Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 3-3)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
و ذرهم أمْر بأن يدعَهم ويتركهم . وسبحانه قال مرة ذرهم ، ومرة قال : { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ … } [ المزمل : 11 ] . أي : اتركهم لي ، فأنا الذي أعاقبهم ، وأنا الذي أعلم أجلَ الإمهال ، وأجلَ العقوبة . ويستعمل من " ذَرْهم " فعل مضارع هو " يَذَر " ، وقد قال الحق سبحانه : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ … } [ الأعراف : 127 ] . ولم يستعمل منها في اللغة فِعْل ماضٍ ، إلا فيما رُوِي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذروا اليمن ما ذروكم " ، أي : اتركوهم ما تركوكم . ويشارك في هذا الفعل فعل آخر هو " دَعْ " بمعنى " اترك " . وقيل : أهملت العرب ماضي " يدع " و " يذر " إلا في قراءةٍ في قول الحق سبحانه : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } [ الضحى : 3 ] . وهنا يقول الحق سبحانه : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ … } [ الحجر : 3 ] . ونحن أيضاً نأكل ، وهناك فرْق بين الأكل كوقود للحركة وبين الأكل كلذّة وتمتُّع ، والحيوانات تأكل لتأخذ الطاقة بدليل أنها حين تشبع لا يستطيع أحد أنْ يُجبرها على أكل عود برسيم زائد . أما الإنسان فبعد أن يأكل ويغسل يديه ثم يرى صِنْفاً جديداً من الطعام فهو يمدُّ يده ليأكلَ منه ذلك أن الإنسان يأكل شهوةً ومتعةً ، بجانب أنه يأكل كوقود للحركة . والفرق بيننا وبينهم أننا نأكل لتتكوَّن عندنا الطاقة ، فإنْ جاءت اللذة مع الطعام فأهلاً بها ذلك أننا في بعض الأحيان نأكل ونتلذذ ، لكن الطعام لا يمري علينا بل يُتعِبنا فنطلب المُهْضِمات من مياه غازية وأدوية . ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بحسْب ابن آدم لُقيْمات يُقِمْنَ صُلْبه " . أي : أنه صلى الله عليه وسلم ينهانا عن أن نأكل بالشهوة واللذة فقط . ولنلحظ الفارق بين طعام الدنيا وطعام الجنة في الآخرة فهناك سوف نأكل الطعام الذي نستلذّ به ويَمْري علينا بينما نحن نُضطر في الدنيا - في بعض الأحيان - أن نأكلَ الطعام بدون مِلْح ومسلوقاً كي يحفظ لنا الصحة ولا يُتعِبنا وهو أكل مَرِىء وليس طعاماً هنيئاً ، ولكن طعام الآخرة هَنِىءٌ ومَرِىءٌ . وعلى ذلك نفهم قول الحق سبحانه : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ … } [ الحجر : 3 ] . أي : أن يأكلوا أكْلاً مقصوداً لذات اللذَّة فقط . ويقول الحق سبحانه متابعاً : { وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ } [ الحجر : 3 ] . أي : أن يَنصبوا لأنفسهم غايات سعيدة تُلهِيهم عن وسيلة ينتفعون بها ولذلك يقول المثل العربي : " الأمل بدون عمل تلصُّص " فما دُمْت تأمل أملاً فلا بُدَّ أن تخدمه بالعمل لتحققه . ولكن المثل على الأمل الخادع هو ما جاء به الحق سبحانه على لسان مَنْ غَرَّتْه النعمة ، فقال : { مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً … } [ الكهف : 35 - 36 ] . ولكن الساعة ستقوم رَغْماً عن أَنْف الآمال الكاذبة ، والسراب المخادع . ويقول الحق سبحانه : { وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الحجر : 3 ] . وكلمة سوف تدل على أن الزمن مُتراخٍ قليلاً فالأفعال مثل " يعلم " تعني أن الإنسان قد يعلم الآن ويعلم من بَعْد الآن بوقت قصير ، أما حين نقول " سوف يعلم " فتشمل كل الأزمنة . فالنصر يتحقق للمؤمنين بإذن من الله دائماً أما غير المؤمنين فلسوف يتمنَّوْنَ الإيمان كما قُلْنا وأوضحنا من قبل . وهكذا نرى أن قَوْله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الحجر : 3 ] . يشمل كُلّ الأزمنة . وقد صنع الحق سبحانه في الدنيا أشياء تُؤذِن بصِدْق وَعْده ، والذين يظنُّون أنهم يسيطرون على كُلِّ الحياة يُفاجِئهم زلزال فيهدم كل شيء ، على الرغم من التقدُّم فيما يُسمّى " الاستشعار عن بُعْد " وغير ذلك من فروع العلم التطبيقي . وفي نفس الوقت نرى الحمير التي نتهمها بأنها لا تفهم شيئاً تهُبُّ - هي والماشية - من قبل الزلزال لتخرج إلى الخلاء بعيداً عن الحظائر التي قد تتهدم عليها ، وفي مثل هذا التصرُّف الغريزي عند الحيوانات تحطيمٌ وأدبَ للغرور الإنساني ، فمهما قاده الغرور ، وادعى أنه مالك لناصية العلم ، فهو ما زال جاهلاً وجهولاً . وكذلك نجد مَنْ يقول عن البلاد المُمطرة : إنها بلاد لا ينقطع ماؤها ، لذلك لا تنقطع خُضْرتها . ثم يصيب تلك البلاد جفافٌ لا تعرف له سبباً ، وفي كل ذلك تنبيهٌ للبشر كي لا يقعوا أسْرى للغرور . ويقول سبحانه من بعد ذلك ضارباً لهم المثل : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ … } .