Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 109-109)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وينتقل الحق سبحانه هنا إلى الرسل الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم فالحق سبحانه يقول : { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] . أي : أنهم كانوا يطلبون رسولاً من غير البشر ، وتلك مسألة لم تحدث من قبل ، ولو كانت قد حدثتْ من قَبْل لقالوا : " ولماذا فعلها الله مع غيرنا ؟ " . ولذلك أراد سبحانه أن يَرُدُّ لهم عقولهم فقال تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] . والملائكة بطبيعتها لا تستطيع أن تحيا على الأرض ، كما أنها لا تصلح لأنْ تكون قُدْوة أو أُسْوة سلوكية للبشر . فالحق سبحانه يقول عن الملائكة : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . والملاك لا يصلح أن يكون أُسْوة للإنسان لأن المَلَك مخلوق غيبيّ غير مُحَسٍّ من البشر ولو أراده الله رسولاً لَجسَّده بشراً ولو جعله بشراً لبقيتْ الشبهةُ قائمةً كما هي . أو : أن الآية جاءت لِتسُدَّ على الناس ذرائع انفتحت بعد ذلك على الناس في حروب الرِّدة حين ادَّعَتْ سجاح أنها نبية مُرْسَلة . لذلك جاء الحق سبحانه من البداية بالقول : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ … } [ يوسف : 109 ] . ليوضح لنا أن المرأة لا تكون رسولاً منه سبحانه لأن مهمة الرسول أن يلتحم بالعالم التحامَ بلاغٍ ، والمرأة مطلوب منها أن تكون سَكناً . كما أن الرسول يُفترض فيه ألاّّ يسقط عنه تكليف تعبديّ في أي وقت من الأوقات والمرأة يسقط عنها التكليف التعبدي أثناء الطمث ، ومهمة الرسول تقتضي أن يكون مُسْتوفي الأداء التكليفي في أيِّ وقتٍ . ثم كيف يطلبون ذلك ولَمْ تَأْتِ في مهام الرسل من قبل ذلك إلا رجالاً ، ولم يسأل الحق أيّاً منهم ، ولم يستأذن من أيِّ واحد من الرسل السابقين ليتولى مهمته بل تلقَّى التكليف من الله دون اختيار منه ، ويتلقى ما يُؤمر أن يبلِّغه للناس ، ويكون الأمر بواسطة الوحي . والوحي كما نعلم إعلام بخفاء ، ولا ينصرف على إطلاقه إلا للبلاغ عن الله . ولم يوجد رسول مُفوَّض ليبلغ ما يحب أو يُشرِّع لكن كل رسول مُكلَّف بأن ينقل ما يُبلِّغ به ، إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد فوَّضه الحق سبحانه في أن يُشرِّع ، ونزل في القرآن : { مَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ … } [ الحشر : 7 ] . ويقول الحق سبحانه عن هؤلاء الرسل السابقين أنهم : { مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ … } [ يوسف : 109 ] . والقرية كانت تأخذ نفس مكانة المدينة في عالمنا المعاصر . وأنت حين تزور أهل المدينة تجد عندهم الخير عكس أهل البادية ، فالبدويّ من هؤلاء قد لا يجد ما يُقدِّمه لك ، فقد يكون ضرع الماشية قد جَفَّ أو لا يجد ما يذبحه لك من الأغنام . والفارق بين أهل القرية وأهل البادية أن أهل القرية لهم توطُّن ويملكون قدرة التعايش مع الغير ، وترتبط مصالحهم ببعضهم البعض ، وترِقُّ حاشية كل منهم للآخر ، وتتسع مداركهم بمعارف متعددة ، وليس فيهم غِلْظة أهل البادية . فالبدويُّ من هؤلاء لا يملك إلا الرَّحْل على ظهر جَمله ويطلب مساقط المياه ، وأماكن الكلأ لما يرعاه من أغنام . وهكذا تكون في أهل القرى رِقَّة وعِلْم وأدبُ تناولٍ وتعاملٍ ولذلك لم يَأْتِ رسول من البدو كي لا تكون معلوماته قاصرة ، ويكون جافاً ، به غِلْظة قوْلٍ وسلوك . والرسول يُفترض فيه أن يستقبل كل مَنْ يلتقي به بالرِّفق واللِّين وحُسْن المعاشرة لذلك يكون من أهل القرى غالباً لأنهم ليسوا قُسَاة وليسوا على جهل بأمور التعايش الاجتماعي . ويتابع الحق سبحانه : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } [ يوسف : 109 ] . أي : أنهم إنْ كانوا غير مؤمنين بآخرة يعودون إليها ولا يعلمون متى يعودون فليأخذوا الدنيا مِقْياساً وَلْينظروا في رُقْعة الأرض وينظروا ماذا حدث للمُكذِّبين بالرسل ، إنهم سيجدون أن الهلاك والعذاب قد حاقا بكل مُكذِّب . ولو أنهم ساروا في الأرض ونظروا نظرة اعتبار ، لرأوا قُرَى مَنْ نحتوا بيوتهم في الجبال وقد عصف بها الحق سبحانه ، ولَرأوْا أن الحق قد صَبَّ سَوْط العذاب على قوم عاد وآل فرعون ، فإن لم تَخَفْ من الآخرة فعليك بالخوف من عذاب الدنيا . وقول الحق سبحانه : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } [ يوسف : 109 ] . وهذا القول هو من لَفتاتِ الكَونيّات في القرآن ، فقديماً كنا لا نعرف أن هناك غلافاً جوياً يحيط بالأرض ، ولم نَكُنْ نعرف أن هذا الغلاف الجوي به الأكسوجين الذي نحتاجه للتنفس . ولم نَكُنْ نعرف أن هذا الغلاف الجوي من ضمن تمام الأرض ، وأنك حين تسير على اليابسة ، فالغلاف الجوي يكون فوقك وبذلك فأنت تسير في الأرض لأن ما فوقك من غلاف جوي هو من مُلْحقات الأرض . والسَّيْر في الأرض هو للسياحة فيها ، والسياحة في الأرض نوعان : سياحة اعتبار ، وسياحة استثمار . ويُعبِّر الحق سبحانه عن سياحة الاعتبار بقوله : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } [ الروم : 9 ] . ويعبر سبحانه عن سياحة الاستثمار بقوله : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ … } [ العنكبوت : 20 ] . إذن : فسياحة الاعتبار هي التي تَلْفتك لقدرة الله سبحانه ، وسياحة الاستثمار هي من عمارة الأرض ، يقول الحق سبحانه : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً … } [ النساء : 100 ] . وأنت مُكَّلف بهذه المهمة ، بل إن ضاق عليك مكان في الأرض فابحث عن مكان آخر ، بحسب قول الحق سبحانه : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا … } [ النساء : 97 ] . ولك أن تستثمر كما تريد ، شرطَ ألاَّ يُلهِيك الاستثمار عن الاعتبار . ويتابع الحق سبحانه : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ … } [ يوسف : 109 ] . ويا لَيْتَ الأمر قد اقتصر على النكال الذي حدث لهم في الدنيا بل هناك نَكَالٌ أشدُّ وَطْأة في انتظارهم في الآخرة . يقول الحق سبحانه : { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 109 ] . وحديث الحق سبحانه عن مصير الذين كَذَّبوا يَظهر لنا كمقابل لما ينتظر المؤمنين ، ولم تذكر الآية مصير هؤلاء المُكذِّبين بالتعبير المباشر ، ويُسمُّون ذلك في اللغة بالاحتباك . مثل ذلك قوله الحق : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا … } [ الرعد : 41 ] . وكل يوم تنقص أرض الكفر ، وتزيد رقعة الإيمان . وهكذا يأتي العقاب من جانب الله ، ونأخذ المقابل له في الدنيا ومرة يأتي بالثواب المقيم للمؤمنين ، ونأخذ المقابل في الآخرة . ولقائل أن يقول : ولماذا لم يَقُلِ الحق سبحانه أنه سوف يأتي لهم بما هو أشد شراً من عذاب الدنيا في اليوم الآخر ؟ وأقول : إن السياق العقلي السطحي الذي ليس من الله هو الذي يمكن أن يُذكِّرهم بأن عذاب الآخرة هو أشدُّ شراً من عذاب الدنيا . ولكن الحق سبحانه لا يقول ذلك بل عَدل عن هذا إلى المقابل في المؤمنين فقال : { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 109 ] . فإذا جاء في الدنيا بالعذاب للكافرين ثم جاء في الآخرة بالثواب لِلمُتقين أخذ من هذا المقابل أن غير المؤمنين سيكون لهم حسابٌ عسير ، وقد حذف من هنا ما يدل عليه هناك كي نعرف كيف يُحْبَك النظم القرآني . ويقول سبحانه من بعد ذلك : { حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ … } .