Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 6-6)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وحين يذكر القرآن الكريم لقطة توضح صفة ما ، فهو يأتي بما يتعلق بهذه الصفة ، وما دام الحق سبحانه عليماً بذات الصدور ، فهذا علم بالأمور السلبية غير الواضحة ، والحق سبحانه يعلم الإيجابيات أيضاً ، فهو يعلم النية الحسنة أيضاً ، ولكن الكلام هنا يخص جماعة يثنون صدورهم . وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ، وبيَّن أنه عليم بكل شيء . وقال سبحانه : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا … } [ هود : 6 ] . والدابة : كل ما يدب على الأرض ، وتستخدم في العرف الخاص للدلالة على أي كائن يدب على الأرض غير الإنسان . وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ … } [ الأنعام : 38 ] . وذكر الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام أنه شُغِل - حينما كُلِّف - بخواطر عن أهله ، وتساءل : كيف أذهب لأداء الرسالة وأترك أهلي ؟ فأوحى له الله سبحانه أن يضرب حجراً فانفلق الحجر عن صخرة ، فأمره الحق سبحانه أن يضرب الصخرة ، فضربها فانفلقت ليخرج له حجر ، فضرب الحجر فانشق له عن دودة تلوك شيئاً كأنما تتغذى به ، فقال : إن الذي رزق هذه في ظلمات تلك الأحجار كلها لن ينسى أهلي على ظهر الأرض . ومضى موسى عليه السلام إلى رسالته . وهذا أمر طبيعي لأن الحق سبحانه خالق كل الخلق ، ولا بد أن يضمن له استبقاء حياة واستبقاء نوع فاستبقاء الحياة بالقوت ، واستبقاء النوع بالزواج والمصاهرة . إذن : فمن ضمن ترتيبات الخلق أن يوفر الحق سبحانه وتعالى استبقاء الحياة بالقوت ، واستبقاء النوع بالتزاوج . ولذلك نقول دائماً : يجب أن نفرق بين عطاء الإله وعطاء الرب ، فالإله سبحانه هو رب الجميع ، لكنه إله من آمن به . وما دام الحق سبحانه هو رب الجميع ، فالجميع مسئولون منه فالشمس تشرق على المؤمن وعلى الكافر ، وقد يستخرج الكافر من الشمس طاقة شمسية وينتفع بها ، فلماذا لا يأخذ المؤمن بالأسباب ؟ والهواء موجود للمؤمن والكافر لأنه عطاء ربوبية ، فإن استفاد الكافر من الهواء ودرسه ، واستخدم وخواصه أكثر من المؤمن فعلى المؤمن أن يجدَّ ويكدَّ في الأخذ بالأسباب . إذن : فهناك عطاء للربوبية يشترك فيه الجميع ، لكن عطاء الألوهية إنما يكون في العبادة ، وهو يُخرجك من مراداتك إلى مرادات ربك ، فحين تطلب منك شهواتك أن تفعل أمراً فيقول لك المنهج : لا . وفي هذا تحكم منك في الشهوات ، وارتقاء في الاختبارات ، أما في الأمور الحياتية الدنيا ، فعطاء الربوبية لكل كائن ليستبقي حياته . وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا … } [ هود : 6 ] . وكلمة " على " تفيد أن الرزق حق للدابة ، لكنها لم تفرضه هي على الله سبحانه وتعالى ، ولكنه سبحانه قد ألزم نفسه بهذا الحق . ويقول سبحانه : { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا … } [ هود : 6 ] . ولأنه سبحانه هو الذي يرزق الدابة فهو يعلم مستقرها وأين تعيش ليوصل إليها هذا الرزق . والمستقر : هو مكان الاستقرار ، والمستودع : هو مكان الوديعة . والحق سبحانه يُعْلِمنا بذلك ليطمئن كل إنسان أن رزقه يعرف عنوانه ، والإنسان لا يعلم عنوان الرزق . فالرزق يأتي لك من حيث لا تحتسب ، لكن السعي إلى الرزق شيء آخر فقد تسعى إلى رزق ليس لك ، بل هو رزق لغيرك . فمثلاً : أنت قد تزرع أرضك قمحاً فيأتي لك سفر للخارج ، وتترك قمحك ليأكله غيرك ، وتأكل أنت من قمح غيرك . ولذلك يقول الحق سبحانه : { … وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ هود : 6 ] . أي : أن كل أمر مكتوب ، وهناك فرق بين أن تفعل ما تريد ، ولكن لا يحكم إرادتك مكتوب فما يأتي على بالك تفعله ، وبين أن تفعل أمراً قد وضعت خطواته في خطة واضحة مكتوبة ، ثم تأتي أفعالك وفقاً لما كتبته . ومن عظمة الخالق سبحانه أن كتب كل شيء ، ثم يأتي كل ما في الحياة وفق ما كتب . والدليل على ذلك - على سبيل المثال - أن الله سبحانه كان يوحي إلى رسوله بالسورة من القرآن الكريم ، وبعد ذلك يُسرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي ، فيتلو السورة على أصحابه ، فمن يستطيع الكتابة فهو يكتب ، ومن يحفظ فهو يحفظ . ثم يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ، فيقرأ السورة كما كُتِبَتْ ، ويأتي كل نجم من القرآن في مكانه الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته ، فكيف كان يحدث ذلك ؟ لقد حدث ذلك بما جاء به الحق سبحانه ، وأبلغه لرسوله صلى الله عليه وسلم : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } [ الأعلى : 6 ] . ويقول الحق سبحانه بعد ذلك : { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ … } .