على التنفيذ : ولذلك يقول الحق سبحانه : { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الإنشقاق : 1 - 2 ] . إذن : فهي بمجرد السمع نَفَّذت أمر الحق سبحانه . وحين شاء الحق سبحانه أن يُنجي موسى عليه السلام من الذبح الذي أمر به فرعون أوحى الله سبحانه لأمِّ موسى قائلاً : { … فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] . وكيف تفعل أمٌّ ذلك . إن كل أمًّ إنما تحرص على ابنها والذبح لموسى أمر مظنون ، والإلقاء في البحر موت محقَّق ، لكن أم موسى استقبلت الوحي ولم تتردد مما يدل على أنها لم تُناقش الأمر بمقاييس البشر ، بل بتنفيذ إلهامٍ واردٍ إليها من الله سبحانه إلهام لا ينازعه شَكٌّ أو شيطان . وبعد ذلك يأمر الله سبحانه البحر : { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ … } [ طه : 39 ] . وقد استقبل البحرُ الأمرَ الإلهي لأنه أمر من قادر على الإنفاذ ، كما قام بتنفيذ الضد . في قصة نوح عليه السلام قال الحق سبحانه : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ … } [ هود : 40 ] . وحدث الطوفان ليغرق الكافرين . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا … } [ هود : 58 ] . يعني : مجيء الأمر بالعذاب للمخالفين لدعوة هود عليه السلام ، وقد تحقَّق هذا العذاب بطريقة خاصة ودقيقة تتناسب في دقتها مع عظمة الآمر بها سبحانه وتعالى . فحين تأتي رِيحٌ صَرْصَرٌ أو صَيحةٌ طاغيةٌ ، فهذا العذاب من خارجهم ، وما دام العذاب من الخارج ، وبقوة من قوى الطبيعة الصادرة بتوجيه الله فقد يَعُمُّ المكذِّبين لسيدنا هود ، ومعهم المصدِّقون به وبرسالته ، فكيف يتأتَّى أن تذهب الصيحة إلى آذان المكذِّبين فقط ، وتخرق تلك الآذان وتترك آذان المؤمنين ؟ إنها قدرة التقدير لا قوة التدمير . إن مُوجِّه الصيحة قد حدَّد لها مَنْ تُصيب ومن تترك ، وهي صيحة موجَّهة ، مثلها مثل حجارة سِجِّيل التي رمتها طير أبابيل على أبرهة الحبشي وجنوده مع نجاةَ جنود قريش بنفس الحجارة ولم تكن إصابة بالطاعون كما ادَّعى بعضٌ من المتفلسفين . وهذه من أسرار عظمة الحق سبحانه فهو يأخذ بشيء واحد ولكنه يُنجي المؤمن ويعذِّب الكافر فلا يوجد ناموس يحكم الكون بدون قدرة مسيطرة عليه . يقول المتنبي : @ تُسَوِّدُ الشَّمْسُ مِنَّا بِيضَ أوجُهِنا وَمَا تُسوِّدُ بِيضَ العَينِ والَّلمَمِ وَكَانَ حَالُهُما فِي الحُكْمِ واحِدَةً لَو احْتَكَمْنَا مِنَ الدُّنْيَا إلَى حَكَمِ @@ وهكذا يضرب المتنبي المثل بأن جلوس الواحد منا في الشمس يجعل بشرة الأبيض تميل إلى السمرة ولا تسود بياض الشعر ، لكنك إن تركت شيئاً أسود في الشمس فترة لوجدته يميل إلى الأبيض ويحدث ذلك رغم أن الفاعل واحد لكن القابل مختلف . والحق سبحانه يقول هنا : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا … } [ هود : 58 ] . فلا تقل كيف نجوا من العذاب الجامع والعذاب العام لأن هذه هي الرحمة . والرحمة - كما نعلم - هي ألا يمس الداء الإنسان من أول الأمر أما الشفاء فهو يعالج الداء . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ … } [ الإسراء : 82 ] . ونحن نلحظ هنا أن الحق سبحانه يذكر في نفس الآية الكريمة نجاتين : النجاة الأولى : من العذاب الجامع الريح الصرصر من الصيحة من الطاغية ، يقول سبحانه : { … نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ هود : 58 ] . والنجاة الثانية : هي نجاة من عذاب الآخرة الغليظ ، فعذاب الدنيا رغم قسوته ، إلا أنه موقوت بعمر الدنيا . أما عذاب الآخرة فهو عذاب بلا نهاية ، ووصفه الحق سبحانه بالغلظة . وغلظ الشيء يعطي له القوة والمتانة ، وهو عذاب غليظ على قدر ما يستوعب الحكم . ولذلك حينما يُملِّك الحقُّ سبحانه رجلاً بُضْع امرأة بعقد الزواج ، ويصف ذلك بالميثاق الغليظ ، والنفعية هنا متصلة بالعفة والعِرْض ، ولم يُملِّك الرجل النفعية المطلقة من المرأة التي يتزوجها فالزوج يُمكَّن من عورة زوجته بعقد الزواج . يقول الحق سبحانه : { … وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 21 ] . وكانت نجاة هود عليه السلام والمؤمنين معه من العذاب الأول مقدمة للنجاة من العذاب الغليظ . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ … } .